إنحلال الطبقات ونهاية التاريخ (2/2)


فؤاد النمري
2020 / 3 / 7 - 20:17     

لما كانت كل الأحداث التاريخية تستبطن النقيضين، فالثورة الإشتراكية البلشفية التي نقلت العالم إلى مسار جديد هو مسار الشيوعية حيث تنعدم الطبقات واستغلال الإنسان لأخيه الإنسان، حملت معها نقيضاً لها حذر منه لينين في وقت مبكر فكتب في كتاب "الضريبة العينية" في العام 1921 يقول ..
we must expose the error of those who fail to see the petty-bourgeois economic conditions and the petty-bourgeois element as the principal enemy of socialism in our country.
يجب أن نكشف أخطاء أولئك الذين لم يدركوا بعد الدور الإقتصادي الذي تلعبه البورجوازية الوضيعة والتي هي العدو الرئيسي للإشتراكية في بلادنا .
فالجيش الأحمر الذي اضطرت دولة دكتاتورية البروليتاريا الشيوعية لتجييشه للوقوف بوجه العدوان الهتلري الواسع الغادر عاد بعد أن احتل برلين ورفع راية الشيوعية، المنجل والشاكوش، فوق الرايخ الهتلري الثالث، عاد جيشاً "أصفر" يدافع عن تقسيم العمل كطليعة للبورجوازية الوضبعة، يعادي الشيوعية ويستولي على كافة السلطات منتهزا غياب ستالين بعد أن اغتاله رفاقه في المكتب السياسي . برحيل ستالين غدا الجيش هو القوى الرئيسة في المجتمع السوفياتي وليس الحزب الشيوعي الذي كانت الحرب قد عصفت بأركانه الوطيدة ولم يعد إلا ناطقاً باسم سيده وهو الجيش ممثلاً بالمخابرات (KGB) التي كانت تعيّن الأمين العام للحزب الشيوعي منذ أن أسقطت جورجي مالنكوف في سبتمبر ايلول 53 وعينت بدلاً عنه نيكيتا خروشتشوف وجميع من خلفه في الاتحاد السوفياتي وهي ما زالت تعين الرئيس الروسي بدءا ببوريس يلتسن وانتهاء بفلاديمير بوتين .

حكمَ التاريخ، وأحكام التاريخ قاطعة لا تُستأنف، حكم بأن تنهض البروليتاريا الروسية في ثورة اشتراكية تقطع طريق التطور الرأسمالي في روسيا وتدفع فيما بعد الحرب العالمية الثانية بالدول المحيطية لأن تثور وتقطع كل الروابط مع مراكز الإمبريالية لينهار النظام الرأسمال العالمي بقضه وقضيضه في السبعينيات .
مرة أخرى نستعيد بعجب ودهشة بالغين حكمة لينين عندما قال لدى افتتاحه المؤتمر التأسيسي للأممية الشيوعية في 6 مارس آذار 1919 .. "مختلف قضايا شعوب العالم ستتقرر في موسكو" . تنهض البورجوازية الوضيعة بقيادة الجيش "الأصفر" في ثورة مضادة للإشتراكية إثر اغتيال ستالين في الخمسينيات، وبتداعيات ثورة أكتوبر تنهار الرأسمالية العالمية في السبعينيات فتؤول كل السلطات للبورجوازية الوضيعة أيضاً .
منذ انهيار النظام الإشتراكي في الخمسينيات والنظام الرأسمالي في السبعينيات أخذت طبقة البورجوازية الوضيعة – مجازاً توصف بالطبقة – تتورم تورماً سرطانياً إلى أن بلغت قبل نهاية القرن العشرين 75% من قوى العمل في العالم . البورجوازية الوضيعة وصفت بالوضيعة (Petty) لأنها تعمل فقط في خدمة الإنتاج وليس في الإنتاج مباشرة وهو ما يعني أن خدماتها لا تضيف أدنى قيمة للإنتاج – خليك عن أن معظم الخدمات اليوم لا تخدم الإنتاج على الإطلاق .
إذاً كيف يمكن أن تستمر مثل هذه الحالة العارضة وهي أن يوفر عامل واحد أسباب الحياة لثلاثة عمال آخرين يعملون في الخدمات دون أن ينتجوا أدنى قيمة !؟

