ممكنات الديمقراطية في الدول العربية(الحلقة 2)


منذر خدام
الحوار المتمدن - العدد: 5178 - 2016 / 5 / 30 - 21:21
المحور: مواضيع وابحاث سياسية     

ممكنات الديمقراطية في الدول العربية
منذر خدام
(2)
(الديمقراطية وطبيعة المرحلة الراهنة في الدول العربية)
إن سؤال طبيعة المرحلة الراهنة في الدول العربية يتضمن إحالة الديمقراطية إلى شروطها الواقعية ،كما تتحدد في المرحلة التاريخية على أعتاب القرن الواحد والعشرين ،لتبحث عن ممكناتها فيها، وعن الكتلة التاريخية التي يمكن أن تتولى إنجاز هذه المهمة التاريخية.
في ظروف العالم الثالث، وفي ظروف البلدان العربية ،لا يزال سؤال طبيعة المرحلة هو نفسه تقريبا كما طرحته أوربا منذ قرون، وأجابت عنه منذ قرون أيضا. وهو السؤال عينه الذي طرح في الوطن العربي منذ نحو قرن من الزمان ،لكنه لم يجب عنه بعد .
تتحدد طبيعة المرحلة في الوطن العرب بأنها مرحلة وطنية ديمقراطية، يتحدد جوهرها في إزاحة كاملة للبنى الفكرية، والاجتماعية ،والاقتصادية ،الإقطاعية ،أو الكولونيالية من المجتمع،لصالح نشر وتعميم البنى الرأسمالية محلها،كقواعد أساسية لاشتغال النظام.الطابع العام لهذه المرحلة هو الصراع بين الميول والاتجاهات الاجتماعية الوطنية والقومية من جهة، والنزعات الأهلية الماضوية أو الكولونيالية الاغترابية من جهة أخرى .الأولى تؤسس للتقدم بالمعنى التاريخي الحضاري، أما الثانية فإنها تؤسس للاغتراب عن العصر ومتطلباته، وتعزز التبعية وحيدة الاتجاه، أو تبقي بلداننا حبيسة الماضي، وفي كلتا الحالتين تبقيها في دائرة التخلف.
في ضوء ما تقدم يمكن رؤية ثلاث محاور رئيسية تخترق كامل الزمن البنيوي للمرحلة الوطنية الديمقراطية هي التالية:
أ-محور التنمية الاقتصادية: يتطلب إنجاز المهام المتعلقة بهذا المحور تطوير قوى الإنتاج الاجتماعي، وبناء الهياكل الاقتصادية المناسبة، مع مراعاة العلاقات الفنية والتوازنية في داخل الفروع الاقتصادية، أو فيما بينها، وإقامة توازن دقيق ،ومحسوب بين دائرة الإنتاج ودائرة الاستهلاك ،بين رصيد التراكم ورصيد الاستهلاك، وربط الاستهلاك بالقوة الإنتاجية المحلية بالدرجة الأولى، والاستفادة القصوى من مصادر التراكم المحلية والإقليمية والدولية، وتعميم العقلانية الاقتصادية بما يحقق النماء الاقتصادي.إن تحقيق المهام السابقة الذكر سوف يخلق اقتصادا ديناميا مندمجا بالاقتصاد العالمي، ومتفاعلا معه ،على قاعدة التكيف المتبادل يستفيد من الاتجاهات الاندماجية العالمية ويفيدها أيضا.
ب-محور التنمية الاجتماعية والسياسية والثقافية.على هذا المحور تتوزع مهام عديدة متشعبة لكنها مترابطة نذكر منها ثلاث عناوين رئيسة هي:
1-العدالة الاجتماعية 2- الديمقراطية 3- الثورة الثقافية.
لقد لعبت العدالة الاجتماعية على امتداد التاريخ المعروف دورا رئيسا في الصراعات الاجتماعية الطبقية، وسوف تظل تلعب هذا الدور في المستقبل.إنها أحد المحركات الرئيسة للتقدم الاجتماعي ، مع أن شكل الصراع الذي يسببه فقدانها ،والدور الذي يلعبه في التقدم الاجتماعي يختلفان من عصر إلى آخر، ومن مرحلة إلى أخرى من مراحل التطور العام ،أو الخاص بهذا البلد أو ذاك.ما يهمنا التذكير به في هذا الموضع هو أن العدالة الاجتماعية التي تحرك نضال فئات وطبقات اجتماعية عديدة وواسعة في الوطن العربي في المرحلة الوطنية الديمقراطية لا تتطلب بالضرورة إلغاء الاستغلال الناجم عن النشاطات الاقتصادية الطبيعية المطابقة للرواج النظامي لرأس المال، بل إلغاء الأشكال الاستغلالية الطفيلية وتلك التي تتحقق بالوسائل السياسية. إن المطالبة بإلغاء الاستغلال في الرأسمالية مسالة غير منطقية وغير واقعية.
