حول المسألة القومية


محمد علي الماوي
2011 / 2 / 16 - 17:16     


طرح المسألة:
تكتسي المسألة القومية أهميّة بالغة في المستعمرات وأشباه المستعمرات لأنها ترتبط ارتباطا وثيقا بقضيّة التحرر الوطني والنضال الثوري ضدّ الامبرياليّة، لقد عرفت هذه القضيّة سلسلة من التطوّرات الهامة التي ارتبطت بتطوّر أوضاع الإنسانية عموما والتي من أهمها انتقال البشريّة إلى عصر جديد هو عصر احتضار الامبرياليّة وانتصار الثورة الاشتراكيّة.
ومن المعروف أن المسألة القوميّة قد نهضت خلال التطوّر المكتمل للأمم البرجوازيّة خلال القرن التاسع عشر وما قبله، وقد أفضى المسار الحاسم لصعود الرأسماليّة إلى توحيد أجزاء القوميات المشتتة توفيرا للسوق الموحدة وضمانا للتوسع الرأسمالي خاصة في عصر تطوره المشهود، وانتهى هذا الأمر بتشكّل الأمم الحديثة ونشوء دولها القوميّة التي قامت على أنقاض الكيانات الإقطاعية المفككة، ولقد كانت النضالات القوميّة في فترة الصعود الرأسمالي هذه، نضالات تقدّميّة تخدم تحوّل الإنسانية إلى مرحلة أرقى اقتصاديا واجتماعيّا وسياسيا ، مرحلة الانتقال من التشتّت الإقطاعي إلى المركزيّة الرأسماليّة ، وهذا ما جعل مؤسسي الاشتراكيّة العلميّة ماركس وانجلس يقفان منها موقف المساندة ( مساندة توحيد ألمانيا واعتبار مصيبتها هي"التجزئة البغيضة التي تمزّق جسد الأمة" (1) ).
غير أنّ هذا الطابع التقدّمي قد استنفذ بعد تحوّل البرجوازيّة الصاعدة الثوريّة إلى طبقة مستبدّة جلاّدة للشعب، وأخذت تستغلّ المسألة القوميّة والانتماء القومي الواحد لطمس الصراع الطبقي وعرقلة الوعي الطبقي للطبقة العاملة وجماهير الشعب عموما عن إدراك بؤسها ومواجهة أعدائها الطبقيين ، وباتت البرجوازيّة ترفع شعار "الوحدة القومية" ( بين البرجوازيّة والبروليتاريا ) لطمس واقع استغلال البرجوازيين لأبناء قومياتهم من العمال وغيرهم تحت هذا الشعار. وتطوّر الشعار إلى ضرورة الدفاع عن المصالح القومية لتغطية حقيقة الدفاع عن مصالح البرجوازية ، وهو ما بدأ يحصل خاصة عندما تحوّلت الرأسماليّة من مرحلة التنافس الحرّ إلى مرحلة التمركز فالاحتكار. وبدأت الرأسماليّة تتحوّل إلى إمبرياليّة وبدأت القوى الامبريالية تخوض صراعا محموما فيما بينها حول اقتسام العالم وإعادة تقسيمه مما أفضى بالبشريّة إلى حروب لا عهد لها بها وكانت الحرب الامبريالية الأولى أوّل ثمارها الرهيبة. وقد استعملت البرجوازيّة النعرات القومية كغطاء لنزعاتها العدوانيّة وستارا لمصالحها الطبقيّة وهو الستار الذي تغطي به جريمة استعمال ملايين العمال من مختلف القوميات كلغم لمدافع حروبها النهابة بعنوان الدفاع عن الوطن وشرف الأمّة. وهكذا تحوّلت المسألة القوميّة في البلدان الرأسماليّة الامبرياليّة إلى شعار رجعيّ معاد لمصالح الطبقة العاملة والشعب الكادح ومصالح البشريّة . إلاّ أن منظري الامبريالية والبرجوازيّة عموما يحاولون دائما إضفاء المصالح الطبقيّة لأطروحاتهم وتقديمها وكأنها مصالح الإنسانية جمعاء ساعين بذلك للحفاظ على مصالحهم في الوحدة القومية المزعومة وإظهارها كمصالح كلّ الطبقات. لكن على النقيض من ذلك فإن الماركسيّة اللينينيّة تعلن أنها تنطلق من مصالح الطبقة العاملة وجماهير الشعب الكادح في النظر إلى مختلف المسائل وهي تخضع مختلف الظواهر إلى منهجها المادي الجدلي في التحليل الذي يقرّ أن تاريخ المجتمعات منذ انحلال المشاعيّة البدائيّة هو تاريخ الصراع الطبقي الذي يسير نحو تطوّر المجتمعات إلى مرحلة تختفي فيها الطبقات ويزول فيها استغلال الإنسان للإنسان وما من طبقة يمكنها أن تدّعي تبنّي الدفاع عن هذا المسار التقدّمي التحرّري حتّى النهاية عدا الطبقة العاملة التي هي بحكم وضعيتها الموضوعيّة كطبقة مستغَلة ومجرّدة من ملكيّة وسائل الإنتاج والتي تتسلّح بالنظريّة العلميّة والأكثر ثوريّة ليس لها أيّ مصلحة في إيقاف عجلة التاريخ وليس لها ما تخسر سوى قيودها.
وبناء على هذا الواقع فإننا ندرك أنّ انقسام المجتمع إلى طبقات متصارعة هو أشدّ عمقا من انقسام الناس إلى أمم وهذا لا يعني تنكّر الماركسيّة اللينينيّة لأهميّة المسألة القوميّة أو لحركات التحرّر التقدّميّة ، بل إننا نعتبر مسألة الأمّة ـ كغيرها من المسائل ـ حيّة متحرّكة تشهد بداية ونهاية لا يمكن الحكم عليها في المطلق وبغضّ النظر عن ظروف تاريخيّة معيّنة.
وفي قضيّة الحال فإننا نقول أنّ لكلّ طبقة مفهومها للأمّة وأنّ المسألة القوميّة تخدم في مختلف الفترات مختلف المصالح المحدّدة وتتخذ أشكالا مختلفة تبعا للطبقة التي تطرحها والوقت الذي تطرحها فيه. ولذا لا يمكن بحث المصالح القومية بمعزل عن المصالح الطبقيّة، إذ تبيّن الوقائع أنّ ممثلي الحركة القوميّة هم طبقات معيّنة وأنّ النضال الوطني يتضمّن محتوى طبقيّا. وإذا اجتذب هذا النضال عدّة طبقات فذلك لا يعني أبدا أنّ مصالح هذه الطبقات واحدة في المطلق. فكلّ طبقة تشترك في هذا النضال على طريقتها الخاصة ووفق أهدافها الخاصة التي حدّده وضعها في المجتمع. إنّ الأمة مفهوم تاريخي ظهر لأوّل مرّة في عهد الرأسماليّة الصاعدة ولكن العناصر المكوّنة للأمّة ( اللغة والأرض والثقافة ) قد تكوّنت تدريجيّا وذلك منذ المرحلة ما قبل الرأسماليّة ولم تصبح واقعا إلاّ في مرحلة الرأسماليّة ، وهي أمم بورجوازيّة لأنّ البرجوازيّة كانت القوّة الرّئيسيّة الصاعدة وتمكنت من استغلال انتفاضات الفلاحين ودور الطبقات الأخرى في معاداة الإقطاعية ، وحدّدت اتجاه تطوّر وتوطيد الأمّة وطابع هذا التطوّر. ولقد كانت البرجوازيّة مثلما أسلفنا في نضالها ضدّ الإقطاع تمثّل كلّ الأمّة، وفي ذلك العهد كانت مصالح البرجوازيّة تتفق مؤقتا مع مصالح التقّدم التاريخي. لكن هذا العهد ولّى بلا رجعة ـ مثلما تقدّم ـ فإنّ هذه الأمم تحوّلت إلى دول إمبرياليّة وأصبحت بذلك المسألة القوميّة فيها رجعيّة وشوفينيّة وأصبحت تضطهد أمما أخرى. بيد أنّ الأمر يختلف شكلا ومضمونا في المستعمرات وأشباهها خاصة بعد انتصار ثورة أكتوبر ـ تشرين الأوّل ـ 1917. ففي هذه البلدان أعيق تطوّر العديد من الأمم وحالت الامبريالية بالعنف الرجعي دون اكتمال تحرّرها من نير الإقطاعية والتشرذم الإقطاعي ودون تحقيق سوقها القومية الموحّدة ، ودون تحقيق وحدتها السياسيّة، وباتت أمما مضطهدة من جرّاء التدخّل الإمبريالي. ولقد كانت هذه البلدان المتخلّفة مجالا للتوسّع الامبريالي ومحلّ صراع محموم بين مختلف الامبرياليات، إذ كانت " مجالا حيويا" لتوسّع القوى الإمبريالية، فألحقت كلّ واحدة منها أقساما واسعة من العالم واستعملتها في مرحلة أولى كأسواق لمنتجاتها الصناعيّة وكموارد سهلة للخامات والمواد الزراعية زهيدة الأثمان. وطوّرت ذلك فأصبحت مجالا لتوظيفاتها الماليّة المربحة في مرحلة اندماج الرأسمال المالي بالرأسمال الصناعي الكبير ، فكبّلتها بالقروض والفوائض التي جعلتها دولا مستعبدة ماليا للدول الامبريالية المقرضة وأشباه مستعمرات ثم مستعمرات تراوح وضعها بين المستعمرات الاستيطانية والمحميات. ولقد أخذ هذا الاستعمار شكل الاضطهاد القومي. وكان النضال الوطني الذي خاضته الشعوب والأمم المستعمرة على اختلاف أصنافها نضالا مشروعا وتقدّميا معاديا للإمبرياليّة التي تحوّلت إلى لصّ وجلاّد عالميّ. لقد تحوّلت الرأسماليّة إلى "نظام عالمي للنهب الاستعماري للأغلبيّة الساحقة من سكان المعمورة من قبل الدول «المتقدّمة»"(2).
