قوى اليسار والعلمانية اسباب الضعف والتشتت


فرات المحسن
الحوار المتمدن - العدد: 957 - 2004 / 9 / 15 - 10:43
المحور: اليسار والقوى العلمانية و الديمقراطية في العالم العربي - اسباب الضعف و التشتت     

من العسير على المتابع تأريخيا لحركة اليسار والعلمانية في العالم العربي ،أن يحدد مسار الأحداث ويتعقبها دون أن يتوقف مباشرة عند مفاصل حيوية تذهب لبلورة مفاهيم محددة لمعايير وأنماط من التقييم والبحث واختيار الشواهد المناسبة للتعريف ودراسة واقع تلك القوى ومن ثم علاقتهما بالديمقراطية .وتجنبا للشطط في إشكاليات من هذا النوع الثقيل، يتوجب التوقف أولا عند مفهوم الديمقراطية ليتحدد بعدها علاقة قوى اليسار والعلمانية العربية بها ومن ثم التعرف عن مدى القرب والبعد بين تلك القوى وأشكال الديمقراطيات السياسية والاجتماعية، وعند هذه الحدود التي تلامس نقاط الضعف والقوة من الممكن مقاربة و تقييم أسباب الضعف والتشتت لتلك القوى.
عادة ما يلصق ويعلق (بحق ) ميكانزم الديمقراطية وطبيعة تأثيره ونتائجه بأداء السلطات الحاكمة ومؤسساتها باعتبارها المسؤول المباشر والأول عن مجمل العلاقات وصيرورتها بين المواطن والمؤسسات السلطوية ومؤسسات المجتمع المدني الأخرى ،ويعتمد ذلك بشكل أساس على نوعية البؤر السلطوية الضامنة لإشاعة وتطوير أساليب الحكم والقوانين ومشاريع الدولة وبناء القواعد الكافلة للحريات وللحقوق الديمقراطية والمشاركة الشعبية المباشرة في التأثير على اتخاذ القرارات .
يبدوا أن هذه العملية أصبحت اليوم أكثر عسرا وتشابكا فقد خرجت لما وراء حدود الدولة القومية بعد أن تبلورت نماذج لروابط بعيدة ومتشابكة عبر صيغ العولمة والسوق العالمي الكبير الذي تديره الشركات المتعددة الجنسية والمنظمات الدولية.وكتقييم منطقي لوضع العالم العربي والحكومات التي تسيطر على مجريات الحدث اليومي في بلدانها فالموجب أبعادها كنموذج عياني عن هذا البحث ،بسبب انعدام أي علاقة أو رابط بين تلك السلطات وأشكال الديمقراطيات التي نحن بصدد تعريفها ولكن البحث يسترعي أن نشير لبعض القوى العلمانية في الوطن العربي والتي سنحت لها الظروف لامتلاك السلطة وبناء دولتها . وأرى في هذا المضمار أن لا حاجة للتكرار والاستعانة بقائمة من الخروقات اليومية لحقوق الإنسان والديمقراطية التي ترتكب من قبل تلك القوى العلمانية الحاكمة والذي يفرض علينا الواقع وضعها في خانة السلطات التي لا تتمتع بعلاقة سوية مع نماذج وأساليب الديمقراطية وهذا يجبرنا في المحصلة النهائية على تصنيفها ضمن القوى العلمانية المضادة للديمقراطية وحقوق الإنسان وما أكثر هذه النماذج والكتل والشرائح وما أوسعها في العالم العربي وكذلك الإسلامي والمشرقي عموما.لذا لا يمكننا حصر واختزال إشكال الديمقراطية على واجهة محددة وضمن نمط قيمي أيدلوجي، والافتراض عنوة أن العلمانية أو اليسار قلعة حصينة للديمقراطية وحقوق الإنسان وأن باقي النماذج بعيدة عن تلك القيم والمبادئ.أن هذا الاجتزاء يضعنا في خانة التغييب القسري ويقودنا لتشويه الحقائق حول موقف الآخرين وقيمهم ، وعليه يتوجب للوصول الى الفكرة الأعم افتراض تقصي كل ذلك الخليط غير المتماسك والتداخل المرتبك بين الطبقات والشرائح الاجتماعية في الوطن العربي ونتاج مؤسساتها المدينية على مستوى الأداء والفاعلية والمشاركة والشفافية المبدئية.