من جانب آخر فإن العدالة الاجتماعية الممكنة في المرحلة الوطنية الديمقراطية مدعوة إلى توزيع القيمة المنتجة الجديدة(الدخل الوطني) بصورة عادلة حسب مساهمة عوامل الإنتاج فيها.هذا يعني إقامة توازن دقيق بين الطبقات والفئات الاجتماعية، الأمر الذي يمكن تحقيقه عن طريق سيادة القانون وتوسيع نطاق الخدمات الاجتماعية التي تقدمها الدولة أو المؤسسات الاقتصادية وتعميم الضمان الاجتماعي واحترام حقوق المواطنين في العمل والحياة وتفعيل منظماتهم المدنية .باختصار لا بد من إقامة توازن دقيق بين مجال العدالة الاجتماعية ومجال التقدم الاجتماعي مع تأمين أرجحية نسبية للتقدم الاجتماعي على أن يتحقق هذا التوازن بالوسائل الاقتصادية من ضرائب وأجور وريوع وأسعار وأرباح وغيرها وهذه الوظائف يمكن أن يقوم بها النقد بامتياز.
العنوان الثاني يتعلق بالديمقراطية وإشاعتها في مختلف مجالات الحياة الاجتماعية.في هذا الصدد يمكن القول دون مبالغة أن إنجاز مهام المرحلة الوطنية الديمقراطية بشكل سليم يتوقف إلى حد بعيد على تعميم الديمقراطية في جميع مجالات الحياة الاجتماعية ،وفي المقدمة منها في المجال السياسي.الديمقراطية كما نفهمها تمثل الأوالية العامة لحل التناقضات في المجتمع وخلق التوليفات المناسبة بينها وإيجاد أفضل تقاطع ممكن واقعيا بين القوى الاجتماعية الفاعلة في التقدم الاجتماعي. إنها المناخ الذي تتنفس فيه مبادرات وإبداعات الشعب وبدونها يكاد يختنق.
العنوان الثالث يتعلق بالثورة الثقافية.الثقافة للتقدم الاجتماعي كالماء للسمك. ليس من ظاهرة اجتماعية إلا ولها إطارها وفضاؤها الثقافيان ولها مقدماتها الثقافية أيضا. من غير الممكن تجاوز أي شيء في الواقع الاجتماعي ،إلا إذا تحقق حد معين من تجاوزه على صعيد الفاعل الاجتماعي، أي حصول تغير مناسب في وعيه يجعله يعرض الموضوع الذي يود تجاوزه كأطروحة أيديولوجية (مشروع) ، ومن ثم يعمل على تحقيقه." لا يغير الله ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم ".ونظرا لأن التغير والتغيير عملية مستمرة في الزمن فإن الثورة الثقافية مستمرة أيضا تغير وعي الناس فتغير واقعهم الاجتماعي في عملية تفاعلية دائرية مستمرة.
ت- المحور الثالث هو المحور الوطني والقومي. على هذا المحور تتوزع مهام تحرير الأرض وتعزيز الوحدة الوطنية وتحقيق الدولة القومية.
إن المسالة القومية ،وفي القلب منها تحقيق الوحدة العربية ،عليها أن تتقدم في جدول الأعمال للحركة الاجتماعية والسياسية العربية ،ليس لأنها حق من حقوق الأمة في قيام دولتها بل لأنها المجال الحيوي للتنمية الوطنية والقومية ،المستقبل هو للتكتلات الاقتصادية والاجتماعية الكبيرة. من خلال ذلك وحده يمكن الحديث عن الاستقلال الوطني والقومي بالمعنى التاريخي، الاستقلال الذي يعيدنا للمساهمة من جديد في الحضارة العالمية كفاعلين لا منفعلين ،نتبادل التأثير والتأثر مع غيرنا من الشعوب.
لا شك أن العقبات التي تحول دون تحقيق الوحدة العربية كبيرة وعديدة. فليست خافية على أحد الميول والنزعات المعادية، والمعاكسة لها ،سواء في داخل كل بلد عربي، أم فيما بين الدول العربية. مع ذلك لا بديل عن الوحدة للحفاظ على مستقبل الأمة وان العمليات الجارية موضوعيا على الصعيد العالمي والعربي سوف تدفع العمل العربي الاجتماعي والسياسي في هذا الاتجاه.