وهكذا انقسّم سكان المعمورة إلى معسكرين: قسم صغير يتكوّن من البلدان الإمبريالية وأكثريّة تتكوّن من البلدان المستعمرة وشبه المستعمرة التي تناضل شعوبها من أجل التخلّص من نير الإمبرياليّة(3). ولقد أعطى هذا التحوّل بعدا جديدا للمسألة القوميّة إذ أننا نعيش في عصر الإمبرياليّة. "ونظرا إلى أنّ الرأسمال المالي للبلدان الاستعمارية قد استعبد الشعوب في البلدان المستعمرة والتابعة فإنّ المسألة القوميّة اتسعت، وبتطوّر الأشياء امتزجت بمسألة المستعمرات. ومن هنا بالذات تحوّلت المسألة القوميّة من مسألة خاصة ، ومن مسألة داخليّة إلى مسالة عامة وعالميّة وأصبحت مرتبطة بتحرّر الشعوب المضطهدة في البلدان التابعة والمستعمرة من نير الامبرياليّة"(4).
لقد أضاف التطوّر العام الذي حصل في القرن العشرين بعد الحرب الامبرياليّة الأولى وانتصار الثورة الاشتراكية العظمى في 1917 بعدا جديدا للمسألة، إذ غيّر معطيات الوضع العالمي تغييرا جذريّا. ففي الوقت الذي انسدّ فيه أفق التطوّر البرجوازي وبات مستحيلا حلّ المسألة القوميّة في المستعمرات وأشباهها في إطار هذا الأفق ، كان انتصار الثورة الاشتراكية في الإتحاد السوفياتي يفتح أفقا جديدا، إذ بات النضال الوطني في المستعمرات يجد في دولة دكتاتوريّة البروليتاريا المناهضة للإمبرياليّة ولاضطهادها العالمي سندا أساسيا وحليفا عالميّا لا يلين، وباتت المسألة القوميّة في المستعمرات جزء من النضال الفعلي ضدّ الامبرياليّة وغدا حلّ المسألة القوميّة وتوحيد الأمم المضطهدة والمجزأة وتحريرها من نير الامبرياليّة وعملائها المحليين من برجوازيّة كمبرادوريّة وإقطاعيين جزء من الثورة الاشتراكية العالمية في عصر جديد هو عصر احتضار الامبريالية وانتصار الثورة الاشتراكية. ومن هنا بالذات تحوّلت المسألة القوميّة ، كما أسلفنا، من مسألة خاصة داخليّة إلى مسألة عامة وعالميّة وغدت "الوسيلة الوحيدة التي تملكها الشعوب للتحرّر هي النضال الثوري ضدّ الامبرياليّة"(5). ولهذا السبب بالذات غدت المسألة القوميّة مسألة بالغة الأهميّة واكتست بصفتها جزء من "نضال الشعوب المستعمرة وشبه المستعمرة من اجل التحرّر الوطني (وحلّ المسألة القوميّة ضمن ذلك) يقوّض ركائز الامبرياليّة ويهيئ لاضمحلالها"(6) وأصبح التحالف بين حركة البروليتاريا في البلدان المتطوّرة وحركة التحرّر في المستعمرات يفرض اتحاد هذين الشكلين للحركة الثوريّة في جبهة متحدة ضدّ العدوّ المشترك أي ضدّ الامبريالية. لقد كان من نتيجة هذه التطوّرات الحاسمة التي نقلت المسألة القوميّة من جزء من المسألة العامة للثورة الديمقراطية البرجوازية إلى جزء من الثورة الاشتراكية ومن طابعها الجزئي الخاص إلى طابعها العام الشامل. كان من نتيجة ذلك أن ارتبطت هذه المسألة في المستعمرات وأشباه المستعمرات بقضيّة تحرير الإنسان من النير الطبقي وارتبط حلّها نهائيا بمصالح الطبقة العاملة لأنّ مصالحها في هذه الظروف بالذات هي مصالح الأكثريّة الساحقة في الأمة خلافا لمصالح البرجوازيّة الضيّقة الأنانيّة. وقد بيّنت ثورة أكتوبر والثورات الظافرة التي تلتها مثل الثورة الصينيّة والثورة الفيتناميّة، كما يؤكد الواقع المعيش أن تحرير الأمة المضطهدة لا يمكن أن يتمّ إلاّ على يد الطبقة العاملة المنظمة في حزبها الماركسي اللينيني والمتحالفة مع جماهير الفلاحين وباقي الطبقات الشعبيّة، وذلك لأن قيادة الحركة الوطنيّة قد انتقلت في عهدنا إلى البروليتاريا نهائيّا. ولا ينفي هذا أنّ البرجوازيّة الوطنيّة في المستعمرات وأشباهها لا زالت تستطيع الاشتراك في الثورة الوطنيّة الديمقراطية مع الإشارة إلى الخاصيّة المتذبذبة لهذه الطبقة في عصر الامبريالية. إذ بقدر ما تقف إلى جانب الشعب في فترات محدّدة بقدر ما تتخوّف من الثورة وتلتجئ إلى قمعها وتستسلم أمام الامبريالية. فمفهوم الماركسية اللينينية للأمّة إذن هو مفهوم طبقي يعلن انحيازه التاريخي للطبقة العاملة ومصالحها وفكرها. لذلك فهو يتناقض مع الأطروحات القومية البرجوازيّة ، وهو يقطع كذلك مع كلّ التشويهات والتحريفات التي روّجها التروتسكيون والتحريفيّون، وهو لذلك لا ينظر إلى المسألة القوميّة بالمنظور البرجوازي للأمّة وهو لا يطمس مفهوم الأمة المضطهدة ولا يغيّب مفهوم حركة التحرّر الوطني ويضع كلّ ذلك ضمن المفهوم الاستراتيجي مفهوم الأمّة الاشتراكيّة. وفي هذا الإطار بالذات تطرح المسألة القوميّة في الوطن العربي. فهل يمثّل العرب أمّة ؟ وما هي مقوّمات الأمّة إن وجدت ؟

I. مقوّمات الأمّة العربيّة:
إننا نرى أنّ العرب يشكّلون أمة قائمة الذات. إنهم يشكّلون جماعة مستقرّة تاريخيّا ذات لغة مشتركة وأرض مشتركة وذات تكوين نفسي مشترك تجسّده الثقافة الواحدة. ولكنّها ظلّت أمّة مضطهدة من جرّاء التدخّل الامبريالي.
1. العرب جماعة بشريّة مستقرّة تاريخيّا.
لقد تكوّنت هذه الجماعة عبر عمليّة تاريخيّة طويلة ومعقّدة وظهرت خلال هذه العمليّة شعوب مختلفة كالبابليين والآشوريين والمصريين القدامى والبربر وسكان شبه جزيرة العرب الذين تمركز بعضهم في شبه الجزيرة وهاجر البعض الآخر منهم إلى المناطق الأخرى بشمال إفريقيا وغرب البحر الأحمر . إنّ انصهار هذه الجماعات واستقرارها قد مرّ بمراحل عديدة ومعقّدة انتهت إلى تكوين الجماعة بقطع النظر عن الانتماء العرقي والقبلي الذي وقع تجاوزه لصالح الانتماء العام للجماعة الذي بدأ يتربّع شيئا فشيئا، ولم يكن ذلك ليقع دون هزّات وصعوبات. ويمكن أن نعدّد بعض المراحل الهامة لمحطّات رئيسيّة لهذا الانصهار والاستمرار:
‌أ. المرحلة الإقطاعية الأولى: مرحلة تشكّل الدولة الإقطاعيّة التي توسّعت بالفتح العسكري زمن الخلفاء الراشدين والدولة الأمويّة والعباسيّة.
‌ب. المرحلة الإقطاعية الثانية: مرحلة الانقسام العبّاسي وتعدّد المراكز الإقطاعيّة الإقليميّة والتي توّجت بالحروب الدينيّة الإقطاعيّة المعروفة بالحروب الصليبيّة والسّعي إلى الردّ الموحّد في مواجهتها.
‌ج. مرحلة الاحتلال التركي: وقد تمّ في هذه المرحلة يسط نفوذ السلطة العثمانيّة على عموم البلاد العربيّة وإخضاع العرب للإقطاع العسكري التركي.