تعرف الديمقراطية بمبادئها وقيمها الأساسية وتلك القيم والمبادئ هي التي تقدم الدليل الثابت على فاعلية ونشاط وحقيقة علاقة المؤسسات والأفراد بالنموذج الديمقراطي والترتيبات المتخذة لصيانتها وتطويرها.أن مشاركة المجموع في صناعة القرار العام وتأثيرهم على صناع القرار وكذلك المساواة الفاعلة بينهم في الموقف والتمثيل والمسؤولية والشفافية والتفويض والقدرة على التأثير والسيطرة على اتخاذ القرار وإزالة احتكار النخبة له والمكاسب الناتجة عنها،وكذلك مدى فعالية وشفافية النظم التي تتحكم بعمل المؤسسات المدنية (الفعاليات السياسية ـ المهنية ـ الاجتماعية ) والى أي مدى تتخطى تلك الفعاليات التشوهات والتعديات والتقسيمات الجنسية والدينية والعرقية ،وما هي الحصانة الفاعلة لنظام المؤسسة المالي والإداري ضد اشتراطات المصالح الخاصة .كل ذلك يمكن من خلاله تعريف الديمقراطية وتقييم علاقة تلك الفعاليات والمؤسسات بها.
من أجل توصيف القوى والفعاليات العلمانية فالموجب بدءا تعريف العلمانية كمصطلح .مفهوم العلمانية يعتبر مصطلح فلسفي حديث أستخدم بشكله التحليلي مع بداية ظهور الدولة القومية ليؤشر للسيطرة على ممتلكات (الكنيسة) ونقلها الى سلطة غير دينية وعرفها جون هليوك 1817 ـ 1906 ( بأنها الإيمان بإمكانية إصلاح حال الإنسان من خلال الطرق المادية دون التصدي لقضية الإيمان والدين بالقبول أو الرفض ) .أن مفهوم العلمانية يفترض الركون للقوانين الوضعية التي تواكب مشاكل البشر وعقد الحياة اليومية وتضع لها الحلول الناجعة لذا توجب فصل الدين عن الشؤون السياسية والاقتصادية أي فصل الدين عن الدولة كمصطلح توكيدي للخطاب العلماني بعيدا عن الغيبيات والمطلق كلي القدرة.أذن يفترض ذلك المصطلح مساحة وطيف واسع من الأفكار والمسلمات التي لا تستغني قطعا عن النمو والتطور في مساحة الديمقراطية الضامنة لحقوق الإنسان بالكامل ودون انتقاص .أن التعريف بالديمقراطية والعلمانية يقود لتلمس الروابط ذات الأثر الفاعل داخل الفعاليات والقوى المجتمعية العربية وعلاقتها بتلك المفاهيم الفلسفية .وعبر هذا التوجه يمكن الكشف بصورة لا لبس فيها عن أسباب ضعف وتخلف وتشتت القوى العلمانية واليسار في العالم العربي.
أجزم أن هناك الكثير من الجفوة بين قوى اليسار العربي ومفهوم الديمقراطية وكذلك تمويه ملتبس لمفهوم العلمانية .وهذا أيضا من عيوب القوى العلمانية بمختلف أشكالها ونماذجها القومية والمحلية ( اليسارية واليمينية ) . ولا يمكن قصر الإشكال عند هذه الحدود أو تقنينه بآليات وملكات تختص بها تلك القوى دون غيرها، وإنما الواجب يفرض النظر بموضوعية لهوامش أخرى تتحكم في المسار العام للعلاقة بين الوعي الديمقراطي والوعي الاجتماعي ومن ثم تأثير القيم والعادات والتقاليد في تركيبة ونشوء تلك الفعاليات، يضاف لذلك العلاقة الملتبسة والمشوهة التي تنتظم وفقها نماذج الأداء السلطوي وآليات القوانين والدساتير المشرعة وتأثيرهما في طبيعة التكوينات والمؤسسات السياسية والاجتماعية ومدى القسوة و العنت الذي يمارس لتعميم وفرض خيرات متخلفة محبطة وباعثة للخيبة في ظل غياب سلطة القانون والتشريعات التي تحمي المواطن وتكفل حقوقه وتعطي لمؤسساته المدنية حرية الخيار والحركة والتطور.
