ماذا تعني ثورة العراقيين ؟


راغب الركابي
2019 / 10 / 28 - 22:52     

 الثورة  هي  مفردة  إجتماعية  سياسية  تُعبر  عن حركة   الشعوب في طلبها للحرية  والعدل  والسلام   ،  وللثورة  سياقات متنوعة ترتبط بوعي الشعوب وحاجتها للتغيير   وتحقيق الأهداف  في الخير العام والسعادة    ،  ولأنها  كذلك  فهي  قيامة   شعب  ضد  الظلم والإستبداد والفساد   ،  وتكون الحاجة إليها  طبيعية  ونفسية  حينما  يعجز الشعب عن تصحيح  أوضاعه  بالطرق  الدستورية  والقانونية   ،  ومفهومها  الشعبي  هذا يرتبط  بكونها   تنطلق من الواقع  وتعبر عنه   ،  وهكذا هي طبيعتها  المادية المنضبطة  بقواعد  إجتماعية  وعرفية  معينة  ،  وهي ليست هي فوضى  أو أن  لا نظام لها   ،  وفي التاريخ  الشرقي  والغربي  حدثت ثورات غيرت وجه الحياة وكان لها أثرا في بناء  الدول والمؤوسسات وساعدت في تنميتها  وتطويرها     .
  والثورة  لا تكون صحيحة  وصادقة  الا اذا قدمت نفسها  بإعتبارها الحل   المنطقي  والواقعي  للمعضل  السياسي  والإجتماعي  والإقتصادي  والثقافي  الذي يعيشه الشعب   ،    والحل  يجب ان يكون عملياً وليس مجرد شعارات وخطب  أو إدعاءات  .
ولهذا  يكون عمل الثوار طويلا  ووممتداً   كذلك  يجب أن تكون  نفوسهم  ،  ولا يحسب المرء في عداد الثوار   إن  لم  يمتلك من الرؤية والحكمة والشجاعة  ما يجعله  عاكساً لتطلعات الناس  وهمومهم   ،    وفي هذا الصدد  تكون  : -   الثورة العراقية  ككونها  ليست بدعاً  من الثورات  التي  حدثت  في التاريخ  بل هي من سنخها  -     ،  لكنها تختلف  بحسب   المواضع   والوضع   العام    ،  وأما  مطالبها  التي  عبر عنها  شباب العراق وشاباته  رجاله ونسائه   بشكل واضح  وجلي  خلال الأيام التي مضت فهي كذلك   ، وفي المقابل  كان هناك  عملا ردئياً   عكس الوجه الحقيقي  لأعداء الثورة  وعكس هذا  الكم الهائل من الخوف  والجبن  ،  حينما  مالوا للسلاح  وقتلوا فيه  الثوار  بدلا  عن التحاور معهم   والإستماع  لمطالبهم  والتعهد  الجازم  بتغيير الحال  على نحو صحيح   فوري وناجز  ومن غير مماطلة أو تسويف   .
إن دماء  الثوار  خير شاهد على عمق المأساة والبون الشاسع بينهم وبين  أعدائهم  من  القتلة والمجرمين  ،  إذ  لم  تكن   ثورة العراقيين داعية للحرب أو القتال  أو داعيةً لذلك  ،  إنما   خرجت  بعفوية  وتلقائية  وعلى شكل تظاهرات  سلمية  من رحم الشعب  ومعبرة عن  همومه اليومية وحاجاته التي لم تجد حلولا مع طول الإنتظار  ،  إن  قوى السلطة  الحاكمة المتعاقبة  لم تستفد من المُهل  ولم  تنفذ  من الوعود  ما كان  يساهم  في  تحقيق  التطلعات  ،  ولم تبدي  السلطة  كثير إهتمام لما يجب أن تقوم به   ،  بل راحت تعاند  وتماطل  وتعمل  على الضد من تلك التطلعات  وزادت  في التسويف  والخداع      ،  وأوغل البعض منهم في السرقات والنهب  والإحتيال والفساد ، ومعاونة الإرهابيين  على  كسر عزيمة العراقيين وهمتهم   .
إن قضية الشعب العراقي متعددة الجوانب والأطراف  ، ولكي تُحل نحتاج إلى عمل عظيم  يتكافأ مع عظم   القضية  وعظم أهدافها وعظم الاخطار المحدقة بالعراق  الشعب  والدولة  ،   ان طموح  الشعب الثائر  كبير جداً  ،   يعبر  عن  طموح إنسان  وادي  الرافدين  ذلك  الإنسان  الأصيل المحب للخير والحياة   ، و المتميز في مجال عمله   والذي كان له الدور البارز  في صناعة الحضارة  والتاريخ البشري   ،  إن تجريد   الثوار من خياراتهم  وحصر  تظاهراتهم  في  المسائل  المعيشية  والوظيفية  ،  تقزيم متعمد  وحرف عن المسار  ،  صحيح إن بعض التظاهرات  مطلبية  وهذا حق    ،  ولكن  لا ينحصر دور التظاهر  في رفع  الحيف الشخصي   كما قد يتوهم البعض ،  ولا هو دفعاً لبعض  الأخطار والظلم  الذي  عمل عليه الأعداء  عبر هذه السنيين الطويلة   .
