رأس المال: الفصل الثامن/ يوم العمل


كارل ماركس
الحوار المتمدن - العدد: 6476 - 2020 / 1 / 29 - 09:50
المحور: ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية     


أولا – حدود يوم العمل
لقد انطلقنا من الافتراض بان قوة العمل تباع وتشترى بقيمتها. وتتحدد قيمتها، شأن قيمة جميع السلع الأخرى، بوقت العمل الضروري لإنتاجها. وإذا كان إنتاج وسائل العيش الوسطية اليومية للعامل يستغرق 6 ساعات، فينبغي عليه أن يعمل، بالمتوسط، 6 ساعات كل يوم لإنتاج قوة عمله اليومية أو لإعادة إنتاج القيمة التي تقاضاها لقاء بيع قوة العمل هذه. وعلى هذا فالجزء الضروري من يوم العمل يبلغ 6 ساعات، وهو مقدار محدد إذا بقيت الظروف الأخرى ثابتة. غير أن ذلك لا يعني أن حدود يوم العمل معينة بعد.
لنفترض أن المستقيم (آ ___________ ب) يمثل أمد وقت العمل الضروري، وليكن هذا 6 ساعات، فإذا مدد العمل لمدة ساعة واحدة أو ثلاث ساعات أو ست ساعات وراء حدود (آ ب)، حصلنا على ثلاثة مستقيمات مختلفة:

يوم العمل الأول آ |__| ب _______|ج يوم العمل الثاني آ |_________|ب__|ج

يوم العمل الثالث آ |_____|ب_____|ج
وهي تمثل ثلاثة أيام عمل مختلفة تتألف على التوالي من 7 ساعات و9 ساعات و12 ساعة. إن الخط (ب ج) الذي تمدد به (آ ب)، يمثل طول العمل الفائض. وبما أن يوم العمل يساوي (آ ب +ب ج)، أي (آ ج)، فإنه يتغير تبعا للمقدار المتغير (ب ج). ولما كان (آ ب) مقداراً معيناً، فإن نسبة (ب ج) إلى (آ ب) يمكن أن تقاس دائماً. فهذه النسبة في يوم العمل الأول هي 1/6، وفي يوم العمل الثاني هي 3/6، وفي يوم العمل الثالث 6/6 من (آ ب). ثم، بما أن النسبة: وقت العمل الفائض/ وقت العمل الضروري، تحدد معدل فائض القيمة، فإننا نحصل على هذا المعدل من خلال استخراج نسبة (ب ج) إلى (آ ب). وهي في أيام العمل الثلاثة المختلفة أعلاه تبلغ على التوالي 3/3، 16%، 50%، 100%. من جهة أخرى، نجد أن معدل فائض القيمة، لوحده، لن يعطينا مقدار يوم العمل. فلو كان هذا المعدل 100%، مثلا، فإن يوم العمل قد يتألف من 8 أو 10 أو 12 ساعة ولربما أكثر.
وكل ما يشير إليه هذا المعدل أن وقت العمل الضروري ووقت العمل الفائض متساويان في المقدار، لكنه لن يشير إلى طول كل من هذين الجزءين المكونين ليوم العمل.
إذن فيوم العمل ليس كمية ثابتة بل كمية متغيرة. صحيح أن أحد جزءيه يتحدد بوقت العمل اللازم لإعادة إنتاج العامل ذاته دائمة. بيد أن مقداره الكلي يتغير تبعا لتغير طول أو مدة العمل الفائض. إن يوم العمل، إذن، قابل للتحديد ولكنه في ذاته ولذاته غير محدد (1).