استمرت هذه الحالة العارضة في العقود الثلاثة الأخيرة على الأقل وقد تستمر لخمس سنوات أخرى أو حتى لعقد رابع على الأكثر – لكن كيف توفر ذلك رغم تعارضه مع طبائع الأشياء، وهي أن يستطيع عامل واحد أن يوفر أسباب الحياة لثلاثة عمال آخرين لا يعملون، بل حياة أفضل من حياته !؟
توفر ذلك فقط من خلال الإعتماد على مقررات أول مؤتمر للخمسة الكبار (G 5) في رامبوييه 16 نوفمبر 75 حيث قرر قادة الرأسمالية الخمسة الكبار إنكار أقدس القوانين الرأسمالية وهو قانون القيمة في مواجهة النظام الرأسمالي المنهار . قرر أولئك الخمسة اللصوص أن القيمة (Value) تتأصل في نقودهم الصعبة آنذاك بعيداً عن الإنتاج البضاعي الذي هو تجارة الرأسماليين والعمال . القيمة الوحيدة التي عرفها الإنسان عبر التاريخ تكمن في أسباب العيش (Subsistences) الناتجة عن تعاون الطبقة العليا التي تمتلك أدوات الإنتاج مع طبقة الشغيلةالذين يعملون على تشغيل تلك الأدوات، والطبقتان في النظام الرأسمالي هما الرأسماليون والعمال . إنكار القيمة البضاعية لإحلالها في النقود بعيداً عن البضاعة هو إنكار للزوم تواجد الرأسماليين والعمال، وهم منتجو البضاعة وكل أسباب الحياة في المجتمع . وتحقيقاً لهذه السياسة المخالفة للشرع وللقانون قررت اللجنة المؤقتة لصندوق النقد الدولي المجتمعة في جمايكا في يناير 76 إلغاء الغطاء الذهبي للنقد الذي يمثل القيمة البضاعية للنقد وترك تحديد القيمة الإسمية للنقد للدولة المعنية . وهكذا تم نزوح فلول الطبقة الرأسمالية من المراكز إلى الأطراف فيما سماه الإقتصاديون البورجوازيون العولمة (Globalization) بمعنى إحياء جديد للنظام الرأسمالي بينما هو في الحقيقة استكمال لانهيار النظام الرأسمالي . وتحول من جهة أخرى حوالي 70% من الطبقة العاملة "البروليتاريا" إلى البورجوازية الوضيعة والعمل الفردي في الخدمات فمثلاً كان تعداد طبقة البروليتاريا في بريطانيا حوالي 32 مليوناً في الخمسينيات وبات اليوم لا يزيد عن 12 مليونا

عندما كانت النقود ذات قيمة كدالة بضاعية في النظام الرأسمالي كان الرأسمالي لا ينفق على الخدمات إلا ما يساعد بضائعه على المنافسة في السوق وعلى ألا يغطي ذلك إلا جزءاً محدودا من فائض القيمة كيلا يحد من أرباحه . لذلك كانت طبقة البورجوازية الوضيعة رقيقة للغاية في النظام الرأسمالي، والنقود التي تعود عليها مقابل خدماتها نقوداً قليلة لكنها وازنة ذات قيمة بضاعية .
أما وأن النقود لم تعد ذات قيمة بضاعية وازنة فليس ثمة ما يحول دون أن تعود نقود كثيرة وبلا حساب على منتجي الخدمات، وأن يتحول الملايين من طبقة البروليتاريا الذين سدت أمامهم فرص العمل، أن يتحولوا إلى بورجوازية وضيعة وإنتاج الخدمات بدل البضاعة حتى وإن لم تضف أدنى قيمة لكنها تعود عليه مع ذلك ضعف ما كان يتقاضاه من إنتاج البضائع .

