أين الغيرة يا ناس ؟


ييلماز جاويد
2019 / 10 / 29 - 23:24     

أذكر وسائل الإعلام في فترة الحرب العالمية الثانية ، والتي كانت تقتصر على ما يذاع في المذياع (الراديو) فيخرج علينا مقدّم الأخبار ويفصّل ما كان يدور من معارك بين القوات الألمانية الهتلرية وبين الجيش الأحمر أناءَ محاولات هتلر إحتلال الإتحاد السوفييتي والقضاء عليه . كان المذيع ينهي النشرة الإخبارية بقوله " كل شيء هادئ في الجبهة الغربية " والمقصود بالجبهة الغربية جبهة الحرب بين القوات الهتلرية وبين قوات الدول الغربية بضمنها الولايات المتحدة الأمريكية.
كان من السهل تبرير موقف الدول الغربية الرأسمالية التي كانت تعتبرإنتصار هتلر على الإتحاد السوفييتي نصراً لها وتحقيقاً لمصالحها ، وهي تفكر أن القوات الألمانية حتى وإن إنتصرت على الإتحاد السوفييتي فإنها تخرج من الحرب ضعيفة واهنة القوى يمكن كسرها والإنتصار عليها. لقد كان موقف الدول الغربية موقفاً أنانياً ، و بالطبع فإن الأنسانية وحتى جميع الأعراف الأخلاقية ليس لها موقع في مقاييس المصالح الدولية !
في الأول من تشرين الأول (أكتوبر) 2019 إنفجر البركان الشعبي العراقي بتظاهرات سلمية رافعة شعارات مطالب مشروعة مرتبطة بحياة أبناء الشعب من ضمان المأكل والمشرب والخدمات الحياتية الضرورية والعمل للعاطلين والسكن للذين لا يملكون مأوى ودواء للمرضى وحليباً للأطفال . إنفجر البركان الشعبي بعد ممارسات نضالية عديدة لسنوات طوال كانت الفئة المتحكمة بالسلطة تقدّم فيها الوعود بتلبية المطالب ثم تنكث ، وفي كل مرّة كانت تعيد نفس الفصول بأن تحاول شريحة من السلطة ركوب موجة إحتجاجات الشعب ثم تهادن وتُسقط بيد الجماهير التي إنخدعت بها حتى فقدَت الجماهير ثقتها كلّيّاً بجميع الأحزاب وجميع السياسيين ووعودهم فهبّت هبة رجل واحد دون الإتكاء على أي " سند " من تلكم السياسيين وأعلنتها إنتفاضة شعبية سلمية عارمة تحت ظل العلم العراقي فحسب رافعة مطالبها المشروعة دون مؤاربة أو إخفاء .
كان من الطبيعي أن تعتبر الفئة المتسلطة على الحكم هذا الإنفجار الشعبي تهديداً لها ولوجودها ، و لا أحصر هذا التشخيص بالفئة المسماة حالياً بحكومة عادل عبد المهدي بل كل الفئات التي تسلّطت على الحكم منذ ستة عشر عاماً ، والتي إغتنت دون وجه حق فإختلست المال العام وظلمت الشعب وفرّقت صفوفه ، وبإسم الديمقراطية والمساواة أصبح بعض الناس أكثر مساواة من غيرهم ، فالفاسدون السارقون متساوون في أنهم فوق القانون والموظفون الصغار الذين لا تكفي رواتبهم لتأمين لقمة العيش لأطفالهم أو الدواء لمرضاهم متساوون أيضاً ويساقون إلى المحاكم فقط لتلقيهم بعض الرشاوى البسيطة .
لقدعالجت الفئة الحاكمة تظاهرات الجماهير الشعبية بالحديد والنار وخراطيم المياه الحارة والقنابل المسيّلة للدموع حتى سقط ما يقارب المائة والخمسين شهيداً و جرح الآلاف في الأيام الأولى من بدء التظاهرات مما أثار ردود أفعال تشجب وتندد بهذه الجرائم ليس في المحيط المحلّي فحسب بل حتى على مستوى الرأي العام العالمي ومنظمات الدفاع عن حقوق الإنسان وحكومات عديدة للدول التي تحترم الإنسان وحقوقه . لقد صادف أن يكون الإنفجار الشعبي في فترة لها مكانة مقدّسة لدى أبناء الشعب العراقي وهي مناسبة أربعينية سيّد الشهداء الحسين بن علي (ع) ، وكذا البيان الذي صدر عن المرجعية الدينية العليا في النجف التي أدانت العنف الذي أستخدم ضدّ المتظاهرين وإمهلت الحكومة خمسة عشر يوماً لتلبية مطالب المتظاهرين كما وحددت الجماهير المنتفضة يوم الجمعة الخامس والعشرين من تشرين الأول 2019 موعداً للتظاهرفي حال عدم تلبية مطالبها ، ولكن الفئة المتسلطة على الحكم سوّفت الوقت كله بإدعات فارغة ومحاولة التنصل من تلك الجرائم ورميها في عهدة مندسين والتعكز على حصول ضحايا من القوات المسلحة أيضاً مما إعتبرته " دليلاً " على براءتها من تلك الجرائم ، أو يخرج علينا مسؤولون يدعون بوجود مؤامرة ليستبقوا الأحداث ويبرروا جرائمهم الجديدة لمواجهة "مؤامرة" تخيّلوها .
