محاولة استشراف مستقبل النظام الدولي


عبدالله تركماني
الحوار المتمدن - العدد: 5060 - 2016 / 1 / 30 - 04:39
المحور: مواضيع وابحاث سياسية     

محاولة استشراف مستقبل النظام الدولي
بعد التدخل الروسي في أوكرانيا وسورية، ومستجدات بحر الصين الجنوبي، يتجدد النقاش حول مستقبل النظام الدولي ودور القوى الكبرى فيه وعلاقتها مع بعضها البعض ومع الدول الصغيرة. وفي هذا النقاش، تطل من جديد وجهتا نظر استقطبتا الاهتمام خلال العقد المنصرم: أولاهما، تلك التي يعتنقها المدافعون عن الوضع الراهن وعن نظام القطب الواحد الأمريكي. وثانيتهما، تلك التي يتبناها دعاة التعددية الدولية.
ومن أجل استشراف مستقبل النظام الدولي لا يمكن إغفال التحدي الأهم للقوة الأمريكية، المتمثل في الصين وروسيا، اللتين تحاولان معاً مراجعة التاريخ وتقويض المبادئ الأساسية للنظام الدولي القائم، بما في ذلك زعزعة الحدود المستقرة وضرب الشراكات الأمنية الراهنة.
ففيما ضمت روسيا القرم على الجبهة الأوروبية وأقامت قواعد عسكرية في سورية كانت الصين تُسخِّر من جانبها قوتها الاقتصادية والعسكرية للمطالبة بجزر في بحر الصين الجنوبي، مما يشير إلى محاولة إعادة كتابة التاريخ ومراجعة ما استقر منذ الحرب العالمية الثانية.
وإذا تُرك هذا التوجه، دون ضبط ومراقبة، فإننا سنكون إزاء عالم مقسَّم مرة أخرى إلى مناطق نفوذ متضاربة، مع تزايد احتمالات الصراع بين القوى الكبرى.
وإذا كانت السياسة الخارجية الأمريكية قد بُنيت، منذ انهيار الاتحاد السوفييتي، وخاصة في عهدي الرئيس باراك أوباما، على فرضية مفادها أنّ القوى الكبرى تتقاسم مصالح ومخاطر مشتركة، وأنها مع مرور الوقت ستندمج في الاقتصاد العالمي. فإنّ الدرس الأهم للقرن الجديد هو عدم بداهة النظام العالمي الذي تقوده الولايات المتحدة، لاسيما وأنه لا يحظى بدرجة القبول نفسها لدى الجميع.
ويبدو أنّ طبيعة العلاقات التي تربط بين واشنطن وبكين، خاصة سلوك الأولى تجاه الثانية، هي التي تقرر ما إذا كان القرن الحادي والعشرون سوف يكون مسالماً نوعاً ما، أم سيكون مشحوناً بالتوترات والمخاطر الأمنية. فكيف يؤثر صعود الصين، باعتبارها قوة اقتصادية كبرى، على التوازن الاستراتيجي العالمي ؟ وكيف يؤثر صعودها على الهيمنة الغربية العالمية، بما يؤدي إلى تشكيل عالم جديد تماماً خلال القرن الحالي ؟ هذان سؤالان من جملة الأسئلة التي تصدى للإجابة عنها مارتن جاك مؤلف كتاب " عندما تحكم الصين العالم ". وربما كان العنوان الفرعي للكتاب تلخيصاً للاستنتاجات النهائية التي توصل إليها الكاتب: " نهاية العالم الغربي وميلاد نظام دولي جديد ". ووفقاً لأكثر التوقعات تحفظاً، فمن المرجح أن تتقدم الصين على الولايات المتحدة الأمريكية ليصبح اقتصادها الأكبر عالمياً بحلول عام 2027 ولتقود العالم اقتصادياً بحلول عام 2050.
وبالاعتماد على حقيقتين تاريخييتين أساسيتين يشرح المؤلف الأسباب التي تدعو الصين إلى السعي لإعادة تشكيل العالم وفق رؤيتها: أولاهما، أنّ للصين تاريخاً عريقاً وغنياً باعتبارها دولة متحضرة. وثانيتهما، قوة نظام الحكم المركزي في الصين، حيث دأبت السلطات الإقليمية دائماً على طاعة المركز والخضوع له، فضلاً عن شعور نحو 94 % من الصينيين بالانتماء إلى عرقية واحدة هي عرقية " هان ". وغني عن القول إنّ بروز هذا الشعور مجدداً في القرن الحادي والعشرين من شأنه أن يعزز الوحدة الوطنية الصينية، ما يعني منح الصين مزيداً من القوة والشعور بالتفوق.
ومن جهته أدرك القيصر بوتين، على خلفية الأزمة الأوكرانية وما رافقها من فرض العقوبات الاقتصادية ومحاولة تحويل سورية إلى أفغانستان ثانية لهزيمة روسيا، أنّ الهدف الأساسي للإدارة الأمريكية هو الوصول إلى قلب روسيا وتفتيتها إلى دول متعددة. وقد نجحت روسيا في الانطلاق من الدفاع إلى الهجوم، فقامت بتسليح إيران، ووقفت في وجه التدخل الأطلسي في سورية، بل أرست على شواطئ البحر المتوسط معادلة عسكرية جديدة، كما تقاربت مع الصين إلى مستوى التحالف الاستراتيجي، ومدت خيوطها لاصطياد تركيا العضو في حلف شمال الأطلسي، وأقامت تحالف دول " بريكس " الموجَّه أساساً ضد نظام القطب الواحد.
لقد قدمت متغيّرات المشهد الجيو - استراتيجي العالمي إشارات لبعض المحللين للشأن العالمي، جعلتهم يتحدثون عن عودة جديدة إلى الحرب الباردة، لكنها في الواقع مؤشرات على الدخول إلى عالم التعددية القطبية التي ستقطع مع نهج الأحادية القطبية للولايات المتحدة الأمريكية. خاصة أنّ هناك ميل عالمي شديد نحو تعددية جديدة تنهي انفراد قوة بعينها، حتى وإن كانت هذه القوة زعيمة العالم الحر ورافعة لواء الديمقراطية.
فلا يزال من المبكر القول: إنّ العالم عاد إلى أيام الحرب الباردة، وإنّ هناك قطبين يتنافسان على النفوذ فيه. فلا تزال الولايات المتحدة الأمريكية القوة العظمى الوحيدة في العالم، ولا تزال روسيا تحاول استعادة مكانة معينة افتقدتها منذ ما قبل عقدين، وتعتقد أنّ الظروف مؤاتية لتحقيق بعضاً من طموحاتها.
ويبقى السؤال: هل تجيء عودة روسيا الاتحادية إلى منطقة الشرق الأوسط، كدليل مؤكد على نهاية الحقبة الأمريكية التي تغلغلت في المنطقة منذ نهاية الحرب العالمية الثانية ؟

تونس في 30/1/2016 الدكتور عبدالله تركماني
باحث استشاري في الشؤون الاستراتيجية