إذا كانت الوحدة العربية ضرورة موضوعية في منطق التاريخ خلال المرحلة الوطنية الديمقراطية يقدمها كمهمة في جدول أعماله ،إلا أنه على ما يبدو لا يطرحها بشكل محدد ولا يشير إلى مداخل أو أولويات معينة كأفضليات لإنجازها، ولا يحدد طريقا معينة لإنجاز كل ذلك.هذا لا يدعو للاستغراب فعملية التوحيد القومي عملية معقدة جدا تتدخل فيها مصالح عديدة منها ما هو محلي ،ومنها ما هو عالمي ،منها ما هو معادي لها بشكل سافر ،ومنها ما هو معادي لها بشكل مستتر، وحتى في أوساط مؤيديها ثمة اختلاف وتباين حولها.
وعلى خلاف الخطاب الوحدوي السابق ،الذي ما كان ليرضى بأقل من تهديم أسس الدولة القطرية ليبني على أنقاضها الدولة القومية،نرى أن الوحدة المنشودة عليها أن تحافظ على الدولة القطرية إلى أجل غير معروف ، وليس من الضروري التكهن به. وان الطريق إلى الوحدة يمكن أن يبدأ بمشروع اقتصادي مشترك بين دولتين أو أكثر، أو بتكتل اقتصادي على شكل سوق حرة أو سوق مشتركة، وصولا إلى تحقيق نوع أو شكل من أشكال التوحيد القومي السياسي. ومما لا شك فيه أن تحقيق الوحدة القومية العربية سوف يستغرق زمنا طويلا قد تسارع إليه بعض الأقطار العربية ،وقد تتباطأ أقطار أخرى، لكن في النهاية لا بديل عن الوحدة القومية إلا الموت الحضاري ،فقاع التاريخ مليء بأنقاض الأمم والشعوب .
بقي أمر واحد في هذا المجال لا بد من التأكيد عليه باعتباره المسرع الأقوى لعمليات التوحيد القومي والكفيل وحده بالمحافظة عليها ألا وهو الديمقراطية. من المعلوم أن الخطاب الوحدوي السابق تعددت اشتراطاته ، مرة يشترط لتحقيق الوحدة تحرير فلسطين ومرة أخرى يشترط لذلك بناء الاشتراكية .. فلم تتحقق الوحدة ولا تحققت اشتراطاتها لسبب بسيط هو أن الخطاب الوحدوي كان فوقيا لم يشرك القوى الاجتماعية صاحبة المصلحة الحقيقية في الوحدة في عملية صنعها والحفاظ عليها.
وعندما نشترط لقيام الوحدة تعميم الديمقراطية (مع أنها يمكن أن تتحقق بدونها ) فلأنها تمثل المناخ الأفضل الذي تعبر فيه ومن خلاله مختلف القوى الاجتماعية والسياسية عن مصالحها الحقيقية وتدافع عنها ومنها مصلحتها في الوحدة. الديمقراطية تجعل الوحدة قريبة من وعي الشعب قائمة على دعائم قوية من المصالح الطبقية والوطنية والقومية.
أما فيما يتعلق بالكتلة التاريخية التي سوف تنجز مهام المرحلة الوطنية الديمقراطية وفي المقدمة منها مهمة الديمقراطية، نقول بإيجاز إنها تشمل جميع طبقات وفئات المجتمع باستثناء الشرائح البيروقراطية والطفيلية والكمبرادورية من البرجوازية. هذا لا يعني أن وعي ضرورة إنجاز الديمقراطية أو العمل الفعلي في سبيلها هو واحد عند مختلف الفئات الاجتماعية، بل على العكس هناك اختلاف بين وواضح في دور كل منها في العملية التاريخية الجارية في سبيل الديمقراطية .اللافت في الموضوع أن البرجوازية التي يعتبر المشروع الديمقراطي هو مشروعها التاريخي هي من أقل الفئات الاجتماعية احتضانا للديمقراطية كمشروع ،بل هي التي تقف، في الغالب الأعم، خلف الأنظمة الدكتاتورية الحاكمة في الدول العربية، تدعمها وتحافظ على استمراريتها. بينما الفئات الأكثر نشاطا في مجال الدعوة للمشروع الديمقراطي والعاملة في سبيله هي الفئات المثقفة والطلاب والشرائح المدينية من البرجوازية الصغيرة.