‌د. المرحلة الحديثة : وقد أتمّت القوى الاستعماريّة في هذه المرحلة تقاسم أقطار الوطن العربي التي عوملت كتركة "الرجل المريض" أي ضمن ممتلكات الإمبراطورية العثمانيّة المتداعية. وقد تمّ ضمن هذه المرحلة تحوّل الهيمنة الاستعماريّة إلى اضطهاد إمبريالي وشهدت النضال الشاق والمعقّد ضدّ هذا الاضطهاد في سلسلة من الانتفاضات والحروب التحريريّة العديدة التي عرفتها المنطقة.
وقد جسّدت هذه المراحل الأربعة والتي امتدّت خلال ما يقارب الثلاث عشرة قرنا فترة تشكّل العرب كجماعة مستقرّة. وقد سمح ذلك بتطوّر بقيّة العوامل الأخرى المكوّنة للأمّة وخاصّة اللغة المشتركة والتكوين النفسي المشترك.
2. العرب جماعة مستقرّة وذات لغة مشتركة هي اللغة العربيّة.
ليست اللغة معطى مسبقا عن الوجود الإنساني بل إنها تجسيد لوعي الإنسان وتعبير عن نشاطه الفكري. لذلك عرّف ماركس وإنجلس اللغة بأنها "الواقع المباشر للفكر" و"الوعي العملي والفكري" وأضاف ماركس "إنّه لا يمكن للأفكار أن توجد منفصلة عن اللغة" وما دام الأمر على هذه الصورة فإنّ اللغة ترتبط بحياة الجماعة التي تستعملها وتجسّد من خلالها فكرها ونشاطها. إنها أشبه بالكائن الحيّ وهي دائمة التطوّر وتتأثر باللغات الأخرى وتؤثر فيها من جرّاء عمليّة الاحتكاك والتطوّر العلمي والمادي والاجتماعي عموما. إنّ اللغة هي أداة تخاطب لجميع طبقات المجتمع ، إذ أن انقسام المجتمع إلى طبقات لا ينفي اللغة القوميّة المشتركة التي هي اللغة الوحيدة لكلّ المجتمع، هذا مع أن الطبقات تحاول استغلال اللغة في سبيل خدمة مصلحها، وفرض تصوّراتها وتعابيرها ضمن الإطار العام المشرك الذي يبقى إطارا شاملا وموحّدا على عكس اللهجات التي تتصف بالجزئيّة والمحلّية والتي تبقى محدودة في وسط محدود أو جهة خاصة دون أن تقدر على تعويض اللغة والحلول محلّها كإطار عام شامل وموحّد للتعبير لدى مجتمع ما. يقول ستالين: "... اللغة هي نتاج المجرى العام لتاريخ المجتمع والبناء التحتي لعدّة قرون ، فهي ليست من صنع طبقة محلية بل صنع كلّ المجتمع ،كلّ طبقاته ، إنها نتاج جهود مئات الأجيال. وقد وجدت ليس لسدّ حاجيات طبقة واحدة وإنما لسدّ حاجات كلّ المجتمع كلّ طبقاته ولهذا السبب بالضبط وضعت كلغة وحيدة للمجتمع ، لكلّ أفراد ذلك المجتمع لغة مشتركة لكلّ الشعب... كأداة للتعامل بين الشعب." ويضيف: "هل يمكن اعتبار اللهجات والألسن الخاصّة لغات؟ كلاّ بكلّ تأكيد لا يمكن اعتبارها لغات... اللهجات والألسن الخاصة هي تفرّعات للغة الوطنيّة المشتركة محرومة من كلّ استقلال لغوي ومقضي عليها بالخمول".(7)
ولقد جسّدت اللغة العربيّة بالنسبة للعرب ( كجماعة مستقرّة ) هذا الإطار المحدّد كتعبير عن الوعي وتجسيد للنشاط المادي الاجتماعي والمتطوّر فكريا لدى هذه الجماعة. ولقد خضعت اللغة العربيّة شأنها شأن بقيّة اللغات إلى سلسلة من التحوّلات وخاضت العديد من الصراعات منذ أن توطّدت كلغة موحّدة ظاهرة الملامح بعد قطعها لفترة الصراع الأولى مع سائر لهجات الحجاز وغدت لغة تواجه بقيّة اللغات المحيطة بها وتؤثر فيها وما تبع ذلك من تعريب أغلب مؤسسات الدولة وأجهزتها المختلفة بعد أن كانت تستعمل الفارسيّة في العراق والقبطيّة في مصر والسريانية في الشام والبونيّة واللاتينية وغيرها في المغرب. لقد كان هذا العمل خطوة نحو المزيد من بلورة اللغة المشتركة وتوحيد اللحمة بين مختلف الجماعات والتقدّم على حساب اللهجات واللغات المحلّية. وفي المقابل انتقلت العربيّة من لغة ذات طابع قرشي ( نسبة لقبيلة قريش ) فأصبحت لغة شبه الجزيرة العربية ثم شملت مصر والعراق والشام والمغرب الذي تعرّب أهله في عمليّة انصهار تدريجيّة، وما إن حلّ القرن الحادي عشر ميلادي حتّى تعرّبت كلّ الأقطار وأصبحت تتكلّم عموما لغة واحدة رغم التجزئة التي أفرزت لهجات مختلفة بين الأقطار المختلفة فحسب بل حتّى في صلب القطر الواحد والجهة الواحدة ، ولكن تلك اللهجات لم ترتق إطلاقا إلى مستوى اللغة الواحدة الشاملة.
ولقد كانت عمليّة التعريب معقّدة طويلة أتت نتيجة انصهار القبائل العربيّة الوافدة أثناء الغزو الإسلامي والهجرات المختلفة مع الجماعات المحلية، ونتيجة التلاقح والتفاعل والصراع. وانتهت إلى بروز العربيّة كلغة مشتركة وموحّدة لعموم الجماعة العربيّة. بالمقابل أصبحت كلّ من اللغة القبطية والبربريّة والسريانية ثانويّة. ولم يكن ذلك دون آثار على قاموس اللغة الموحدة وأساليبها، ولقد صمدت هذه اللغة أمام حملات التتريك التي كانت نتيجة الاحتلال العثماني للأقطار العربية. وهكذا برزت كمقوّم من مقومات الأمّة شديد الارتباط باستقرار الجماعة العربيّة وبالنفسيّة المشتركة وبالأرض التي بدأت ملامحها تتّحد خاصة بداية من القرن الثامن.
إنّ عراقة اللغة العربية وما شهدته من تحوّلات جعلتها تبرز كلغة متطوّرة أبعد ما تكون إلى البدائيّة، وهو ما مكنها كذلك من الصمود أمام الغزو الاستعماري الحديث ومكنها من مقاومة اللغات التي حاول الاستعمار فرضها، ذلك الفرض الذي اقترن بمحاولات يائسة لطمس الهويّة القومية العربيّة للعديد من الأقطار من خلال تشجيع اللهجات المحليّة ومحاولة بعثها لضرب اللغة القومية وإقامة المعاهد الخاصة لتدريس تلك اللهجات وانجاز المعاجم المختلفة لها والسعي لاستبدال الأحرف العربية في الكتابة بالأحرف اللاتينيّة. ولقد انساقت الأنظمة وأجهزتها الثقافية إلى ذلك فضلا عن انسياق العديد من التحريفيين والتروتسكيين. ولكن تلك المحاولات انتهت بالفشل رغم أن بعض مخلفاتها مازالت ماثلة، مثل مشكلة تعريب التعليم في الأقطار التي أرسى فيها الاستعمار تدريس العلوم باللغات الأجنبية. ورغم كلّ ذلك فإنّ اللغة العربية قد تبلورت كلغة موحّدة مستقرّة للجماعة العربية المستقرّة تاريخيّا. ولقد ساهم خلال استقرار الجماعة واستعمالها كلغة موحّدة في تشكيل التكوين النفسي المشترك لهذه الجماعة.
3. التكوين النفسي المشترك.
إنّ التكوين النفسي المشترك للبشر المجتمعين يعتبر أحد المميزات الهامة ويطلق على النفسية المشتركة اسم الطابع القومي ويعبّر عنها بخصوصيات الثقافة القومية للجماعة المحدّدة ويمكن تمييز النفسية العربية المشتركة التي راكمتها الجماعة من خلال تاريخها الطويل المشترك رغم اختلاف الثقافة من مرحلة تاريخيّة إلى أخرى. وإننا نجد للعرب حصيلة مشتركة في الأدب والفنّ والفلسفة والعادات والموسيقى والمشاعر والملامح والحكايات الشعبية داخل كل أرجاء الوطن العربي من المحيط إلى الخليج. كما نجد تماثلا ظاهريا في تقاليد المعاش والأذواق وذكريات الماضي والميولات المميّزة. ولقد تركت الإديولوجيا الدينيّة ممثلة بالإسلام وغيره من الأديان أثرا واضحا في النفسيّة المشتركة وهو جزء منها. كما تركت الأديان الأخرى مثل عبادة الطبيعة والأوثان واليهوديّة والمسيحيّة أثرا ثانويّا نجده واضحا في الأساطير والعادات الشعبية المتداولة أو في تديّن بعض الناس بها. ويمكن أن نقول إذن أنّ العرب جماعة مستقرّة تاريخيّا ذات لغة مشتركة، "إذ أنّ الأمّة لا يمكن أن تتكوّن إلاّ على أساس علاقات دائبة ومنتظمة على أساس أنها نتاج البشر جيلا بعد جيل ولذلك من المستحيل إقامة حياة مشتركة على أرض غير مشتركة".(8)
4. الأرض المشتركة.