ورغم أن يوم العمل ليس كمية ساكنة بل متحركة، فإنه لا يمكن أن يتغير من جهة أخرى إلا ضمن حدود معينة. لكن حده الأدنى غير قابل للتحديد. وبالطبع إذا جعلنا خط الامتداد (ب ج)، أي العمل الفائض = صفراً، حصلنا على حد أدنى. ونعني به ذلك الجزء من اليوم الذي يجب على العامل، بالضرورة، أن يعمل خلاله بغية الحفاظ على وجوده. غير أن العمل الضروري لا يمكن له، في ظل نمط الإنتاج الرأسمالي، أن يشكل إلا جزءا من يوم العمل، ويوم العمل هذا بدوره لا يمكن أن يختزل إلى هذا الحد الأدنى. من جهة أخرى ثمة حد أقصى ليوم العمل. فهو لا يمكن أن يمدد إلى أبعد من نقطة معينة. وتخضع هذه الحدود القصوى إلى شرطين. الشرط الأول هو الحدود الجسدية لقوة العمل. فخلال اليوم الطبيعي المؤلف من 24 ساعة لا يستطيع الإنسان أن ينفق سوى كمية معينة من قوته الحيوية. وعلى غرار ذلك لا يستطيع الحصان أن يعمل أكثر من 8 ساعات كل يوم. وينبغي لهذه القوة، أن تخلد إلى الراحة والنوم في أثناء جزء من اليوم، كما ينبغي للإنسان أن يشبع حاجاته الطبيعية، من الطعام واللباس والاغتسال في أثناء جزء آخر. وإلى جانب هذه الحدود الطبيعية البحتة، يواجه تمديد يوم العمل حدوداً معنوية. فالعامل بحاجة إلى وقت لإشباع حاجاته الذهنية والاجتماعية، لكن حجم وعدد هذه الحاجات مرهون بالمستوى العام للرقي الحضاري. وعليه فإن تغيرات يوم العمل تتذبذب ضمن حدود طبيعية واجتماعية. ولكن لهذين الحدين المقيدين ليوم العمل مع طبيعة مرنة جداً، ويسمحان بأكبر قدر من حرية الحركة. وهكذا نجد أيام عمل مؤلفة من 8 أو 10 أو 12 أو 14 او 16 أو 18 ساعة، أي أيام عمل متباينة في الطول أشد التباين.
لقد اشترى الرأسمالي قوة العمل حسب قيمتها اليومية. ومن حقه استخدام قيمتها الاستعمالية خلال يوم عمل واحد. وقد اكتسب، بذلك، حق إلزام العامل في العمل لحسابه على امتداد يوم واحد. لكن ما هو يوم العمل؟ (2) إنه في جميع الأحوال أقل من يوم طبيعي. بكم؟ إن للرأسمالي وجهة خاصة في النظر إلى هذه الجزيرة النهائية (*1)، إلى هذا الحد الضروري ليوم العمل. وهو، بصفته رأسمالياً، ليس إلا رأسمالاً في إهاب شخص. فروحه وروح رأس المال شيء واحد. ولكن ليس لرأس المال سوى حافز واحد في الوجود، هو النزوع إلى إنماء القيمة، خلق فائض القيمة، وجعل جزءه الثابت، أي وسائل الإنتاج، يمتص أكبر قدر ممكن من العمل الفائض (3). إن رأس المال عمل میت، وهو كمصاص الدماء، لا يعيش إلا على امتصاص العمل الحي، ويزداد حيوية كلما ارتشف المزيد. إن الوقت الذي يعمل خلاله العامل، هو الوقت الذي يستهلك الرأسمالي خلاله قوة العمل التي اشتراها منه (4). وعندما يستهلك العامل ما بحوزته من الوقت لنفسه فإنه يسرق الرأسمالي (5).
هنا يلجأ الرأسمالي إلى قانون تبادل السلع. إنه يسعى، شأن بقية الشارين، لأن ينتزع من القيمة الاستعمالية لسلعته أكبر فائدة ممكنة. وبغتة، يهدر صوت العامل، بعد أن كان ضائعاً في زوبعة الإنتاج وصخبه:
إن السلعة التي بعتك إياها تتميز عن جمهرة السلع الأخرى في أن استخدامها بخلق قيمة، بل يخلق قيمة أكبر من قيمتها هي. ولهذا السبب اشتريتها أنت. وما يبدو بنظرك نمواً تلقائياً في قيمة رأس المال هو بالنسبة لي إنفاق إضافي لقوة العمل. أنت وأنا لا نعرف في السوق غير قانون واحد، هو قانون تبادل السلع. فاستهلاك السلعة لا يخص البائع الذي ينفصل عنها، وإنما يخص الشاري الذي يحصل عليها. إن استخدام قوة عملي اليومية، إذن، ملك لك. ولكن ينبغي لي، بواسطة الثمن الذي تدفعه لقاءها كل يوم، أن أستطيع إنتاجها مجددا وبيعها ثانية. وبغض النظر عن الفناء الطبيعي من جراء التقدم في السن، وغير ذلك، علي أن أكون في الغد قادراً على العمل بمثل ما أنا عليه اليوم من حيوية طبيعية وعافية ونشاط. إنك تعظني دائما بإنجيل «التوفير» و”الزهد”. حسنا! أود بصفتي مالكاً حكيماً ومقتصداً، أن أرعى ثروتي الوحيدة، قوة العمل، وأحجم عن أي تبديد طائش لها. ولن أنفق، أو أحرك، أو أبذل منها في العمل إلا بمقدار ما يتلاءم مع حياتها الطبيعية ونموها السليم. ويمكنك بتمديد يوم العمل من دون قيد، أن تحرك في يوم واحد كمية من قوة عملي تفوق ما يسعني التعويض عنه في 3 أيام. وما تكسبه أنت من عمل أخسره من جوهر العمل، جسدي. إن استخدام قوة عملي شيء وإتلافها شيء آخر. فإذا كان المتوسط الزمني لحياة العامل الوسطي، حين يؤدي قدراً معقولا من العمل هو 30 عاما، فإن قيمة قوة عملي التي تدفع لي ثمنها من يوم لآخر تساوي 30×365/1 = 10950/1 من قيمتها الكلية. ولكن إذا رحت تستهلكها في 10 سنوات، فإنك تدفع لي كل يوم 10950/1 عوض أن تدفع 3650/1 من قيمتها الكلية، معنى ذلك أنك لا تدفع إلا ثلث (1/3) قيمتها اليومية، إذن فأنت تسرق مني كل يوم ثلثي (2/3) قيمة سلعتي.
إنك تدفع ثمن قوة عمل يوم واحد، بينما تستهلك قوة عمل 3 أيام. وهذا مناقض للعقد المبرم بيننا، وخرق لقانون تبادل السلع. وعليه فإنني أطالب بيوم عمل ذي مدة طبيعية، أطالب به من دون التماس شفقة قلبك، ففي شؤون المال، لا مكان للعاطفة. قد تكون مواطناً نموذجياً، ولربما عضواً في جمعية الرفق بالحيوان، وقد تفوح منك نفحة القداسة علاوة على ذلك، بيد أن الشيء الذي تمثله لي، وجها لوجه، لا يحمل قلبا بين الضلوع. وذلك الذي يبدو أنه ينبض فيه إن هو إلا خفقات قلبي. إنني أطالب بيوم عمل اعتيادي لأنني أريد قيمة سلعتي أسوة باي بائع آخر (6).
وهكذا نرى أنه، عدا عن حدود مرنة للغاية، فإن طبيعة تبادل السلع نفسها لا تفرض أي حد ليوم العمل، وأي حد للعمل الفائض. إن الرأسمالي يتمسك بحقوقه کشارٍ، حين يسعى لتمديد يوم العمل إلى أقصى حد ممكن، وجعل يوم العمل الواحد يومين حيثما أمكن. من جهة أخرى نجد أن الطبيعة الخاصة للسلعة المباعة تفرض حدوداً على استهلاك الشاري لها، فالعامل يتمسك بحقه كبائع حين يرغب في تقليص يوم العمل وحصره في مدة طبيعية معينة. ثمة إذن تعارض حقوقي، حق إزاء حق، وكلاهما يحمل ختم قانون تبادل السلع. وبين الحقوق المتساوية، لا حاكم غير القوة. من هنا فإن تحديد معيار يوم العمل يبدو، على امتداد تاريخ الإنتاج الرأسمالي، بمثابة نتيجة للصراع، صراع بين رأس المال الجماعي، أي الطبقة الرأسمالية، والعامل الجماعي، أي