مجمل قوى اليسار والعلمانية العربية نشأت وفق خيار استيراد الأيدلوجية من الخارج أو استعارتها من التأريخ المحلي (قومي ـ تراث وطني ) أو محاولة خلق توليفة بين المستورد والمحلي للخروج بنموذج اعتقدت تلك القوى والفعاليات بأنه الخيار الأكثر حضارية وعقلانية وأنه الأقرب لنبض الشارع والأكثر قدرة على مواكبة التطور . وكان ولا زال التجريب والاستعارة وردود الفعل الآنية الصفة الغالبة في الخطاب الأيدلوجي لجميع القوى السياسية العربية مما جعلها تتخبط في الرؤى والأفعال وأصبح من العسير عليها إكمال مشوار نهضتها وعدتها المعرفية وقدراتها التنويرية ،هذا ما جعل الوضع السياسي بمجمله يعيش أزمة حقيقية تتمثل بقصور بائن في مواكبة التطور الحضاري ومعطيات العصر وتخلف البنية التنظيمية لتلك القوى بالرغم من اعترافنا بطليعيتها وتقدمها على باقي تشكيلات المجتمع.فصفة اللاثبات لا زالت تميز الفكر السياسي عند جميع القوى والفعاليات السياسية وكان لسقوط التجربة السوفيتية الأثر البالغ في خلق أزمة فكرية لا يمكن عزلها عن مسببات الإرباك الحاصل والذي فرض ويفرض على تلك القوى الكثير من الضغوط والمشاكل العقدية وهي اليوم بين نار الخيارات المتعددة. ولكن الملامح الأكثر تفاعلا تأتي الآن عبر محورين، إما التمسك بذات الخيارات السابقة والقوالب الأيدلوجية الجامدة أو إنكارها والابتعاد عنها وهجرها جملة وتفصيلا. بدا تأثير ذلك واضحا عند قوى اليسار العربي والتشكيلات الماركسية والفعاليات الشيوعية.وبرغم ذلك فأن قراءات جديدة تتجسد اليوم على أرض الواقع وأن بعض من الفعاليات تجد نفسها في صراع ومخاض عسير من أجل بلورة هوية جديدة تواكب العصر وتحافظ على الإرث الإبداعي للتجارب الماركسية المتعددة، وخبرات ومفاهيم اكتسبتها عبر تأريخ طويل لا زال يحمل ويمثل لها الكثير من التعقيدات الفلسفية الموجب الإحاطة بها وإعادة اكتشافها وبلورتها لكي تتمكن تلك القوى من الحصول على عدتها اللازمة لبناء هويتها الواضحة وإدارة الصراع المستعر اليوم في شتى بقاع العالم .
يبدوا أن السنوات المقبلة سوف تكون شديدة الخصوصية والتفرد في تأريخ عالمنا العربي وأن التطورات الجارية وبالذات أثر الاحتلال المباشر للعراق من قبل الولايات المتحدة الأمريكية وقبله أحداث 11 سبتمبر سوف يفرض مجموعة من التحديات بالغة التعقيد و الأكثر قسوة وهولا على مجمل التراث والخطاب السياسي العربي وحركة قواه السياسية والاجتماعية ويجعل المنطقة العربية مركز استقطاب لمحاولات خلق تكوينات ثقافية سياسية جديدة تكون المبضع بيد الثقافات الأقوى المالكة لوسائل الإنتاج والأعلام، وهذا بدوره يطرح السؤال الأكثر إلحاحا عن قدرة القوى والفعاليات السياسية العربية على مواجهة تلك التحديات الثقافية والسياسية القادمة بحدة والمتولدة بتسارع لا يمكن ضبطه .وفي رأيي أن القادم سوف يكون وبالا على أغلب الفعاليات والقوى السياسية العربية، وسوف يعري مواقفها وفكرها وخطابها التخبطي، ويكشف خلل علاقتها بالشارع العربي ومساوئ آليات عمل وتراتيبية هياكلها التنظيمية، فمستحقات العصر وثقافته التي تنزع لفتح ملفات مهمة وكبيرة من مثل الحريات وحقوق الإنسان سوف تكون محطات ليس فقط لإثارة الأسئلة وإنما لصناعة أطر جديدة لمنجز يستحقه الشارع العربي ولا يمكن لأي تنظيم أو سلطة الوقوف بالضد من حركة التأريخ الإنساني والاستمرار بوضع مصدات ومتاريس في وجه بلورة وظهور تيارات التجديد والحريات.