عاشت الجماعة العربية على الأرض العربية المشتركة التي تحدّدت عبر مراحل عدّة أفضت إلى الاستقرار في الرقعة الممتدّة من المحيط الأطلسي إلى الخليج العربي بدون انقطاع. وتكونت خلال هذا الامتداد علاقات دائمة ومنتظمة. ويمكن أن نلاحظ أن أرض العرب تمتدّ جنوب البحر الأبيض المتوسّط وعلى جانبي البحر الأحمر امتدادا طبيعيا شاسعا عبر القارتين الإفريقيّة والآسيوية. تلك هي أرض العرب المشتركة التي مثلت إطارا لاستقرارهم عبر القرون (الاستقرار النهائي للأرض منذ القرن الثامن هجري). وبذلك كان العرب جماعة متكوّنة ومستقرّة تاريخيّا ذات لغة مشتركة وهي العربية وتكوين نفسي مشترك أي طابع قومي موحّد ويعيشون على أرض مشتركة. وتمثّل هذه المعطيات مقوّمات للأمّة العربيّة لكنّها لم تكن كافية لتكوين أمّة في عهد الصعود البرجوازي. إذ أنّ تكوين الأمم في فترة صعود الرأسمالية كان يشترط إضافة للمقوّمات المتقدّمة مقوّم الحياة الاقتصاديّة المشتركة، والسوق المشتركة، وهو العنصر الحاسم في تشكّل الأمم أثناء هذه الفترة فترة صعود البرجوازيّة.
5. حول العامل الاقتصادي.
لقد شهد هذا العنصر تبلورا حاسما في فترة صعود الرأسماليّة بالنسبة لمختلف الأمم في أوروبا. إذ أنّ الأمة هي مقولة تاريخية لعصر الرأسمالية الصاعدة. وبالفعل فقد كان لظهور جنين البرجوازيّة العربية ونشوء الرأسماليّة المحليّة التي خطت أولى خطواتها في شتّى المانيفاكتورات والمؤسسات الصناعيّة التي بدأت تظهر في أهمّ مدن مصر والمغرب والشام ، دور هام في بروز مفهوم الأمّة العربيّة بالمفهوم البرجوازي وفي السعي لتوطيدها ولمّ أجزائها المفكّكة بفعل التجزئة الإقطاعية. ولقد شكلت الانتفاضات الفلاحيّة المتلاحقة ضدّ الاضطهاد الإقطاعي والسعي الدؤوب لتوحيد الأقطار العربيّة في دولة عصريّة واحدة تجسيدا لهذا الطموح (محاولات محمد علي وابنه إبراهيم مثلا). إلاّ أنّ التدخل الاستعماري وضعف تطوّر البرجوازيّة حالا دون تحقيق هذا الهدف التقدّمي. وهبّت الدول الاستعماريّة لنجدة السلطات الإقطاعية المحلية في مختلف الأجزاء لمواجهة الانتفاضات الفلاحية وإخمادها لضرب مسعى صهر بعض الدويلات المجزّاة في كيان اقتصاديّ موحّد. ولقد أدّى التطوّر الحاصل خلال القرن التاسع عشر والعقدين الأولين من القرن العشرين (تحوّل الرأسمالية إلى امبريالية وانسداد أفق التطوّر الرأسمالي وانتصار ثورة أكتوبر) إلى انفتاح النضال الديمقراطي على آفاق جديدة: آفاق الاشتراكية في تحالف مع البروليتاريا العالميّة ضدّ الامبريالية المحتضرة. ولقد انسحب ذلك على نضال مختلف الأمم التي تضطهدها الامبريالية ومن بينها الأمة العربيّة.
لقد غدت الأمّة العربيّة أمّة مضطهدة ، وبات النضال المشترك ضدّ الامبريالية والتخلّف الإقطاعي عاملا محدّدا في وجودها. ولقد كان انسداد الأفق الرأسمالي البرجوازي للنضالات القوميّة وانفتاح الأفق البروليتاري الثوري كلّ الأثر على تحويل ماهيّة الحركة القومية ذاتها. ولقد عبّر ستالين عن ذلك بقوله: "إنّ الفكرة القائلة أنّ الحركة القوميّة حركة بورجوازيّة كانت صحيحة في عهد ما قبل الحرب العالميّة وقبل ثورة أكتوبر.أما الآن فقد أصبحت الحركة القوميّة من حيث الجوهر حركة الجماهير الكادحة"(9).
لقد حوّلت الامبريالية كامل الوطن العربي إلى بلد مستعمر وشبه مستعمر. وتقاسمته وفق العديد من الاتفاقيات التي من أبرزها اتفاقيّة سايكس ـ بيكو سنة 1916 السرّية التي كشفها البلاشفة بعد الثورة. كما عمدت الامبرياليّة إلى إقامة كيان استيطانيّ في فلسطين بمقتضى وعد بلفور سنة 1917 والذي توّج بعد الحرب الامبريالية الثانية بإعلان قيام الكيان الصهيوني الذي ما فتئ يتوسّع في الأرض العربية دون انقطاع. ولقد جوبهت الامبريالية بحركات جماهيرية مسلّحة شارك فيها شعبنا العربي في مختلف الأقطار وأفضت إلى طرد الاستعمار المباشر في أغلب الأقطار. وبقيت فلسطين وسبتة ومليلة ... مناطق مستعمرة. وكانت المواجهة مع الامبريالية عامل صهر للأمّة العربية إذ أنّ المسألة القومية في وطننا حدث كما هو في كلّ المستعمرات وأشباهها مرتبط بمسألة التحرّر من الاضطهاد الامبريالي في إطار الثورة العالميّة التي دشنت ثورة أكتوبر عهدها الجديد. "لقد تحولت المسألة القومية من مسألة خاصة بالنضال ضدّ الاضطهاد القومي إلى مسألة عامة لانعتاق الشعوب المضطهدة في المستعمرات وأشباه المستعمرات من نير الامبريالية".(10) ولذلك فإننا نرى في مجوع المطالب التي تناضل الأمة العربية لتحقيقها واتي تتمحور حول الإنعتاق من الاضطهاد الامبريالي والإقطاعي مع باقي مقوّمات الأمة سابقة الذكر تجسيد للأمة العربيّة كأمة مضطهدة. ولقد امتزجت مطالب الأمة العربيّة بشكل حاسم في القضاء على الإقطاع بالتحرّر الوطني من ربقة الامبريالية والصهيونية والرجعية. وأضحى العمال والفلاحون والبرجوازية الصغيرة والبرجوازية الوطنية في خندق واحد للنضال ضدّ أعدائهم نضالا وطنيا ديمقراطيا بعد تجربة مريرة أصيبت فيها معركة التحرّر الوطني بنكسات متوالية مرتبطة بعجز القيادات البرجوازية الوطنية الحتمي في عصر انسداد أفق التطوّر البرجوازي منذ القرن الماضي إلى وقتنا الحالي.
بات واضحا أنّ حلّ المسألة القومية هو أمر وثيق الصلة بمسألة النضال الوطني ضدّ الامبريالية المرتبط عضويا بالثورة البروليتارية العالمية الصاعدة وبات نجاح هذا النضال الوطني مشروط بقيادة الطبقة العاملة له بقيادة حزبها الشيوعي القادر على تحويل النضالات الوطنية الديمقراطية إلى انتصارات تقود بالضرورة إلى حلّ المسألة القومية وتقيم السلطة الشعبية نحو ديكتاتورية البروليتاريا العربية وبناء الاشتراكية فالشيوعية.
هذه هي الأمة العربية إذن: جماعة مستقرّة تاريخيا ذات لغة مشتركة وذات تكوين نفسي مشترك هو طابعها القومي المميّز وهي أمة مضطهدة حالت الامبريالية دون وحدتها الاقتصادية والسياسية وتناضل من أجل تحرّرها الوطني والديمقراطي هذا النضال الذي لا يمكن أن ينتصر إلاّ بقيادة الطبقة العاملة. هذا هو فهمنا للمسألة القومية وهو فهم نرى أنّه يجسّد الموقف الشيوعي من القضيّة. إلاّ أنّ هذا الموقف تعرّض ، وما يزال، إلى التشكيك والطعن من أطراف عديدة. وسنحاول إيجاز وجهات نظرها والردّ عليها.


II. المسألة القومية وموقف التيارات السياسية منها:
إنّ تكالب الامبريالية الشديد على المنطقة العربية وشدّة التشرذم الإقطاعي الذي أفضى إلى كيانات قطريّة عملت الامبريالية جاهدة على تثبيتها وربطها بها من خلال تحالفها الوثيق مع النظم الكمبرادوريّة والإقطاعيّة القائمة، حال دون تحرّر الأمة وتوحّدها وحلّ المسألة القومية ولذك ظلّت المسألة القومية مطروحة بحدّة نظرا لخصوصية التجزئة المهولة.
