بين أزمة السياسة وتأزم الدين.... العلمانية حل لإشكالية الإنسان المعاصر


عباس علي العلي
الحوار المتمدن - العدد: 6020 - 2018 / 10 / 11 - 20:42
المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني     

في الوقت الذي بزغ فيه نجم العلمانية وأنتصار الفكر الأجتماعي الأقتصادي المعرفي على مدرسة الكهنوت والرؤيا الغيبية نتيجة التناقض المبدئي بين أستاتيكية الفكر الديني وجمودية أفكاره، وبين ضرورات التطور المصحوب بقوة فعل العامل الزمني وتجدد مباني وهيكليات الرؤى التكوينية، وأنتصارا للعقل في قضية تحرره المبدئية في فهمه للتبدلات والتحولات التأريخية وإيمانا بمبدأ التحدي البشري والحتمية التأريخية، التي تؤكد أن كل شيء منفعل بزمانه مهما كانت القيود الوضعية شديدة التماسك، ستنهار المنظومة الفكرية بنفس القوة والمقاومة التي تبديها الأفكار المتحجرة والسلفية التاريخية، لتحل محلها وبشكل غالب ومستقر وأيضا متحرك أفكار مناهضة وتعتمد رؤية الجانب الأخر الذي لا تراه الأفكار القديمة.
من هذا الوضع خرج فجأة وعكس التيار ما يسمى بالتيار السياديني أو مفهوم الإسلام السياسي بقوة، ليكون ظاهرة غريبة كونها جاءت في كردة فعل دفاعية عن أفكار الكهنوت الديني وإثباتا لمقدرتها على الفعل والعمل وأما نقيضا للعلمانية والحداثة، أو ليتحول فعل وجودها إلى قوة ممانعة صادة للمس بالتراث والإبقاء على الحال كما هو عليه والرجوع إلى مفاهيم ميتة لتعيد أنتاجها بقالب مناسب ليكون البديل للخيار الحداثوي أو العلماني، هذه الظاهرة ستساهم في وقت لاحق بكسر القاعدة التي أنطلق منها هذا الفكر ومبرراته التعبوية بين الناس، ليعبر بقوة وينبئ عن نهضة عاصفة ومزلزلة للواقع الإسلامي ككل، للحد الذي تخرج فيه أصوات واقعية تدعوا لموت الدين كاملا أو على الأقل إخفاءه قسريا من الواقع الأجتماعي، لما مثله من إضرار حقيقي في حياة الإنسان المسلم وضرب أسس ومرتكزات وجوده الحر في عالم يضطرد في حصد إنجازاته التي تشبه المعجر الحضاري اليوم.
هذه الظاهرة التي تعني أجتماعيا أن هناك فعل أجتماعي مستفز لمؤسسة فكرية وأجتماعية حاكمة ومسيطرة على الواقع ليس بمقدورها أولا الخروج من دائرة التراث والتاريخ الفكري، وأيضا عاجزة أن تتلاءم مع متطلبات الوجود المستحث نحو السرعة والتحول والتبدل المنطقي المساير لقانون الزمن، المشكلة إذن ليست في العلمانية ولا في مجمل الأفكار الحداثوية وإنما في العقل المسلم الذي لا يعي الضرورات المنطقية، ولا يتقبل فكرة أن الزمن يتحرك وتتبدل في الوقائع، وتنقلب فيه حتى المزاجات الفكرية وطرق التعبير والتدبير والفكر، لذا فإن ظهور هذه الظاهرة الأجتماعية الدينية ليس تعبيرا عن تحدي وما يقال عنه أنه الدين للواقع الوجودي، بل يعني تحدي العقل الديني الذي لا يدرك خطورة دور الدين في الحياة مع ذات الدين وطبيعته الفكرية المجردة الحرة التي تقوم على الخيار الفردي والحرية في الإيمان به.
الأزمة التي تتمثل اليوم في ظهور أفكار تأريخية تنتمي للماضي وتنكر أن الزمن قادر على فرض شروطه، معتقدا أن ما كان صحيحا بالماضي كتجربة يمكن أن يكرره التاريخ عندما يعيد نفسه في كل واقع وخارج أحكام الزمان والمكان، ينظر أصحاب مدرسة الإسلام السياسي على أنهم قادرون على أن يبعثوا من في القبور وأنهم جاهزون في كل مرة أن يجلبوا من التاريخ أبطاله الإسلاميون الأوائل ليواجهوا إشكالية اليوم وبكل ثقة، متناسين أن مقولتهم الأخرى والتي تعتمد على تأسيس خيارهم السياسي بأن (أمرهم شورى بينهم)، بينهم أي بين الأحياء منهم وأن الله لا يبعث من في القبور، الخطاب الرباني خطاب عاقل لمن يعقل ويعي وينتج وقادر على الإستجابة لما كلف به وهنا يكون الحاضر كزمن والمجتمع كواقع هو المعني بالشورى.
