كوبا: رؤية ما بعد الخمسين (22) كاسترو والدين


عبد الحسين شعبان
2010 / 3 / 31 - 20:14     

منذ اللقاء التاريخي بين ماركس وانجلز وصدور البيان الشيوعي في عام 1848 وجهت الماركسية الجدل الفلسفي والاجتماعي التاريخي إلى بؤس الإنسان وأسبابه لا فيما يتعلق بالتفسير فحسب، بل انصبَّ الاهتمام على التغيير، وقد اصطدمت بالكثير من الدعاوى التي حاولت البرجوازية التعكّز عليها ومنها التستر بالدين وارتداء جلبابه أحياناً، ليس دفاعاً عن مملكة السماء، بل للدفاع عن مملكة الأرض «المقدسة»، ونعني بذلك نظام الملكية الذي لا يمكن المساس به، وليس لمثل الدين قدرة «أسطورية» على المواجهة مع الماركسية، خصوصاً إذا ما تعلق الأمر بالملكية، وخصوصاً إذا جرى التعرض لما استقرت عليه المجتمعات، لاسيَّما المساس بالقواعد والأنظمة والقوانين السائدة التي تحمي مصالحها، وكان «اتهام» الماركسية، بالإلحاد والوقوف ضد الإيمان الديني، واحداً من الأسلحة الماضية التي استخدمت ضدها.
أنقل هنا حديثاً لأحد أساقفة المسيحية، وهو الرئيس السابق لأساقفة كانتربري عن علاقة رأس المال بالدين، ولعل مثل هذا الفهم قريب من التفكير الماركسي حين يقول: «إن الرأسماليين يعبدون المال ستة أيام في الأسبوع ويذهبون إلى الكنيسة في اليوم السابع»، ولعلنا من خلال تجاربنا نعرف، كم من الذين لا علاقة لهم بالدين في سلوكهم وتعاملهم، ينتظرون موسم الحج للذهاب إلى مكة، ليغسلوا ذنوبهم كما برر أحد المعارف من رجال الدين، ولا يهمّ إن عادوا إلى عاداتهم، ولعلهم ليسوا بعيدين عنها حتى عندما يكونون في أوج تأديتهم للفروض الدينية، وفي الأماكن المقدسة أحياناً، وفي مقدمتها بيت الله الحرام.
إن مملكة المستغلّين هي الأرض، وليأخذ المؤمنون مملكة «السماء»، لهم وحدهم، ولذلك فقد سعى المستغلون لمنع أية تحالفات بين المؤمنين سواء كانوا متدينين أو غير متدينين وبين الماركسيين الذين تجمعهم أهدافٌ مشتركة ومُثلٌ وقيم ومبادئ مثل الحرية والعدالة والمساواة واحترام حقوق الإنسان، بغض النظر عن الدين واللون والجنس واللغة والقومية والانحدار الاجتماعي، ذلك أن المؤمنين والماركسيين، والمتدينين والعلمانيين، يكتشفون في المُثل المشتركة والجامع الإنساني جوهر الحياة البشرية، فالمسيح والنبي محمد والنبي موسى في لحظة من لحظات النقاء التاريخي قدّموا ملكوت السعادة للفقراء والمظلومين مثلما يحاول الماركسيون تقديمه, وإن كان كل من زاويته، إلا أن الأمر له علاقة بالصيرورة الإنسانية فهو ليس بعيداً عن حلم البشرية للقضاء على الاستغلال وتحقيق حلم الإنسان في الحرية والعدالة والرفاه.
وإذا أردنا تطبيق ذلك على أوضاعنا الراهنة فإن ما قدمه لاهوت التحرير في أميركا اللاتينية ونضال بعض القوى الدينية، الإسلامية المعادية للإمبريالية والصهيونية في منطقتنا، التقى إلى حدود كبيرة مع نضال التيار الماركسي، ولعل حواراً مفتوحاً وعلنياً واسعاً لا بد أن ينفتح بين المؤمنين وغير المؤمنين، بين المسلمين والمسيحيين وغيرهم وبين الماركسيين والعلمانيين من جهة أخرى، لاسيَّما في قضايا التحرر ومكافحة الاستغلال ومناهضة الاستبداد، ناهيكم عن العدل والمساواة والسلام.