ولقد أدّى هذا الوضع إلى طرح العديد من الآراء والمواقف المتباينة النابعة أساسا من المواقع الاجتماعيّة لطارحيها.
1. موقف القوميين من المسألة.
تتلخّص وجهة نظر الفصائل القومية في أنّ الأمة العربية أمة خالدة، وهي على الأقلّ تشكلت كأمة مكتملة الملامح قبل قرون عديدة من فترة صعود الرأسمالية، وبقدر ما يهمل هذا الطرح الجوانب المادية والعوامل الاقتصادية في تشكّل مقوّمات الأمّة وتبلور كيانها فإنه يركّز على الجوانب المعنويّة والنفسيّة ويعتبرها العوامل المحدّدة. وقد نظر هذا الاتجاه إلى اللغة باعتبارها جزء من المكوّنات المعنوية ولذلك اعتبر أصحابه "أن للغة الدور الأول في وحدة الأمة بالإضافة إلى الثقافة"(11). واعتبر محمّد عمارة مثلا أنّ الإحساس العربي العام الذي يغمر الجماعة الكبيرة والعيش على نفس النمط وفي ارتباط ببقيّة العرب من المحيط إلى الخليج إحساس خالد لا يتغيّر وحّد الأمّة وجاءت التجزئة نتيجة إقطاع عسكري أو أجنبي أو استعمار الخ...(12). ولقد اعتبر ساطع الحصري التشابه في العواطف والعوائد والتماثل في ذكريات الماضي ونزعات المستقبل إضافة إلى عامل اللغة المتقدّم اعتبر ذلك عاملا حاسما في تحديد الأمّة.
وانتهى هذا الأمر بأصحابه إلى القول بأنّ الأمة العربية وجدت منذ العهود الإقطاعيّة. وبذلوا جهدا في تأكيد وحدة الأصل العرقي للعرب في المشرق والمغرب. هذا بالرغم أنّ المسألة العرقيّة ليست ذات بال إطلاقا في تشكّل الأمة. وذهب أصحاب هذا الرأي إلى القول بأنّ الأمة العربيّة وجدت منذ عهود الإقطاعيّة وانّ (إقطاعنا) "ليس تجزيئيا كما هو في أوروبا وأنّ دولتنا مركزيّة توحيديّة".(13) ويضيف محمد عمارة في نفس الاتجاه "إنّ الذي لم يحدث في كثير من البلدان إلاّ نتيجة الثورة البرجوازية حدث عندنا في العصر الإقطاعي لأنّ مجتمعنا الإقطاعي كان زاخرا بقوّة اجتماعية غير إقطاعيّة"(14). ويضيف "التشتت الإقطاعي لا ينطبق على العرب فالإمارات المستقلّة لم تكن ذات بال في المجتمع اٌلإقطاعي" وبذلك يؤكد "أنّ القومية اكتملت في العهد الإقطاعي وبالضبط بعد أربعة قرون من استكمال الفتح العربي الإسلامي" ويرى أنّ الإقطاع العربي قد وحّد السوق وأوجد الدولة المركزيّة الواحدة (وإقطاعنا) في ذلك مختلف عن الإقطاع الأوروبي المشتّت الخ... وما دامت الأمة خالدة أو شبه خالدة فإنّ رسالتها قد اعتبرت خالدة كذلك (مثلما يرى البعثيون).
كما يذهب أنصار النظريّة الثالثة إلى اعتبار العامل القومي مساويا للعامل الاجتماعي وحصر هذا الأخير في الهويّة القومية. وإذا حاولنا أن نتأمل مجمل هذه المعطيات لرأينا أنها تنصبّ في اعتبار معطى الأمة ثابتا أو قديما جدّا، وأنّ وضعنا خاص و"إقطاعنا" توحيدي وانتماؤنا القومي هو هويتنا الاجتماعية أي يصبّ هذا في نفس المسار التاريخي المنعرج ونفي انطباق قوانين التطوّر الاجتماعي العالمي علينا، ونفي المضمون الاجتماعي للمسألة القومية، أي نفي الصراع الطبقي داخل الأمة ( وما الجهد المبالغ فيه والمفتعل أحيانا في إثبات الأصول العرقيّة والدموية الواحدة لكل العرب من المحيط إلى الخليج إلاّ وجها من هذا التوجّه أي التأكيد على الوحدة الدموية لتغطية التناقضات الاجتماعية ). إن الأمة تتشكّل بقطع النظر عن العنصر الدموي العرقي، فهي مرحلة راقية من التطور تصهر وتتجاوز الأصول العرقية. ولقد اكتمل هذا التشكّل في عصر صعود البرجوازيّة.
إنّ الموقف القومي القائل بخلود الأمة والذي يصف الإقطاع العربي بأنه توحيدي ويسند له مهمّة تقدّمية لا شأن له بها يجسّد في الحقيقة مواقف البرجوازيّة الوطنية العربية. فقد اتسمت هذه الطبقة بفعل التدخل الامبريالي بالضعف الاقتصادي وبضعف قاعدتها الاجتماعية وبتداخل مصالحها مع مصالح الإقطاعية في ظلّ ضعف الحسم التاريخي وغياب الصراع الحاسم بين هذين الطبقتين، هذا ما يفسّر عجز البرجوازية وتذبذبها وتردّدها في مواجهة الإقطاع والذي ترجم سياسيا في ضعف توجّهاتها الديمقراطية واللائيكية مثلا، كما أن عجز البرجوازية الوطنية في ظلّ الظروف الجديدة ظروف هيمنة الامبريالية جعلها تدّعي تحقيق ما عجزت عن تحقيقه، فادعت وجود الأمة حتّى منذ العهود الإقطاعية.
كما أنّ إنكارها لترافق المسألة القومية مع صعود البرجوازية وربطها للطرح القومي "بالاشتراكية" والحديث عن "اشتراكية عربية" وعن "الحرية والوحدة والاشتراكية" هو نوع من القفز إلى الأمام الذي يقصد منه إضفاء البعد الطبقي للطرح البرجوازي الوطني. إنّ طرح الاشتراكيّة كمهمّة راهنة هو نوع من المزايدة التي تسعى لإخفاء الحقيقة الواقعة، حقيقة أنّ التيار القومي هو تيار برجوازي لم يقدر على انجاز مهام تاريخية محدّدة ولم يعد قادرا على انجازها في الظروف الموضوعية الجديدة.
إنّ البرجوازيّة الوطنية في الوطن العربي بحكم ضعفها وتذبذبها وبحكم مساهمتها كذلك في العديد من المعارك الوطنية ضدّ الامبريالية ووقوفها أحيانا أخرى في مواجهة الجماهير وتأصّل وعيها الثوري هي في نهاية التحليل طبقة متذبذبة لم يعد واردا أن تقود النضال في ظلّ التطوّرات الهامة التي طرأت على الساحة العالمية والوطنيّة والتي أصبحت بمقتضاها قضيّة التحرّر الوطني والتي من ضمنها المسألة القومية ّ جزء من الثورة الاشتراكية. لقد أصبحت قيادة الثورة الوطنية الديمقراطية من مهمات الطبقة العاملة المنظمة في حزبها الشيوعي.
إنّ اتجاه التيار القومي لتأكيد آرائه السابقة يندرج كذلك ضمن طمس الجوانب المادية الواقعيّة في تشكّل الأمم، إذ من الواقع أن صعود الرأسمالية في العصر الحديث هو الذي جسّد عناصر الأمة ووحّدها بعد أن تبلورت تاريخيا بعد فترة طويلة من الزمن. إنّ هذا التطوّر هو الذي أفضى إلى ظهور الأمم في عهد الرأسمالية.
إنّ عامل استقرار الجماعة وعامل اللغة المشتركة والأرض المشتركة والتكوين النفسي المشترك كلها عوامل ممهدة (وكانت كامنة) ولكنها ليست حاسمة في ظهور الأمم، العامل الحاسم في عصر صعود الرأسمالية في ظهور الأمم، العمل الذي يجعل الأمة منصهرة في كلّ واحد انصهارا تحتّمه الحياة المادية الاجتماعية والتطوّر الاقتصادي هو وحدة السوق ووحدة الحياة الاقتصادية الذي يفرضه نمط الإنتاج الرأسمالي وتفرضه البرجوازية كطبقة صاعدة تعمل دون كلل على هدم الحواجز الإقطاعية التي تعوق تطوّرها وهي تستعمل مجمل العوامل السابقة (اللغة والأرض والطابع القومي...) كمنافذ لمدّ سلطانها الاقتصادي وبناء هياكلها المتطلّعة للتوسّع. وبذلك تجسّد طموح الأمة في الوحدة. ولقد كان هذا هو التطوّر الكلاسيكي إنّه "الطراز القديم لتطوّر الأمم". ولقد كان ذلك واردا قبل التحوّل النهائي للرأسمالية إلى امبريالية قبل الحرب الامبريالية الأولى وقبل ثورة أكتوبر1917 الاشتراكية العظمى بالنسبة لأشباه المستعمرات. إنّ التحوّلات التي وقعت، جعلت الرأسمالية في أعلى مراحلها (إي عند تحوّلها إلى امبريالية) تهبّ إلى إعاقة تطوّر الأقطار المستعمرة وشبه المستعمرة وبذلك يتعرقل المسار الطبيعي (الكلاسيكي) لتلك البلدان ويصبح مستحيلا. وتتجسّد الأمة فيها مستفيدة من المقومات نفسها (اللغة المشتركة والأرض المشتركة والتكوين النفسي المشترك) في النضال ضدّ الامبريالية، وتتشكّل كأمم مضطهدة. إنّ آفاق تطوّر الأمم البرجوازي الكلاسيكي القديم قد سدّ وبات مستحيلا. لقد باتت المسألة القومية أي مسألة تحرّر الأمم من الاضطهاد الامبريالي والنير الإقطاعي وتوحيدها جزء من الثورة البروليتارية العالمية وذات طراز جديد أي متفتحة على أفق اشتراكي رغم طابعها الديمقراطي، ولم تعد متّجهة نحو التحوّل الديمقراطي البرجوازي.