الطبقة العاملة.

________________________

(1) – “يوم عمل، شيء غامض، فقد يكون طويلا أو قصيراً”. (بحث في الصناعة والتجارة: يتضمن ملاحظات عن الضرائب، إلخ، لندن، 1370، ص 73).
(An essay on trade and commerce: containing observations on Taxes, etc., London, 1770,p. 73).
(2) – هذا السؤال أهم، بما لا يقاس، من السؤال الشهير الذي وجهه السير روبرت بيل إلى غرفة تجارة برمنغهام: ما هو الجنيه الإسترليني؟ (?What is a pound) وما كان روبرت بيل ليثير هذا السؤال إلا أنه كان جاهلا بطبيعة النقد شأن “رجال الشلن الصغير” في غرفة تجارة برمنغهام (*).

[(*) “رجال الشلن الصغيرة” في برمنغهام، هم أصحاب نظرية نقدية خلال النصف الأول من القرن التاسع عشر. وكان أنصار هذه النظرية يدعون إلى فكرة الوحدة النقدية المثالية، وعلى ذلك فكانوا يعتبرون النقد مجرد وحدة حسابية. وكان الأخوان توماس وماتيوس أتوود، وسبونر وغيرهم من أتباع هذه النظرية، قد تقدموا بمشروع التخفيض ما تحتويه العملة الإنكليزية من ذهب، وقد سمي ذلك بـ “مشروع الشلن الصغير”، ومن هنا جاء لقب تلك المدرسة أيضا. وكان من رأيهم أن تطبيق نظريتهم سيؤدي إلى ارتفاع مقصود للأسعار، وبالتالي سيسهم في إنعاش الصناعة وازدهار البلاد عموما. لكن ما اقترحوه من تخفيض لقيمة العملة كان من شأنه في التطبيق أن يؤدي إلى تخفيف أعباء الدولة ورجال الأعمال، وهم المستفيد الأكبر من القروض. وقد تحدث ماركس عن هذه المدرسة في كتاب: مساهمة في نقد الاقتصاد السياسي. ن. برلین].
(*1) حرفياً (Ultima Thule) جزيرة تولة القصوى التي كان يعتبرها الرومان نهاية العالم. [ن. ع].
(3) – “إن غاية الرأسمالي هي أن يحصل، بواسطة رأس المال المنفق، على أكبر كمية ممكنة من العمل،D ‘obtenir du capital dépensé la plus forte somme de travail possible.
(ج . غ . کورسیل – سينوي، أطروحة نظرية وعملية في المؤسسات الصناعية، الطبعة الثانية، باريس، 1857، ص 62).
(4) – “إن ضياع ساعة عمل واحدة في اليوم يصيب الدولة التجارية بضرر فادح”… “وثمة استهلاك كبير للكماليات عند فقراء العمال في هذه المملكة، وخصوصا عند جمهرة العاملين في الصناعة، حيث يبددون وقتهم وهو أشد أنواع الاستهلاك شؤماً”. (بحث في الصناعة والتجارة، إلخ، [1770]، ص 47 و153).
(An Essay on Trade and Commerce, etc., [1770], p. 47 & 153).
(5) – “إذا نال الأجير المياوم، الحر، لحظة راحة، فإن الاقتصادي البخيل الذي يتابعه بعين القلق يزعم أنه يسرقه”. (ن. لينغيه، نظرية القوانين المدنية، إلخ، لندن، 1767، المجلد الثاني، ص 466.
N. Linguet, Théorie des Lois Civiles, etc., London, 1767, V. II, p. 466
(6) – في أثناء الإضراب (Strike) الكبير لعمال البناء (builders) في لندن خلال عامي 1860 – 1861، من أجل تقليص يوم العمل إلى 9 ساعات، اصدرت لجنة الإضراب بيانا يحتوي على وجه التقريب، على مرافعة صاحبنا العامل أعلاه. ويشير البيان، إشارة لا تخلو من التهكم، إلى نكرة اسمه السير م. بينو، وهو أكثر مقاولي البناء (building masters) جشعاً للربح، قائلا إنه يفرح برائحة القداسة. (هذا النكرة بينو نفسه حل به الخراب بعد عام 1867 كما حصل مع شتروسبرغ!).