أن أي رصد للواقع السياسي العربي وقواه الناشطة يؤشر اليوم لهول التردي الذي وصل اليه وحجم التحديات المفروضة عليه.ولو أردنا المقاربة فأن أول ما يواجهنا هو الحقيقة المرة في انعدام الديمقراطية والحريات والشرعية القانونية ليس فقط للهياكل الرسمية لمؤسسات الدولة وإنما داخل مؤسسات المجتمع المدني وعلى رأس قائمتها التيارات الفكرية والسياسية العربية التي لم تعد الديمقراطية تحتل أي مكانة في جدول أعمالها ،وليس من العصي التدليل على حجم ذلك التردي لو أطلعنا على الآليات والنظم والعلاقات الداخلية التي تسير عمل تلك الفعاليات والتيارات وهي هياكل تنظيمية تتعاطى العمل السري وتداول المحظور وتشيع في أوساطها(ازدواجية المعايير ،الخطاب الفكري المتحيز ، السلطة الكهنوتية الأبوية ،الإقصاء والتخوين والطعون ،تقبل المساعدات المالية المشروطة ،الضغوط على الأعضاء لتغيير المواقف ،التكتل والشللية والإقصاء ،التطير من النقد ،الانغلاق على الذات وعدم القبول بالرأي الأخر والحفاظ على روح الوجاهة والقرابة واللحمة والنزعة الطائفية والمناطقية والعشائرية وتقديس الأفراد) .كل تلك العيوب هي منجز جماعي ساهمت فيه القوى الفكرية والسياسية العربية بما فيهم صناع الثقافة ومنتجيها ومبدعيها ومؤسسات المجتمع المدني ومن الإجحاف اختزال مسببات ذلك الخراب في أروقة السلطة الحاكمة وشخوصها ومؤسساتها رغم أن ثقل الإشكال يقع بالدرجة الأولى على عاتقها.
سجلت سنوات الخمسينات والستينات والسبعينات نزوع حقيقي لكثير من القوى القومية العربية نحو اليسار وتبني الفلسفة الماركسية كخيار تاريخي كان الظن أنه يعيد بعث الهوية القومية علميا وفي ذات الوقت يقوم بخلق ثقافة تهمش العواطف القومية وتقضم أضرارها. وكانت ساحات انتصار ذلك التوجه واضحة للعيان بين أوساط حركات الكفاح المسلح الفلسطينية والخليجية وفي اليمن وشمال أفريقيا وغيرها من أمكنة وحضور الحركات العلمانية القومية في الوطن العربي. ويسجل تاريخ هزيمة 5 حزيران وسقوط التجربة الناصرية وانحسارها منعطف تأريخي لتلك التحولات المهمة. وساهمت الحركات الفكرية الشيوعية في إنضاج توجهات تلك المشاريع ليصبح المد اليساري الواجهة الأكثر حضورا والأشد مكنة في الشارع السياسي العربي.ولكن المؤسف أن التحولات تلك اقتصرت على استعارات مشوهة وهجينه للشعارات (السوفيتية ) من مثل تبجيل خيار تحكم النظام الحزبي الشمولي البعيد كليا عن المفهوم الماركسي للطليعة. واستمر العمل الحزبي بذات التوجهات السابقة كناتج ملتبس للعمل السري الخالي من الانفتاح والنقد، والخانق للمبادرات والتعبير الفردي بحجة الديمقراطية المركزية والشرعية الثورية. وقد فرض الأداء السلطوي العدائي الكابح للحريات والعلنية على تلك الأحزاب والفعاليات خيار الإيغال في الإجراءات السرية والتشدد بالمركزية واتخاذها كمتاريس للحصانة في مواجهة أساليب السلطات الحاكمة وعمم ذلك في النظم والعلاقات الحزبية الداخلية وبات معه من العسير على المبادرات الفردية اختراق التبريرات والحجج القاضمة للديمقراطية دون التعرض لتهمة الخيانة والتحريفية .