إن هدف الثوار ليس مجرد الرفض أو الشجب أو التنديد   ،  بل  هو هدف نبيل  تتوضح معالمه :
1 -   في الوحدة الوطنية وإلغاء المحاصصة الطائفية  .
2 -  العمل على صياغة  عقد إجتماعي  وميثاق دستوري جديدين . 
3 -   تغيير الدستور على نحو كلي  ،   والعمل  على تأسيس  وبناء علاقات دولية جديدة سواء مع الجيران أو غيرهم .
4 -   إعادة  صياغة مفهوم  معنى  المواطنة   وتعريف معنى الهوية الوطنية  .
5 – التوكيد على قيم   الشخصية العراقية   وعدم المساس بها وصيانتها  ،  والدفاع عنها في كل المحافل  والمراكز والدول  .
6 -   تغيير خارطة العمل السياسي الحالي بما يتناسب وحجم التطلعات  .
7 -    الفصل الصحيح بين السلطات  والتأكيد على إستقلالية القضاء  وعدم إعتبار القضاة مجرد موظفين تابعين لهذا الطرف أو ذاك  .
8 -   التأكيد  على سيادة القانون  على الجميع   ودون تمييز  .
9  -  العمل  على محو الصورة النمطية  لهذه الديمقراطية المسخة   ، والعمل  الجاد  الدؤوب لبناء عراق ديمقراطي  حر مستقل  غير منحاز  يحتوي الجميع ويعيد لهم عزتهم وكبريائهم  .
10  - إعتبار العراق دائرة إنتخابية واحدة  تؤكد على نفي المحاصصة الطائفية والقومية البغيضة .
  إن هذه القواعد  العشرة  إحتاجت  بطبيعتها  إلى كل هذه  التضحيات  والدماء     ،  ورسالة  العراقي  التي  يقدمها للناس والحياة  من خلالها ،  هو التوكيد  على مبدئية  الثورة  وإنها  ليست مجرد  غضبة شعب  و لكن  لها  ما بعدها  وما يليها   ،  ومن هنا نستنكر بشدة  الأوصاف غير اللائقة  التي يتعمد بعض الإعلام  الحزبي  وصفه  لها   .
نعم  لقد تمكن العراقيون  من طرد المحتل  رغم ضعف الأمكانات  وتقاعس البعض وميوعة البعض  الأخر  ،  تمكنوا من ذلك   بالإرادة والإيمان  وشجعوا  حتى المترددين على  تبني  المبادرات الخلاقة  في هذا المجال  ،  إن مواصلة الشعب  حركته  اليومية   دليل على وعي  راسخ    ،  في أن حلم الدولة العادلة  لن يغادر مخيلتهم يوما ما   ،  ولم تشغلهم عن ذلك  الهدف  حتى  سطوة الإرهاب وما كان يفعله بالناس وبالدولة   .
  لذلك  لم يهدأ هذا الشعب وبقي متمسكاً بخياره الدائم نحو التغيير ،  وفي ذلك المسير  دفع  بسلسلة من الممارسات  و الإعتراضات والمظاهرات التي ملئت شوارع العراق بطوله وعرضه  ،  وهو اليوم أكثر إيماناً وعزيمة على أن التغيير واجب بعد هذا الكم الهائل من الدماء الزكية ،  وأما التراجع أو الوقوف بنصف الطريق فلم يعد ممكناً   ،  ولم تعد  محاولة أعداء الثورة زرع الفتنة  والدس والتشويه  وخلق المبررات والقول  - بنظرية الفراغ  - ، الحكومي والدستوري  وهو فراغ يظنون أنهم هم الأهل في ملئه  وسده  قادرة على ثني الشعب عن هدفه   ،  ولم يعد  الكلام   عن الفراغ  الدستوري  يشغل حيز الثوار أو يعجزهم  عن ممارسة حقهم  في التظاهر ورفع الصوت عالياً   .