هل يعني هذا أن التجربة لا يمكن أن تتكرر بنفس النتائج التي حدثت بالأمس بغض النظر عن الظروف والمعطيات العملية، الجواب نعم لا يمكن أن تتكرر إلا حين تتطابق مقدماتها مع ظروفها مع المنهج ووفق ذات الأليات العملية المساعدة، التجربة التي قادها الإسلام الأول جاءت في ظرفها ومنهجها وألياتها متقدمة زمنيا وفكريا عن فترة الجاهلية والأفكار والأحوال السائدة، جاءت مستجيبة للحتمية التاريخية حبن عجز المجتمع العربي القديم أن ينتج أليات تطور وإنقلاب في واقعه الذي يشبه الهيكل الصامت، هذه الصورة لم تعد موجودة اليوم وحتى واقعنا برغم سلبيته وما فيه من إشكاليات متقدم كثيرا عن التجربة التاريخية تلك، المسلم اليوم يعي أهمية العلم ويحاول أن يساير منهجه ويعرف حقوقه ويناضل من أجلها، ويعلم أيضا أنه متخلف وغير قادر أن يساير كل المجتمع الإنساني في كل ما ينتجه وأنتجه في العصور الحديثة، في حين أن التجربة تعتمد على فكرة الإنطلاق من الصفر وإعادة أنتاج مجتمع خال من قيم فكرية حقيقية وهو عكس ما موجود في الواقع المعاصر.
التجربة التأريخية التي يراد لها أن تتكرر بشقيها الفكري والأجتماعي اليوم غير قادرة أن تبتكر حلولا خارج التاريخ ومطابقة لأستحقاقات اليوم والغد، وما زالت تعتمد نفس المقدمات الهزيلة التي فشلت في الحفاظ على ديمومتها، وتحمل نفس الأفكار التي أنطلقت في عصر كان فيه العلم في مرحلة خمول والدين في أزمة والأخلاق بحاجة إلى تجديد والقيم الأجتماعية طابعها فردي سلطوي يمجد الفرد القوي ولا يمجد قوة المجتمع، لا يمكن لهذه الأفكار أن تتعايش مع عالم بلا حدود وعلم فاق في سرعة تطوره وتبدل قوانينه وقواعده حتى الخيال، ومفاهيم منظمة ومتسقه في عالم الأخلاق والمثل، تتطور يوميا نحو تمجيد وتكريم الإنسان في ظل نظام أجتماعي قوي ورصين يوفق بين ضرورات الضبط ومبدأ الحرية الفردية العامة.
من هنا نستنتج أن فكرة البعث الماضوي وإعادة أستنساخ تجربة خارج حدودها وظروفها بأمل أن تنتج نفس الفكرة التاريخية التي يؤمن البعض بأنها كنت ناجحة، هذا الأمل ليس إلا محاولة من جانب التيار السياديني الهروب للأمام من مواجهة الأستحقاق التاريخي لقضية لا بد من أن تبسط واقعا أخر مختلف ومناقض وفقا لشروط الجدلية الوجودية المنطقية، إنها محاولة عقيمة لا تنتج إلا الوهم مقابل واقع فعلي يسحق بوجوده كل الرؤى والأفكار التي لا تستجيب للزمن ولا تستجيب لحركة العلم الذي يسبق أحيانا حتى الضرورات اليومية، ليقدم حلول مستقبلية تبشر بعالم أكثر حركة وأشد قوة وأربط في مساراته من كل التجربة الماضوية بما فيها القريبة، حتى صرنا نشهد مفاهيم فكرية وفلسفية متوالية في النسق ومتباعدة في خطواتها نحو الغد، من قبيل الحداثة وما بعد الحداثة التي تعتبر في فكر ما بعد بعد الحداثة مجرد ماض وأنتهى.
فهل هنا الدين هو المسئول عن الأزمة البنيوية في الفكر السياسي بأعتباره معطى غير قابل للهضم خارج حدود تجربة الخاصة، أم أن السياسة التي تستند للفكر الديني غير قابلة أن تتحرك خارج ما هو مرسوم نصا وفكرا في قضية الدين والمجتمع، قد يرى البعض أن الفرضين يمكن لهما أن يكونا سببا حقيقيا في الإشكالية التي تعاني منها المجتمعات الإسلامية اليوم على كل الصعد، ولا سيما حين تم ربط الدين بالسياسة في محاولة لإيجاد سياسة راشدة منضبطة تحافظ على المجتمع من جهة وتؤمن من جانب أخر رضا الله وفكرة الفوز الأخروي الذي تعتبر العامل المشترك بين كل الأديان.