2. التيارات الظلامية والمسألة القومية.
ترى التيارات الدينية المتشبثة بالفكر السلفي فكر "الإخوان المسلمون" وغيرهم من التلوينات الشبيهة بهم، أنّ المسألة القومية خدعة وبدعة غربية جعلت لإلهاء المسلمين عن هدفهم. يقوا السيد قطب: "كانوا بصدد المعركة مع المجتمع الإسلامي ليوهنوا الرابطة التي يقوم عليها (رابطة العقيدة ) فأقاموا لأهله أصناما تعبدوها من دون الله أسموها تارة (الوطن) وأسموها تارة (القوم) وأسموها تارة (الجنس) وظهرت هذه الأصنام على مراحل التاريخ باسم (الشعبوية) وتارة باسم (الجنسية الطورانية ) وتارة باسم (القومية العربية)"(15). ولقد ذهب راشد الغنوشي إلى أبعد من ذلك في تشويه المسألة القومية وادعى أنها ذات صلة بالصهيونية إذ قال: "كان ظهور القومية العربية مرتبطا بالبرنامج الصهيوني في الشرق" وقد أكد طأنّ القوية في العصر الحديث إنما دعا إليها ونشر فكرتها قوم لا ينتمون إلى أمة الإسلام بل أكاد أقول لا ينتمون إلى العرب وإنما بقايا الصليبيين وتلقفها منهم مسلمون منحرفون أو بسطاء غير واعين لحقيقة الإسلام"(16) ودون أن يعطي شيوخ التيارات الظلامية أية حجة مقنعة عن ارتباط القومية بالصهيونية وعن علاقتها بالاستعمار إذ أنها في الواقع مناقضة له كما أسلفنا، فإنهم يمضون وعلى عادتهم في سرد الأحكام العامة الخالية من التحليل المنطقي الملموس. وفي هذا السياق ينكر الإخوان سائر مقوّمات الأمة ويقلّلون من شأنها ضاربين عرض الحائط بكلّ مكاسب علم الاجتماع وعلم الاقتصاد السياسي، ويلغون بجرّة قلم مفهوم الأمم المتداول لدى الجميع، فيقولون أنّ الإسلام يقرّ أساسا رباط العقيدة وما عاده فهو باطل، إذ يتعارض مع العقيدة. المسلم لا جنسية له سوى عقيدته فلا يعترف بحدود ولا بأوطان ويرون أنّ القومية فكّكت وحدة المسلمين وأضعفت كيانهم والقومية دعوة جاهليّة وشعار يؤدّي إلى الشرك لأنه وثن من وثن الجاهلية الجديدة(17). وفي معرض إنكار مقومات الأمة التي يتعارف عليها كلّ علماء الاجتماع في العصر الحديث على اختلاف مشاربهم يقول البنّا: "أنّ أصحاب القومية قد ارتبطوا بغير ارتباط لما كانت الأرض إلاّ عرضة للمدّ والجزر تتسع وتضيق مع الظروف والحادثات"(18). كما يقول على هذا المستوى من إنكار الوقائع الملموسة فما هو بديلهم؟ إنهم يرون أنّ رباطا واحدا يمكن أن يربط بين جماعة بشرية ما هو إلا رباط العقيدة الدينيّة، وهم يطرحون مقولة الأمة الإسلامية كبديل عن الأمم المتعارفة. يقول البنّا: "حدود الوطنية بالعقيدة لا بالتّخوم الأرضية والحدود الجغرافية، فكلّ بقعة فيها مسلم يقول لا إله إلا الله محمد رسول الله وطن له حرمته وقداسته وحبّه والإخلاص له والجهاد في سبيل خيره، وكلّ المسلمين في هذه الأقطار الجغرافية أهلنا وإخوتنا، نهتمّ بهم ونشعر بشعورهم ونحسّ بأحاسيسهم"(19). ويمضي أنور الجندي في نفس الاتجاه قائلا: "يقرّ الإسلام أن المسلمين أمة واحدة مهما اختلفت نظمهم الاجتماعية ومهما تشكلوا في جماعات أو حكومات فهم يصدرون عن عقيدة واحدة ونظام اجتماعي متكامل"(20). إذن لا يعترف الظلاميون بأي مقوّم من مقومات الأمة معتبرين أنّ العقيدة الدينية هي بديل كلّ معطيات الواقع المادي الاجتماعي. إنّ نفيهم لتلك المقوّمات هو في الحقيقة نفي لوجود الأمة ذاته".إنّ نفي الأرض المشتركة مثلا هو نفي الإطار الجغرافي لتواجد الأمة وتمرير للتفريط في الأرض للقوى الاستعمارية. أو لم يعتبر الإخوان المسلمون في فلسطين أنّ الوطنية بدعة وأنّ الأرض لله يورثها لمن يشاء. ووقفوا بذلك إلى جانب الاغتصاب الصهيوني لفلسطين(21). وقس على ذلك باقي المقومات التي ينكرها هؤلاء. ولو تأمّلنا أبعاد قولهم بالأمة الإسلامية لانكشف لنا تفاهة منطقهم. فأمّتهم هذه ستكون في الواقع خليطا من أمم متباعدة لا يجمع بينها أيّ مقوّم ملموس. إذ لا لغة توحّدها، ولا أرض تجمعها ولا نضالا مشتركا يربط بينها. إنما الذي يجمع فعليا بين المسلمين العرب والمسلمين الرّوس والمسلمين الأمريكيين صفتهم تلك؟ ما الذي يجمع بين هؤلاء وكيف يشكلون أمة؟ والواقع أنّ هذه النظرية ذات أبعاد في منتهى الخطورة: إنها تسعى إلى إعدام وجود الأمة العربية وهو نفس موقف الامبريالية وعملائها الرجعيين الذين ينكرون هم أيضا وجود الأمة بدعاوي أخرى مختلفة. إنهم يقسّمون الأمة العربية إلى ملل دينية إضافة إلى تقسيمها إلى أقطار (أمم إقليميّة مزعومة) وتتكامل نظريّة الإخوان هذه مع نظريّة الكتائب التي تعتبر العرب المسيحيين أمة مسيحية ويطلقون مثلا على المناطق والأحياء المسيحية بلبنان اسم "البلد المسيحي" ويعملون على ربط مصير هؤلاء بالامبريالية ويكرّسون فرقعة الأمة العربية. وفي هذا الإطار يأتي حديث الغنوشي المتقدّم الذكر عن ارتباط فكرة القومية ببقايا الصليبيين وهو يقصد على وجه التحديد بعض المفكرين العرب المسيحيين الذين كان للعديد منهم الفضل بالنهوض باللغة العربية والثقافة العربية وعملوا جاهدا على تطويرها وما اليازجي والخوري والبستاني إلا بعض هؤلاء.
إنّ هذه النزعة الطائفية تنكر حقيقة النضال المشترك للعرب على اختلاف طوائفهم ضدّ الامبريالية والصهيونية وما قوافل الشهداء في فلسطين مثلا والمنتمين لمختلف الديانات والذين أصرّت الثورة الفلسطينيّة على دفعهم في مقبرة موحّدة إلا دليلا على بطلان هذه الدعاوى المتخلفة الجاهلة والمتمثلة في مواقف الإخوان والكتائب والمعبّرة في الواقع على مصالح الإقطاع أساسا والفئات الكمبرادورية المتحالفة مع الامبريالية التي تعتمد على هذه القوى الطائفيّة لتفجير الحروب الرجعيّة وإذكاء النعرات الرجعيّة تحت شعار الحروب المقدّسة وتطبيق الشريعة إلى غير ذلك من الأساليب التي استخدمها النميري ويستخدمها الخميني وغيره من العملاء للبقاء في السلطة وضمان مصالح الامبريالية وحلفائها.