إن مصدر الشقاء الإنساني هو الاستغلال، ولكي يتم استئصال شأفته لا يمكن انتظار ما تمطره السماء، بل إن العمل والكفاح سيكونان كفيلين بإشاعة الحب والعدل والمساواة، تلك التي بشّر بها الرسل والأنبياء والمصلحون الدينيون والاجتماعيون، وهو ما تبشّر به الماركسية التي تدعو إلى حياة إنسانية تليق بالإنسان.
إن الشوق إلى العدل هو الرسالة المباركة الأساسية لكل من يريد أن يتعمد بالمناعة ضد فيروس الاستغلال والظلم، سواء كان متديناً أو ماركسياً، حالما بمستقبل جديد للبشرية.
في العام 1988 نُشر كتاب في بيروت وعدن بعنوان مثير هو «فيديل كاسترو والدين»، ومثل هذه العناوين لاسيَّما لقادة ماركسيين مثيرة إلى حدود كبيرة، خصوصاً وهي تتحدث عن تابوهات ظل الكثير من الماركسيين، لاسيَّما في عالمنا العربي والإسلامي يتجنبونها، وخاصة بعد مرحلة الطفولة الثورية التي مرت بها الماركسية في بلداننا، حيث تعاملت بخفة ونزق وسذاجة كبيرة في قضايا تخص معتقدات الناس، وبسببها تعرضت إلى نكسات كبيرة، والأمر له علاقة بموضوع الفهم الخاطئ للموقف من الدين وتعاليمه. وهو ما اعترف به فيديل كاسترو في حواراته مع فراي بيتو عندما قال في معرض تقييمه لسنوات الثورة المبكرة: «لقد شُددنا بإحكام إلى أكاذيب وأُرغمنا على العيش معها، لذلك يبدو العالم مرتبكاً عندما نسمع الحقيقة».
إن حوار كاسترو مع راهب دومينيكاني من البرازيل هو فراي بيتو يزيل الكثير من الغشاوة الكثيفة التي غلّفت مواقف الماركسيين والشيوعيين من الدين، وهو يبحث في المشترك الذي يجمع الماركسيين والمسيحيين، وذلك بأسلوب أخاذ على نحو مدهش، الأمر الذي لم يتم التوقف عنده في بلداننا منذ أن قاربنا الموقف من الدين سلبياً، ثم ابتعدنا وكأنه تابو يمنع الدخول في مناقشته أو الحوار حوله.
الحوار الطريف والعميق تم بين رجل دين كاثوليكي يمارس شعائره وطقوسه بإيمانية، مع قائد شيوعي يؤمن بالماركسية، وهو ما ذكّرني بحواري مع المطران جورج خضر (مطران البترون وجبل لبنان) الذي قدّم لكتابي «فقه التسامح في الفكر العربي- الإسلامي: الدولة والثقافة»، دار النهار، بيروت، 2005، وكنت قد عبّرت عنه في الندوة الفكرية التي نظمها المجلس الثقافي للبنان الجنوبي بإدارة الأديب حبيب صادق، والتي شارك فيها إضافة إلى المطران خضر، الناقد السوري محمد جمال باروت.
قلت عندما قرأ المطران مخطوطة الكتاب، لاسيَّما الفقرة الخاصة بالمسيحية، توقف قليلاً ليقول: كنت أشعر كأن مسيحياً يقف خلف شعبان ليكتب ما كتب، وهو ما دعاه بعدها إلى نقده بكتابة مقدمة له، وقد سرّني ذلك كثيراً، ثم بادر إلى سؤالي ولماذا تفضل أن أكتبها أنا دون سواي، أجبته لأنك مسيحي وأرثوذكسي لبناني، وأنا من عائلة عراقية عربية مسلمة، وأنت من جبل لبنان وأنا من النجف، وأنت رجل دين ومطران البترون وجبل لبنان وأنا من عائلة دينية، لها مكانتها في حضرة الإمام علي، وأنت متديّن وأنا علماني، وذلك وحده يكفي لكي نتحدث من موقعين متوازيين عن التسامح، وقال لي ولهذه الأسباب إنه متحمس لكتابة المقدمة، التي وصلتني بعد 4 أيام من تسلّمه المخطوطة، وكانت قطعة أدبية- فلسفية رصينة وجامعة وإنسانية.