الحقيقة المرة التي لا بد أن نظهرها بوجه كل محاولة توفيقية تعتمد المشاعر وتستند إلى فرضيات عاطفية، هي أن الدين برئ تماما من كل ما يثار بالضد أو مع دور الدين في حياة الشعوب، وأن العلة لا تكمن به وبنصوصه وأحكامه بل بالعقلية التي تريد أن تجعل من الدين محور الحياة، وأن تزج به في كل الزواريب والدقائق التفصيلية رغما عن كونه مجرد رؤية فكرية للعقل الفردي، هدفها تهيئة هذا العقل ليقود العالم من خلال تجربة ذاتية تتلمس هدفية الدين وخياراته لإسعاد الناس، دون أن يفرض شروط خاصة أو رؤية كونية ملزمة، الدين يؤمن بخيار الحرية الفردية والأجتماعية للإنسان بأعتبار أنه هو المسئول عن تجربة في خيار من خيارين أما الفوز وأما الخسارة، العقل الديني التاريخي الروائي يعمل على سد النوافذ العقلية ويمنع على الإنسان خوض تجربته، لأنه لا يؤمن به أي بالإنسان الحر كما هو في الفكرة الدينية المجردة، في محاولة منه لغلق كل الأحتمالات أمام التجديد وأمام التجريب، ولأنه محاط بفكرة مهووسة هي فكرة الأنا الأفضل الأنا الأجدر لأني مؤمن فقط بدين ينسب لله لا أكثر.
الفكر الذي يعتمد على بديهيات عنده غير متحققة على أرض الواقع ولا ممتحنة تجريبيا وغير منطقية في خطوطها ومنهجها التطبيقي، ويعتبرها قاعدة لرؤية يراد لها أن تحل إشكالية مزمنة هي بذاتها جزء من هذه الإشكالية، لا نتوقع له أي الفكر هذا أن يتجاوز واقعه وغير قادر أصلا أن يغير الوجود ويتغير تبعا لكل معطى ونتيجة جديدة، مثلا قاعدة (كنتم خير أمة) وعقيدة الفرقة الناجية وحصر مفهوم الحياة بالنظر الكلي لها من زاوية الدين فقط، يجرد هذا الفكر من قدرته على المناورة والتأقلم والإنخراط في عالم يتسم بالتنوع والتعدد وأحترام خيارات الأخر، ويرفض مسألة الفرض والإقصاء ويحارب نظرة العنصرية الفردية التي لا تؤمن بحق الإنسان أن يختار وأن يجرب وأن ينتج وفقا لما في الواقع ولأجل الضرورات، وأحينا حتى خارج دائرة الممكن والمنطقي حين يكون العقل حرا ويعمل لتحقيق حرية الأفتراض العملي.
الإشكالية التي ندينها ويجب العمل على معالجة جذروها البعيدة والعميقة ليست في الدين كما قلنا، ولا في السياسة التي هي في أبسط معانيها تدخل الإنسان بأفضل السبل لحل وسطي بين المأزوم والنتيجة الأقل خسارة والأكثر جدية في معالجة واقع الإنسان ككائن موجود، في وجوده عوارض تنتج طبيعيا من حركته داخل هذا الوجود، الإشكالية إذا في الإنسان حينما يتبرع بعقله ووعيه ويمنحها المكان الغير مناسب ظانا أنه سينجح في كل مرة وفقا لتجربة قديمة، نسيان العقل البشري حقيقة أن الأمس هو غير اليوم بكل التفاصيل وإن تشابه بكونه يوم متكون من أربع وعشرين ساعة هي العلة الأساسية التي تجره دوما للماضي، حين لا يفرق بين يوم مضى نعرفه ويوم معاش نتوقع بعض تفاصيله ويوم قادم لا نعرف أهو مثل اليوم الذي نحن فيه أم أنه قد يكون غير.
الجواب أذن عن السؤال المفتاحي هو أن الإنسان هو من صنع بنفسه ولنفسه هذه الإشكالية، وإن أراد الدفاع عن نفسه وقيمه الثابتة التي يظن أنها بمنئ عن التجديد أو التطوير والتغير، لا دخل إذا للدين من كونيته المجردة ولا العيب في أن نمارس السياسة وفق منظور يحقق لنا أهم الحاجات الإنسانية المستوجبة، ولكن من خلال ربط الواقع العملي وتحدياته لا يمكن لنا أن نجمع بين مثالية عقائدية أرادت للإنسان أن يسمو فوق مفاهيم عدتها خروجا عن الطبيعة والنظام الأصل مثل ردع الظلم وتحقيق العدل وبناء الواقع على قاعدة العمل من أجل الحق والخير، بمنظومة تعتمد على البرغماتية والدفاع عن المصالح وصراع الإرادات التي لا تنتظر بعين الأعتبار للقيم بقدر ما تنظر بعين الفوز والأنتصار.
هذا التناقض بين الدين والسياسة لا يمنع عقلا الإنسان أن يزواج من خلال العقل المؤمن بالمثل ويسعة لها أن يلطف من حدية ومصلحية السياسة، وأن يستخدم هذه المقومات المثالية بمهارة العاقل في تصحيح عالم المصالح والقوة، ليس بفرض الدين كمحرك رئيس في العملية السياسية ولكن من خلال جعل العقل أكثر أتزانا وأشد في تصحيح المسارات العملية بأعتماده على روح المثالية والنزوع إلى أحترام العقل أكثر لنفسه.