إنطلقت الجماهير في تظاهراتها السلمية يوم الخامس والعشرين وكانت الفئة الحاكمة قد أعدت خطة لمواجهتها بالعنف ، على الرغم من إعلانها عكس ذلك ، فسقط لحد الآن أكثر من وأربعين شهيداً وما يزيد على الألفي جريح ، على الرغم من إعلان حالة منع التجوّل في كثير من المدن العراقية ولأوقات مختلفة . هذه الحالة لا زالت مستمرّة وستدوم بينما المتظاهرون يملأون الشوارع والفوات المسلحة الرسمية منها أو الميليشياوية من جميع أصنافها وتنوّع إنتساباتها تحصد أجسادهم وتزيد من إعتقال النشطاء منهم أو حتى إختطاف بعضهم وأخذهم إلى جهات مجهولة .
كلُّ هذا يحدث في بغداد والمحافظات الوسطى والجنوبية من العراق ، وإن كنا سمعنا تصريحات لبعض السياسيين من محافظات الأنبار وصلاح الدين والموصل تبريراً لسكوتهم أن لا يجلب إنحيازهم للمتظاهرين تهمة الإنتساب أو الحنين إلى العهد السابق إلاّ أنّ الشي المريب والعجيب هو السكون المطبق في محافظات الإقليم وفي كركوك ، فكلّ شيء هادئ في تلك الجبهة !
إن كانت جريمة قتل أربعة شهداء على الجسر عام 1948 قد أثارت غضب الشعب العراقي من شماله إلى جنوبه ومن شرقه إلى غربه وأدّت إلى سقوط حكومة صالح جبر ، أفلا يكفي قادة الكرد سقوط ما يقارب المائتي شهيد و ما يقارب العشرة آلاف جريح وآلاف المعتقلين أن تهز عندهم شعرة من الغيرة فيقفوا مع الشعب العراقي بدل وقوفهم مع القتلة والفاسدين ؟ قد يكون بعض الكرد قوميين شوفينيين وتكون أولويتهم محصورة بقومهم ، ولكن كردستان العراق حتى وإن إنفصل وتحقق حلم دولة كردستان فإنها تبقى محاددة إلى دولة العراق ويبقى الكثير من الكرد مختلطين مع عراقيي الوسط والجنوب دماً ونسباً وعلاقات إجتماعية غير قابلة للإنفصام . تُرى أنا ككردي متزوّج من عربية من الناصرية كيف لي أن أفسر لأولادي وأحفادي السبب لقتل خالاتهم وأخوالهم في شوارع مدن الوسط والجنوب وكيف حال أخواتي وعمّات وأعمام أطفالهم يقتلون ، وقادة الأكراد يتفرجون أو حتى يقفون مع القتلة ويؤيّدونهم ؟ لم يكن ، في عرف الكرد ، يوماً القبول بالذلة والهوان ، فالشيخ محمود الحفيد رحمه الله وقف مع الشعب العراقي في ثورته بل وقد وقف الكرد وقادتهم بدون إستثناء صفّاّ واحداً مع الشعب العراقي في محنه جميعها وقدّموا التضحيات الجسام في سبيل درء الضرر عنهم كما وقف أبناء العراق في جميع أنحائه للدفاع عن حق الكرد ضد الحكومات التي إستخدمت العنف والقوة العسكرية لوأد حركة الكرد التحررية . موقف قيادات الأحزاب الكردية تجاه الشعب العراقي المنتفض إنما هو موقف محرج لكل كردي يخجل في تفسير ما يحدث .
ليست حكومة عادل عبد المهدي ، غير صورة من الحكومات السابقة وما إظهارها وجهاً غير وجهها الحقيقي للقادة الكرد سوى خدعة ولفترة يتمسكون فيها حتى يأمنون ويتمكنون، أي بمعنى أن هذه الحكومة ورئيسها خدم ل " الولي الفقيه " القابع في إيران ، فالحيف كل الحيف أن يكون الكرد مع الذي يبيع العراق .