بعدها سردت عليه تلك الحكاية التي كنّا نتناقلها منذ سنوات طويلة ومفادها أن رجل دين مسلماً أدار حواراً مع ماركسي ودام الحوار أكثر من ستة أشهر، تأثر الثاني بالإسلام وأبدى إعجابه به، لكن الأول كان قد تأثر بالماركسية وأبدى إعجابه بها، وهو ما تم الاتفاق عليه بينهما لمواصلة العمل المشترك والحوار المستمر وكل من موقعه. وأنا أقرأ حوارات كاسترو مع بيتو تملكني الشعور ذاته لأن كلاّ منهما بنى حججه عن المنابع الأصيلة للمسيحية أو الماركسية، دون أن يتخلى أي منهما عن أفكاره، لاسيَّما الفهم الأكثر عمقاً للأخلاق والسياسة والاستغلال، ثم الحاجة للعمل المشترك لمصلحة الفقراء.
لقد راهن الكثيرون على الاختلاف العقائدي بين المسلمين والماركسيين وبين الماركسيين والمسيحيين وغيرهم، وهو اختلاف لا يمكن ولا ينبغي إنكاره أو تجاوزه، أو محاولة التوفيق بينه على المستوى الفكري مثلما درجت بعض الدراسات لإيجاد مصالحة بين الإسلام والاشتراكية في الخمسينيات والستينيات، وبين الإسلام والديمقراطية وحقوق الإنسان في الثمانينيات والتسعينيات وما بعدها، لكن تلك المحاولات لم يكن حظها في النجاح وفيراً، فلكلٍ حقله ونطاقه الفكري، دون إهمال المشترك في قضايا النضال السياسي والاجتماعي والحقوقي، ولعل هذا المشترك هو إزاء الحياة الراهنة والممارسة الضرورية، التي تحتاج إلى حيّز مهم من المهارة الفائقة للتلاقي، خصوصاً إذا وضع الطرفان مصلحة الناس وحقوقهم بنظر الاعتبار.
عندما اطلعت خلال مشاهدتي الكوبية على استعادة الكنيسة لدورها سألت عن موقف كاسترو والحزب الشيوعي من الدين، وهو الذي دلّني على الانطباعات الإيجابية الأولى لكاسترو يوم كان يافعاً، ثم اطلعت على أحاديثه ما بعد فترة انقطاع عن الدين، لاسيَّما في العام 1971 في لقاء مع رجال الدين الكاثوليكيين في تشيلي ولقائه العام 1977، بالقساوسة الجامايكيين، وتذكرت ما كان يردده بعد انتصار الثورة وأيامها الأولى من أن «من يخون الفقراء يخون المسيح»، خصوصاً فترة التنافر الشديدة مع الكنيسة.
تلقى كاسترو تعليمه الأولي والثانوي في أفضل المدارس الكاثوليكية في كوبا، لاسيَّما رسالتها الأخلاقية، التي شكلت بُعداً استراتيجيا ناظماً لممارسته الثورية. وقد قال آرماندو هارت عضو المكتب السياسي للحزب الشيوعي الكوبي ووزير الثقافة الأسبق، إنه وُجد «ينبوعان من أهم الينابيع التاريخية للفكر والعاطفة الإنسانيين: المسيحية والماركسية، اللتان صوّر أعداؤهما أنهما خطان متوازيان لا يلتقيان أبداً»، ويمكنني القول إن الدين في أميركا اللاتينية كما في بعض التجارب العربية، لاسيَّما في موضوع النضال التحرري ضد الصهيونية والإمبريالية، وجد دروباً جديدة مدهشة، الأمر الذي يستحق وقفة جدّية للتفكير والبحث والعمل والنقد الذاتي أيضاً، لاسيَّما للأخطاء والثغرات التي مورست خلال العقود الماضية من الزمان.