إن المنتفعين  والمنافقين  الذين زيفوا الواقع ورسموا هذه الصورة المسخة  للعراق  ، يريدون من ذلك الإمعان في التضليل والنكاية وزيادة في النهب والسلب   ،  إن الشعب يعرف تماما ماذا يريد  ولذلك لا يشغله هذا الكلام الواهن    ،  كما  إن  العالم جميعا يتفق معنا بأن هناك ثمة هوة  شاسعة  بين الشعب وبين  هذه الزمرة  الحاكمة  ،  والعالم  يُقدر همة العراقيين في أخذ زمام المبادرة وتصحيح الأوضاع  ،  إذ  ليس صحيحاً أن يبقى هؤلاء المتخلفين ومن في ظلهم أوصياء ومتحكمين بالشعب  ،  فهؤلاء هم من ضيعوا أموال العراق وطاقاته ، عبر سن مجموعة من القوانين المزيفة   :
أ  -   كقانون رفحا   .
ب  -  وقانون تقاعد أبناء العرب الذين كانوا   في عهد صدام  .
ج  -   وتوزيع أراضي على المهاجرين سواء  منهم  الذين  في الغرب أو إيران  .
وهذه  أبشع  القوانين  التي سنتها  تلك  السلطات التافهة  ، تاركين الشعب وقوآه الإجتماعية من دون حتى ما يسد رمقهم  أو يعينهم  على الحياة   .
وهنا  يخطر على بالي  دوما  تلك الطامة التي أتى بها  -  بريمر -    الحاكم المدني  السيء الصيت   ، و  الذي قسم العراق  إلى طوائف وملل  ،  فأسس للفراغ  الذي يتكلمون عنه اليوم  عبر هذا التشظي في الجسد العراقي الواحد  ،    ان المحتل  ومن على شاكلته  قد   أسسوا  لهذا  الزيف  الذي تشرب  بنفوس البعض حتى أصبح جزءا من ثقافتهم وقيمهم   ،  صار  ويكأنه الشيء  الطبيعي  الذي لا مخرج عنه ولا محيص    ،   من هنا نقول : -  إن الثورة هي القادرة على إعادة قيم الحياة الصحيحة للعراقيين   -   بعد أن داست  عليه  قوى المحتل  وعلى قيمه   فمسختها.
إن شعب العراق بتضحياته  وبدماء أبنائه  قادر إنشاء الله أن يعيد  للعراق بعض ألقه وبعض نوره  ،   صحيح  إنه  في ذلك يقدم الكثير من التضحيات  ويتحمل الكثير من الظلم والعجرفة    ،  ولكن  تلك ضريبة الحرية والعدالة والأمن والسلام   ،  وثمة  ما يوحي  بأن  التاريخ  الإنساني  يعيد إنتاج نفسه من خلال مواقف العراقيين البطلة  هذه ،  المواقف غير الآبهة  بالموت  والمتحدية للمخاطر   ،  وطالما  كان  الهدف نبيل  والغاية عظيمة  تكون المخاطرة ويكون  الإقدام ،  وفي ذلك  نشر  لقيم  الحرية والعدل والسلام  في محيطهم العربي والإسلامي  كله   .
  إن  التاريخ  شاهد  على أن الشعوب التي تتعرض للظلم تكون أكثر قابلية على صنع مستقبلها الزاهر  وإنتاج قيم الحياة الحرة فيها    ،   وستكون تجربة العراق الحديثة  نبراسا للجميع  للذين  يريدون الحياة  والتقدم والإزدهار   ،   وهاهي  لبنان  وتشيلي  يحذوان حذوه  وقد تحركت  شعوبهما  من وحي  حركة العراقيين ووثبتهم       .
 
إن ثورة العراقيين ليست تقليداً للغير   ،  إنما  هي إنتاج معرفي وفكري وثقافي عراقي  خالص  ،  وهذا  إن دل على شيء  فإنما يدل على أن الشعوب الحرة   ذات الحضارة والعمق التاريخي  هي من تصنع الحياة لها وللغير   ، إن  مناصرة هذه الثورة ودعمها  في المستويات الممكنة  هي مهمة واجبة  على  الجميع دون إستثناء    .
 
لقد سمعنا    من البعض  قولاً  سيئاً  يزدري  دماء  العراقيين  ويتهمهم وينعتهم بنعوت شتى منها ، ما يتعلق  بعدم الفهم  وعدم الوعي  وعدم التقدير الصحيح   ومنه ما يتعلق بالإتهام بالعمالة للأجنبي    ،  متناسين  صمود الشعب وجهاده الطويل الذي كان  ضد الدكتاتورية  وحكومة البعث  المنقرض  ،  ومتناسين قدرة العراقيين على الصبر والتحمل والمجالدة    ،  وبدل  أن يخاطبوا الشعب ويكسبوا وده راحوا يحطون من كرامته  ويزيدون في وجعه   ، إن الثورة إذن كانت نتيجة وليست سبباً  ، نتيجة لهذا التراكم  وهذا التعمد في تدمير قيم العراقيين وثقافتهم  ، لذلك لا يبالي العراقي بهذه الأصوات النشاز  ، وسيظل وفياً لقيمه وما هو صحيح وصادق من حاضره وماضية ..