مع سقوط التجربة الاشتراكية السوفيتية وانتصار الثورة الإسلامية الإيرانية وانتشار واستشراء مفهوم العولمة واستغلالها بشكل مكثف من قبل الرأسمالية للتوسع وتوكيد مصالحها التي تحمل الكثير من الإجحاف والتعديات والضرر لمصالح أكثر شعوب العالم. انتابت العالم العربي موجة من التحولات الكبيرة التي اعتبرت واحدة من أضخم الهزات وأقواها، والتي جعلت حياة المجتمعات العربية تختلف كليا عما سبق تلك الأحداث وظهرت بؤر توتر جديدة وضعت العالم العربي وقواه على مفترق طرق وزادت في خناق الأزمة الفكرية والتشويش الثقافي الذي بات يلف ليس فقط النخب السياسية والثقافية وإنما أيضا الشارع العربي العادي ،وظهر جليا تخلف البنية الحضارية لتلك المجتمعات وقصورها وعجز وسائلها الرسمية والشعبية عن مواكبة معطيات العصر التقنية والمعرفية وضعف قدراتها وعدتها في الدفاع الذاتي تجاه المستجدات وتسارع الأحداث.وكناتج طبيعي لذلك فقد شطرت الكثير من كتل المجتمع وقواه بين الرغبة في التغيير أو التحصن بالماضي والانغلاق على الخصوصيات المحلية .وفي مثل المجتمعات العربية فأن الخيار الثاني كان دائما هو الأقرب في تلك المفاضلة ولذا استشرت ظاهرة ردود فعل ثقافية تحمل بين طياتها الكثير من الغرائبية والإجحاف التاريخي أعيد من خلالها بناء هويات ما قبل الدولة القومية مثل السلفية الدينية والعشائرية،وبرزت أفكار التطرف الديني والقومي لتنتج في نهاية المطاف انحراف حاد وخطر ظهرت نماذجه المشوهة في تلاقح واصطفاف غير عقلاني بين الفكر القومي العروبي والسلفية الدينية، وتبني أيضا الكثير من القوى المحسوبة على اليسار والعلمانية ذات النمط من الأفكار السلفية والقومية .واتجهت بوصلة كثير من تلك القوى اليسارية نحو إستراتيجيات جديدة متطرفة لا علاقة لها بفضاءات الأممية والعلمانية.وإنما تم ووفق تلك التوليفة المشوهة بناء جدران لغرف قومية وسلفية لا تبشر بغير الخصومات والنفرة والتكفير ونبذ الحضارة وتقدمها العلمي والتقني والتمترس بأشكال متطرفة من الأفكار الطاردة والانعزالية .وفضل البعض من العلمانيين خلط قسري للعلمانية واليسارية مع الفكر الديني السلفي المبشر والداعي لقيام الدولة الثيوقراطية (الدينية ) الشمولية.وغُلب مبدأ (الاعتقاد) بأن ضرورات ومتطلبات المرحلة والعدو المشترك و(وهم وحدة النضال) يوجب في الوقت الحاضر تبنى قوى العلمانية واليسار خيار المؤازرة والدفاع عن أفكار وإستراتيجيات القوى السلفية أو بأبسط الحالات مباركة جهودها والتبشير (بثوريتها) .وتم التخلي عن المبادئ العقلانية والعلمية في استشراف المستقبل والنظرة البعيدة الفاحصة للأصطفافات وتوحيد الجهود وبناء التحالفات و التمعن والتدقيق بما يمثله هؤلاء وأفكارهم السلفية من تدمير لمستقبل الشعوب العربية وحركتها التاريخية وخياراتها في الديمقراطية والحريات وضمانة حقوق الإنسان والتقدم العلمي والتقني وليتقدم بدلا عن كل تلك الخيارات مبدأ النضال تحت عباءة الدين والأفكار السلفية.