طبقة البورجوازية الوضيعة تشكل اليوم حتى في أكبر الدول الصناعية ثلاثة أمثال طبقة البروليتاريا وبناء عليه يفترض أن حجم الأجور الني تعود على طبقة البورجوازية الوضيعة هو ثلاثة أمثال حجم الأجور التي تعود على طبقة البروليتاريا . في الحقيقة أنه ستة أمثال على الأقل أو عشرة أمثال على الأرجح بادعاء الإقتصاد المعرفي والإقتصاد الرقمي وما إلى ذلك من ترهات . وبتنا نرى مصانع السيارات تفلس وتغلق أبوابها في الولايات المتحدة مقابل شركات الخدمات مثل المايكروسوفت والفيسبوك وغوغل تراكم ترليونات الدولارات دون أن تنتج سبباً واحداً من أسباب الحياة .

كانت الصيحة الكبرى في النظام الرأسمالي هي إحتجاج الطبقة العاملة على نهب الرأسماليين لإنتاجها مع أنه كان يعود عليها 75% منه على الأقل ولا يحصل الرأسماليون إلا على 25% ينفقون جزءاً منه على شراء الخدمات الضرورية للإنتاج . لكن ما يعود على الطبقة العاملة اليوم ليس أكثر من 15% أو حتى 10% ومع ذلك لم تعد تُسمع مثل تلك الاحتجاحات في مراكز الرأسمالية الكلاسيكية حيث لم يعد للإنتاج الرأسمالي دور ملحوظ في حياة المجتمع . مع تواري الإنتاج الرأسمالي تتوارى طبقتا الرأسماليين والعمال وينعدم أو يكاد التناقض الرئيس . وهكذا يفشل التناقض الرئيس في الثورة وهو استثناء وارد في الديالكتيك الماركسي أشار إليه ماركس في نهاية النظام العبودي في روما 476 م .

ما يتوجب تأكيده في هذا السياق هو أن انعدام القيمة البضاعية الثابتة والمعلومة مسبقاً للنقد يعني أول ما يعني إنعدام النظام الرأسمالي، فالرأسمالي يغامر بتوظيف أمواله لتعود علية مضافاً إليها فيمة إضافية (Surplus Value) . موضوع المغامرة الرأسمالية هو النقد، النقد الثابت المعلوم القيمة . الدولار اليوم، وقد بات غطاء مختلف نقود العالم بدل الذهب، لم يعد نقداً ثابت القيمة وهو في تدهور لا يتوقف . تنفق الولايات المتحدة سنويا أكثر من 15 ترليون دولاراً على إنتاج الخدمات التي لا قيمة تبادلية لها وهو ما يعني مباشرة أن قيمة الدولارات المنتشرة في مختلف أقاصي المعمورة تهبط قيمتها كل سنة بمقدار ما تنفق الولايات المتحدة على إنتاج الخدمات . لذلك كان غرام الذهب في السبعينيات بدولارين وهو اليوم بستين دولارا . في ظل هذه المظلة الدولارية المنكمشة باستمرار لا يمكن أن يستظل تحتها أي مغامر رأسمالي . مظلة الدولار تغطي كذلك الأطراف التي نزح إليها بعض الرأسماليين
بانعدام الرأسماليين تنعدم البروليتاريا بالمعنى العلمي للكلمة على الأقل وتبعاً لذلك ينعدم الصراع الطبقي فاليورجوازية الوضيعة ليست شريكاً في الإنتاج الرأسمالي وليس العمال أو الرأسماليين شركاء في إنتاج الخدمات .

أمام مثل هذه الحقائق على الأرض يصعب على الشيوعيين المفلسين والماركسيين المنحرفين فهمها والبناء عليها . مثلما يصعب عليّ أيضاً أن أرى أن التاريخ قد تجاوز ماركس بمعنى من المعاني وكأن البورجوازية الوضيعة وليست البروليتاريا هي التي ستعبر بالبشرية إلى الشيوعية بعد أن تمحو الطبقات وتمحو نفسها تبعاً لذلك وتنهي الصراع الطبقي كما تلغي النقود ونحن نستشعر كل هذه المناحي في مثل هذا العصر الطارئ على التاريخ .