وتتكامل هذه المواقف مع المواقف الصهيونية التي تعتبر أنّ المتديّنين بالديانة اليهودية يمثّلون أمّة أيضا وأنّ أمتهم وجدت تاريخيا على أساس الرباط الديني وهكذا تصبّ الروافد الظلامية والكتائبية والصهيونية في المحيط الامبريالي المغتصب لفلسطين العربية، بل أنها تطمس التناقضات بين الجماهير وأعدائها وتجعل العقيدة الدينية وتذكر عل سبيل المثال هذا السيل الجارف من الأخبار المنشورة في الصحف الرجعية حول إسلام العديد من الأجانب(22). إنه يكفي لأحد الأعراف مصاصي دماء الشعب أن يتحوّل إلى معتنق للدين الإسلامي مثلا حتى يصبح أخا في الدين وتذوب كلّ التناقضات معه بل وصل الأمر باصحاب هذا الطرح إلى اعتبار الصهاينة أهل كتاب يجب تفضيلهم والتعامل معهم لتصفية العرب المتطرفين من الشيوعيين(23). ولقد كان ذلك تمهيدا للمجازر الرهيبة التي ارتكبها النظام الأردني ضدّ المقاومة الفلسطينية في أيلول 1970. كما أنّ نفس المنطق هو الذي قاد عصابات "أمل" الظلامية لاقتراف المجازر البشعة ضدّ المخيمات الفلسطينية في لبنان. هذه هي إذن حقيقة النظرة المبنية على الرابطة الدينية. إنها أدوات في خدمة التغلغل الامبريالي الصهيوني والتخلّف الاجتماعي.
3. موقف التيارات الانتهازية التي تدّعي تبنّي الماركسيّة.
لقد أجمعت الأحزاب التحريفيّة والتيارات التروتسكيّة ـ رغم التفاوتات الكمية ـ على أنّ الأقطار العربية القائمة تمثل كيانات مكتملة وهي تمثّل أمما (مصرية ، سورية ، مغربية، تونسية الخ...) ولم تنظر للأمّة العربية كأمّة بل كإطار إقليمي للتعاون المتبادل واعتبرت المقوّمات القومية المشتركة عوامل تسهّل التعاون والعمل المشترك. لقد اعترفت هذه التيارات بالكيانات المجزّاة ونظّرت لاعتبارها حصيلة تاريخية طبيعيّة لتطوّر الأقطار نحو اكتمال هويتها "القومية الإقليمية" واعتبرت انتقال جلّ الأقطار من وضع الاستعمار المباشر إلى الاستعمار الجديد انجازا للثورة الوطنية الديمقراطية مع إمكانية بقائها منقوصة في بعض الأقطار وذلك ما يحتّم مهمّة استكمالها. وهكذا تحوّلت جلّ هذه التشكيلات التحريفيّة والانتهازيّة إلى ذيول الأنظمة العميلة القائمة تبرّر واقع الهيمنة الامبريالية والتجزئة المتخلّفة مدّعية أنّ الكيانات أمما مكتملة. ويندرج هذا التطوّر ضمن تحليلها المحرّف للماركسية اللينينة وضمن نظرتها الخاطئة لطبيعة المجتمع وطبيعة الثورة وتحليلها لواقع العصر. إنّ موقف هذه التيارات المعادي للماركسية اللينينية من المسألة القومية مرتبط لاعتبارها الوطن العربي جملة من البلدان الرأسمالية المكتملة التطوّر والرأسمالية التابعة التي أُنجزت فيها الثورة الوطنية الديمقراطية وبات مطروحا فيها النضال لتحقيق الثورة الاشتراكية وغدت فيها النضالات الوطنية والمسألة القومية ذاتها مسألة شوفينية رجعيّة. إنّه موقف يتضمّن القفز على مرحلة التحرّر الوطني الديمقراطي التي تدّعي هذه التيارات اكتمالها وتعترف شكليّا ببعض مهامها التي تستدعي "الاستكمال". وما دامت المسألة القومية هي جزء من المهام الوطنية الديمقراطية التي لا تُحلّ إلاّ في إطار المواجهة مع الامبريالية، وفي إطار تصفية الإقطاع وتحرير طبقة الفلاحين لذلك قفزعليها هؤلاء في إطار تنكّرهم الفعلي للثورة الوطنية الديمقراطية وترجموا ذلك في ازدراء الجماهير الفلاحية ورفض أسلوب حرب الشعب لتصفية الامبريالية والإقطاع. ويصبّ موقفهم هذا في ضرب قيادة الطبقة العاملة للثورة الوطنية الديمقراطية وإعاقة إنجاز هذه الثورة وإنجاز التقدّم الفعلي نحو الاشتراكية فالشيوعيّة.
لقد سحبت هذه التيارات الموقف من المسألة القوميّة في البلدان الرأسماليّة التي حُلّت فيها المسألة القومية منذ زمن بعيد على البلدان المستعمرة وشبه المستعمرة التي تمثّل فيها هذه المسألة محورا من محاور النضال الحاسم ضدّ الامبريالية. وهي بسلوكها هذا قد طمست بانتهازية التناقض الحاسم بين الامبريالية والأمم المضطهدة ، هذا التناقض الذي لا يُحلّ إلا بالثورة الوطنية الديمقراطية التي تقضي على الامبريالية والصهيونية وعملائها وتحلّ المسألة القومية في إطار جملة المنجزات الوطنية الديمقراطية وتنقل الأمّة من وضع الأمّة المضطهدة المجزّاة إلى أمّة متحرّرة موحّدة.
إنّ الملفت للنظر أنه بقدر ثبات الموقف الرجعي الخاطئ للتحريفيّة العربية والتروتسكية المكشوفة المنتمية إلى الأممية الرابعة التي تتبنّى بشكل سافر أطروحات الأمم القطريّة وتعلن اعترافها بالكيان الصهيوني وبالأمّة اليهوديّة و"الشعب اليهودي" و"البروليتاريا اليهودية" وتتستّر وراء الخطأ الذي وقعت فيه بعض البلدان الاشتراكية والمتمثّل في الاعتراف بالكيان الصهيوني، والملاحظ أنّه بقدر ثبات هذه الأطراف المذكورة على مواقفها الخاطئة في جوهرها رغم التفاوت الكمّي بينها (التفاوت مثلا بين تحريفي المغرب وتحريفي المشرق) بقدر ما نجد التروتسكية المقنّعة شديدة التقلّب وهي إن لم تخرج جوهريا عن الموقف العام المنكر لوجود الأمة العربية والمتجسّد في وحدة نضالها ضدّ الامبريالية ولمستقبلها الثوري الموحّد في إطار إنجاز الثورة الوطنية الديمقراطية بقيادة الطبقة العاملة وحزبها الماركسي اللينيني الماوي. إنما وإن لم تخرج عن هذا الموقف الخاطئ العام فهي قد انتقلت من التنظير الصريح للأمم القطرية وذهبت في ذلك شوطا بعيدا في نفي وجود الأمة معتمدة على تعلّة غياب وحدة الحياة الاقتصادية، وهي تخلط بذلك عمدا أو جهلا بين الموقف الماركسي من المسألة القومية الذي يتصوّر حلّ المسألة القومية في إطار الثورة الوطنية البرجوازية من الطراز القديم وبين الموقف المرتبط بالتطوّر الموضوعي الحاصل بعد الحرب الامبريالية الأولى وثورة أكتوبر 1917 والذي يرى أنّ الأفق البرجوازي لحلّ المسالة القومية قد سُدّ وإلى الأبد وبات عامل النضال الموحّد ضدّ الامبريالية عاملا محدّدا في وجود الأمم المضطهدة وبات حلّ المسألة القومية جزء من الثورة الوطنية الديمقراطية. هذه الديمقراطية من طراز جديد ذات الأفق الاشتراكي والمتحالفة مع الثورة البروليتارية العالمية، تلك هي دلالة التحوّل العظيم الذي عرفته البشريّة بحصول عصر الاشتراكيّة واحتضار الامبريالية... كتب ستالين مؤكدا على هذا التحوّل في جداله مع القوميين اليوغسلاف " من المضحك أن لا يرى المرء بوضوح أنّ الوضع الدولي قد تغيّر بصورة جذريّة منذ ذلك الحين وأنّ الحرب وثورة أكتوبر في روسيا قد حوّلتا المسألة القومية من كونها جزء من الثورة الديمقراطية البرجوازية إلى جزء من الثورة الاشتراكية البروليتارية... إنّ ما هو صحيح في ظرف تاريخي معيّن قد يكون خاطئا في ظرف تاريخي آخر".(24) لكنّ التروتسكية المقنّعة لم تكتف بذلك فقط بل ذهبت إلى الطعن في المقوّمات القومية الأخرى مثل مقوّم اللغة فسعت إلى تنصيب اللهجات المحلية كلغات قائمة والتقت بذلك مع الامبريالية والأنظمة القائمة وطعنت في التكوين النفسي المشترك وألغت الطابع القومي الموحّد ودافعت باستماتة عن "الشعب اليهودي" و"البروليتاريا اليهوديّة" في وجه التعصّب والشوفينية العربية(25). إلاّ أنّ هذا الموقف لم يصمد فانتقلت التروتسكية المقنّعة لتعويضه بانقلاب شكلي فوقع التراجع في مقولة "اللغة الدارجة" ووقع رفع شعار "الديمقراطية الوطنية" بدل الثورة "الاشتراكية" وانتهى الأمر إلى اعتبار الجماعة العربية "قومية مضطهدة" تتوفّر فيها مقوّمات القومية ولا ترتقي إلى مصاف الأمم وذلك نظرا لغياب عامل الحياة الاقتصادية المشتركة (الذي بات مستحيلا في الواقع بحكم التدخّل والاضطهاد الامبريالي) بل ذهب بعضهم إلى اشتراط وجود الدولة الواحدة وذلك بطريقة غير مباشرة للإقرار بوجود الأمّة(26) وبذلك أعلنت التروتسكية المقنّعة تنكّرها للماركسية اللينينية ولمفهوم هذه النظرية العلمي حول الأمم المضطهدة. وإلاّ فما معنى الحديث عن قومية عربية في اتجاه التحوّل ؟ أليس ذلك طرحا ضمنيا لإمكانية أن يكون هذا التحوّل في اتجاه انقراض الروابط المشتركة وتأكد الهوية القومية القطرية وتأكيد مقولة الأمم القطرية؟ إنّ ذلك هو المبرّر الذي جعل هؤلاء يصفون الحديث عن أمّة عربية بأنّه مشروع طوباوي. إنه نفس موقف تروتسكيي الأممية الرابعة في حديثهم عن القومية اليهودية (جماعة الماتسبان الصهيونية المنتمية للأممية الرابعة) بل قد أطنب التروتسكيون الجدد في التذكير بالحدود والحرص على عدم اعتبارها مصطنعة ولم ينسوا التأكيد على نفي الطابع العربي الشامل للثورة في الأقطار العربية ونفوا بالمناسبة حرب الشعب طويلة الأمد كأسلوب للثورة وأكدوا أنّ الاتجاه العام هو "أنّ الثورة لا يمكن أن تكون إلا ثورة كلّ شعب على حدة (بناء على قولهم بتعدّد الشعوب العربية) في اتجاه تعميق الثورة نحو الاشتراكيّة وتقوية العلاقات النضالية مع بقية الشعوب العربية لتحقيق الاتحاد عندما تنضج شروط ذلك مع البلدان العربية التي تكون الطبقة العاملة قد أخذت فيها السلطة"(27).