أن هذا المشهد المتناقض والشديد الالتباس يؤشر لازمة فكرية شاملة تلف الكثير من الفعاليات والقوى الفكرية والسياسية العربية ويؤكد هشاشة وتصدع هويتها الفكرية وفقدانها لقناعاتها بقدراتها الذاتية في مواجهة المحن والأزمات ويشخص الخلل الكبير في منهجية وستراتجيات تلك القوى والأثر الضار والمدمر الذي تركه ويتركه العمل السري والتغييب القسري للديمقراطية .

أسباب الضعف والتشتت
أعتقد بأن تلك المقدمة الطويلة التي سقتها تشكل اللوحة التي من الممكن عبرها تلمس أسباب الضعف والتشتت التي تلف اليوم قوى اليسار والعلمانية .اختصارا يمكن القول أن خصائص ومحددات الفكر السياسي العربي والقيم التي أستمر في ممارستها وتوارثها هي السبب الرئيسي وراء الإبطاء بظهور تحولات وأنماط إيجابية سواء فكرية أو سلوكية. وأحسب أن التوصيف القريب للحالة يجعلني أقول أن عائق فقدان الديمقراطية الداخلية والضغوط والمؤثرات الخارجية يبدوان من أكثر الأسباب فاعلية في عدم تبني القوى اليسارية والعلمانية لإستراتيجيات مرحلية تتمحور حول قواسم مشتركة يتم عبرها بلورة أهداف تقرأ وقائع المرحلة الحاضرة بشكل عقلاني وتصنع مرجعياتها التي تساعد على حشد القوى والابتعاد عن حالة الضعف والتشرذم والانقسام .
أن الخروج من واقع هذه الأزمة يتطلب وبإلحاح شديد التجديد في مختلف المستويات الفكرية والتنظيمية، ولن يتم ذلك من دون تبني خيار التغيير الديمقراطي الداخلي من أجل تحقيق الذات سياسيا واجتماعيا وثقافيا، وليكون ذلك دفعا مهما للنضال اليومي وحشد الجماهير من أجل إنجاز تطوير مجتمعي حقيقي يتفاعل في حقول التنمية الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والبيئية وغيرها.وأن يتم التعامل بشفافية ووضوح لتتحدد الأهداف الرئيسية المرحلية والمستقبلية وتربط كل تلك الأهداف والخيارات بمهمة التحرير والاستقلال وتصعيد النضال اليومي وحشد الجماهير حول قضايا حقوق الإنسان والحريات السياسية والاجتماعية وبناء سلطة القانون، وأن تحقيق تلك الأهداف سوف يكون الإطار الفاعل والكشاف الحقيقي لقدرات وطاقات وإبداع الجماهير وتبنى وفقها أسس وقواعد لحوار حضاري عقلاني. وبتحقيقها سوف يوضع الجميع في طريق الخيارات الصحيحة والممكنة ويبعد لغة الخصومة والاستعداء .
خلاصة القول .بالرغم مما بذلته قوى التحرر العربية من تضحيات جسام وسعة حركة نضالاتها ، فأن الأهداف ضلت معلقة وأجهضت الكثير من المحاولات النهضوية ولم تستطع تلك القوى تحقيق تغييرات جذرية شاملة في مجتمعاتها. ولكن والحق يقال وكي نكون منصفين فأن تلك الفعاليات والقوى وبالذات اليسارية منها قد وضعت لبنات تنويرية طيبة لا تخطئها العين المنصفة.والأفق المستقبلي يشي بالكثير من الأمل والطموح وان التجديد والقراءات العقلانية لحركة التأريخ والمتغيرات اليومية المتسارعة سوف توفر المناخ المناسب وتطلق العنان لطاقات إبداعية متجددة وقادرة على التغيير ومواكبة العصر.