إننا والحق يقال أمام خليط لا علاقة له بالماركسية اللينينية فزيادة على الالتقاء بالموقف الامبريالي الرجعي النّافي لوجود أمة وإنكار المفهوم العلمي للأمة المضطهدة وتكريس التجزئة والترويج لمقولات"الشعوب العربية" وضمنيا لمقولة الأمم القطرية وزيادة عن كلّ ذلك نجد نفيا للوقائع المتمثلة في النضال اليومي المشترك ضدّ الامبريالية والصهيونية في سلسلة من الحروب والانتفاضات التي ما تزال متواجدة منذ حوالي قرن من الزمن.
إننا بجانب هذا نجد تطلّعا نحو مشروع مستقبلي غريب يعمل بعنوان "اتحاد عربي" لا ندري ما هو مبرّره في الفترة الاشتراكية بعد حلّ المسألة الوطنية. إنّه لا شكّ تناقض ناشئ لدى أصحابه عن تمسّك خاطئ بأطروحات دغمائيّة لا تناسب ضغط الواقع الذي يجسّد كل يوم حقيقة الأمّة الواحدة المناضلة دونما كلل ضدّ الامبريالية ولذلك كان هذا الخلط الغريب المقترن عمليا لدى التروتسكيين المقنّعين بأحاديث عن "الدولة الإسرائيلية" المتضمّن إقرارا ضمنيا لهذه الدولة. وسرعان ما يفضي ذلك إلى اعتبار النضال ضدّ الصهيونية شأنا فلسطينيا بالدرجة الأولى وشأن "الشعوب" العربية المعنية مباشرة (بلدان المواجهة) بخطر التوسّع الصهيوني وينحصر دورنا في "المساندة للقضية الفلسطينية وإدانة التدخّل في شؤون الثورة الفلسطينية"(28).
ويالها من مواقف ثورية "واقعية" هذه التي تلتقي مع أكثر مواقف الرجعيات، هؤلاء التي يمكنك أن تقرأها في أيّ صحيفة صفراء. إنّ هذه المواقف الخاطئة وأمثالها في المسألة القومية من قيادة النضال التحرّري ضدّ الامبريالية التي جرّت الويلات على الفكر الشيوعي في الوطن العربي. إنّ جرائم التحريفيين والتروتسكيين الذين تهاونوا بالنضال الوطني وأساؤوا فهم المسألة القومية قد مكّنوا القوى الاجتماعية العميلة للإمبريالية من المزايدة بتلك القضيّة وركوبها وعزل الطبقة العاملة وأخذ زمام المبادرة السياسية منها. كما أنّ غياب الموقف الماركسي اللينيني من المسألة جعل النضال الوطني عرضة للنكبات المتتالية. إنها نفس المواقف الرجعيّة التي نراها الآن لدى أدعياء الماركسية التي تعتبر النضال الشامل الموحّد ضدّ الامبريالية "مشروعا طوباويا"(29) ، والإسهام الفعلي في هذا النضال تدخّلا في الشؤون الخاصة للآخرين الذين تفصلنا عنهم حدود "غير مصطنعة" يجب احترامها. وبذلك تقف التروتسكيّة المتستّرة في نفس خندق الامبريالية والأنظمة، وتقطع الصلة بجوهر الماركسية اللينينية العقيدة العلمية المقاتلة ضدّ الهيمنة الامبريالية وضدّ الاضطهاد القومي والاستغلال بجميع أشكاله نضالا وطنيا ديمقراطيا متماسكا ومتجها إلى تحقيق الأمة الاشتراكية التي تنشأ على أساس قيادة الطبقة العاملة من خلال حزبها الشيوعي. إن ّقيادة الطبقة العاملة لهذا للنضال هو الذي يعطي البعد الاشتراكي للثورة الوطنية الديمقراطية والذي سيفضي مثلما قال الرفيق ستالين"إلى أمة اشتراكية أكثر توحّدا من كلّ الأمم البرجوازيّة وذات طابع شعبي أكثر اكتمالا من كلّ الأمم البرجوازيّة".

ملاحظة: عندما يتحدّث ماو عن الأمة الصينية منذ آلاف السنين فهو يقصد أن مقوماتها تشكّلت منذ آلاف السنين :"لقد اجتازت الأمة الصينية في سياق تطوّرها ( نقصد هنا بصورة رئيسية تطور قومية هان ) عشرات الألوف من السنين وهي تعيش في نظام المشاعية البدائية اللاطبقية ..." ( المجلّد الثاني ص.420 و421 ، الثورة الصينية والحزب الشيوعي الصيني ).


الهــــــوامش
1. فريدريك انجلس، "الثورة الديمقراطية البرجوازية في ألمانيا.
2. لينين، "الامبريالية أعلى مراحل الرأسمالية".
3. كتاب الاقتصاد السياسي، فصل "النظام الاستعماري للامبريالية ودور المستعمرات في عصر الامبريالية.
4. ستالين "المسائل اللينينية".
5. كتاب الاقتصاد السياسي، فصل "نضال الشعوب من أجل التحرّر الوطني".
6. المصدر السابق.
7. ستالين، "الماركسية وقضايا علم اللغة" فصل"الماركسية في علم اللغة".
8. ستالين، "الأمّة" أنظر "مقوّمات الأمّة".
9. ستالين، "المسألة القومية" مقال "مزيدا من القول حول المسألة القومية (الجدال مع القوميين اليوغسلاف)".
10. ستالين، "الأهمية العالمية لثورة أكتوبر".
11. ساطع الحصري، " القومية العربية في الفكر والممارسة".
12. محمد عمارة، "الأمة العربية وقضايا الوحدة".
13. محمد عمارة، "فجر اليقظة العربية".
14. المصدر السابق.
15. سيد قطب، "طريق الدعوة في ظلال القرآن".
16. الغنوشي، مجلّة "المعرفة"، السنة 5، العدد 3 ص. 19.
17. موقف سيّد قطب من المسألة القومية كما أوردته مجلّة "15/21" عدد 4 سنة 1983.
18. أنظر مجلّة "آفاق عربية" عدد 3 سنة 1977.
19. المصدر السابق.
20. أنور الجندي، "الأمة الإسلامية".
21. مجلّة "الهدف" الأعداد بتاريخ 13/4/1984 و9/4/1984.
22. جريدة "الصباح" بتاريخ 3/3/1987 حول إسلام بعض الأجانب بالسعوديّة.
23. أنظر رسالة الملك فبصل ملك السعودية إلى ملك الأردن حسين (قبل مجازر أيلول الأسود).
24. ستالين، "المسألة القومية" مقال "مزيدا من القول حول المسألة القومية بتاريخ 30/7/1925.
25. أنظر الكراس الأصفر لجماعة آفاق.
26. أنظر مقال سهيل القفصي "ردّا على شبه شبه" مجلّة أطروحات عدد 9 ستة 1985.
27. حول المسألة القومية ، مقرر ح ع ش ت.
28. المصدر السابق.
29. المصدر السابق.