كوبا: رؤية ما بعد الخمسين (6).. جيفارا وأحمد بن بيلا: العنفوان!


عبد الحسين شعبان
2009 / 12 / 7 - 19:51     

ثلاث شخصيات عربية كبرى جمعتها صداقة مديدة مع جيفارا، أوّلها أحمد بن بيلا أول رئيس جزائري بعد الاستقلال، وثانيها الرئيس جمال عبدالناصر، وثالثها المهدي بن بركة الذي اختطف في باريس في ظروف غامضة.
تميّزت علاقات جيفارا بأحمد بن بيلا بالتفاعل والتأثر المتبادل، لاسيما وقد نظر هو إلى إفريقيا كفضاء جديد للثورة خصوصاً بعد إحراز الجزائر استقلالها بعد معاناة من الاستعمار الفرنسي دامت 132 عاماً، وكان هو قد عيّن في بدايات الثورة الكوبية "سفيراً بصلاحيات مطلقة" من قبل زعيم الثورة الكوبية فيدل كاسترو، حيث توجّه في 12 يونيو 1959 إلى زيارة العديد من البلدان للتعريف بكوبا وثورتها ونضال أميركا اللاتينية، في جولة طويلة زار فيها 15 دولة.
وخلال جولته أبرم اتفاقيات تعاون اقتصادية وعسكرية مع العديد من البلدان في آسيا وإفريقيا، لاسيما دول عدم الانحياز، وزار الجمهورية العربية المتحدة (القاهرة ودمشق)، كما اطلع على تجاربها فيما يتعلق بالإصلاح الزراعي والنظم الاقتصادية والاجتماعية ومشاكل التصنيع وسبل الانفكاك من هيمنة الاحتكارات وإحراز الاستقلال.
بعد الاستفتاء الذي حصل في الجزائر يوم 13 يوليو 1962 وتصويت الجزائريين على الاستقلال عن فرنسا بنسبة %93.7 جاءت النتيجة طبقاً لما أكدته اتفاقية "إيفيان" في 19 مارس من العام ذاته بين قيادة الثورة الجزائرية (جبهة التحرير الوطني الجزائرية) والحكومة الفرنسية، وقد تشكلت الحكومة الجزائرية برئاسة أحمد بن بيلا أول رئيس بعد الاستقلال.
وكان من أول البلدان التي زارها أحمد بن بيلا هي كوبا، وذلك بعد مشاركته في أعمال دورة الجمعية العامة للأمم المتحدة في نيويورك، حيث توجّه بعدها إلى زيارة كوبا في 16 أكتوبر 1962، والتقى فيدل كاسترو وتشي جيفارا وراؤول كاسترو وقيادات الحزب والدولة.
ولعل للزيارة دلالاتها: الأولى أنها جاءت إثر احتدام حدّة التوتر بين واشنطن وهافانا بسبب أزمة الصواريخ الكوبية التي بناها الاتحاد السوفييتي في الجزيرة لمواجهة احتمالات هجوم تقوم به واشنطن للإطاحة بالنظام الكوبي، تلك التي تطورت إلى أزمة دولية عُرفت بأزمة الصواريخ بعد خليج الخنازير والتي كادت تهدد بحرب عالمية، لولا محاولات احتوائها من جانب الإدارة الأميركية والرئيس جون كيندي والقيادة السوفييتية ممثلة في نيكيتا خروشوف، حيث تمت المساومة على سحب الصواريخ، مقابل تعهد بعدم مهاجمة الجزيرة، في إطار تسوية سمحت بها ظروف تلك الأيام.
والدلالة الثانية أن الزيارة كانت بإصرار من جانب أحمد بن بيلا الذي يقول إن كيندي حذّره من زيارة هافانا مباشرة بعد حضوره اجتماع الجمعية العامة للأمم المتحدة، ويضيف: "دعيت في صباح 15 أكتوبر (أي قبل يوم من زيارته إلى كوبا) إلى البيت الأبيض حيث أجريتُ حوارات ساخنة وصريحة مع الرئيس كيندي بشأن كوبا" ويواصل: "أجابني الرئيس على سؤال مباشر وجهته له: هل أنتم ذاهبون إلى مواجهة مع كوبا؟ ومن دون أن يترك مجالاً للشك في نياته الحقيقية أجاب: "لا إذا كانت الصواريخ السوفييتية غير موجودة.. نعم إذا كان الأمر عكس ذلك"، ولعل إجابة الرئيس كيندي تلك تحمل قدراً من التهديد ورسالة إلى القيادة الكوبية عبر أحد أصدقائها وهو أحمد بن بيلا، ويمضي أكثر من ذلك ليؤكد تهديداته حتى بالنسبة لبن بيلا حين يقول الرئيس الجزائري الأسبق: حاول كيندي أن يثنيني وبإصرار عن الذهاب من نيويورك إلى كوبا مباشرة، حتى إنه ذكر احتمال حصول اعتداء على الطائرة التابعة للقوات الجوية الكوبية التي سأستقلها، من قبل المعارضة الكوبية المتمركزة في ميامي.
ويجيبه بن بيلا بكل ما تحمل إجابته من بساطة وعفوية، لكن لها دلالاتها في الصدق والشجاعة حين يعلّق ردّاً على تهديداته المبطّنة: "إني فلاح لا ترهبني المعارضة الجزائرية ولا الكوبية" (من خطاب ألقاه بن بيلا حين أدلى بشهادته عن جيفارا بعد مرور 30 عاماً على استشهاده ونقلته جريدة لومانيتيه الفرنسية التي بصدرها الحزب الشيوعي الفرنسي في 9 أكتوبر 1997).

كان تاريخ زيارة بن بيلا إلى كوبا هو تاريخ صداقة مديدة مع جيفارا استمرت بضع سنوات قبل أن يقطعها الانقلاب العسكري الذي قاده الجنرال هواري بومدين في 19 يونيو عام 1965، ويذكر بن بيلا في شهادته أن يوم 9 أكتوبر 1967 مكتوب في ذاكرته بأحرف من نار، لا سيما وهو سجين متفرّد، عندما سمع من جهاز الراديو إعلان خبر رحيل "أخيه" جيفارا كما يقول.
وقد زار جيفارا الجزائر بمناسبة الذكرى الأولى للاستقلال ممثلاً لكوبا وذلك في 4 يوليو عام 1963، ومكث فيها نحو 3 أسابيع، واندمج جيفارا بالجو الجزائري طبيعياً وسياسياً، حيث المناخ الحار و"الناشف" الذي ذكّره -كما يشير- بطبيعة أرض الأرجنتين التي ترعرع فيها، كما أبدى إعجابه بقدرة الشعب الجزائري وبطولته في طرد المستعمرين الفرنسيين، لاسيما بعد اندلاع الثورة وفي حرب الأنصار والكفاح المسلح الذي دام 7 سنوات (من عام 1954 وحتى عام 1962)، وإضافة إلى علاقته مع بن بيلا، فقد استضاف في كوبا خلال عودته قائد القوات المسلحة الجزائرية هواري بومدين بمناسبة يوم 26 يوليو، وهو يوم انطلاقة الحركة المسلحة التي قادها فيدل كاسترو.
وزار جيفارا الجزائر مرّة أخرى بعد زيارة نيويورك في 9 ديسمبر 1964، حيث ألقى خطاباً باسم كوبا في الجمعية العامة للأمم المتحدة، وكان جيفارا قد التقى خلال وجوده في نيويورك الزعيم الأسود مالكولم إكس ووجه عَبره رسالة تضامن إلى "إخوته وأخواته" من الأصول الإفريقية، لاسيما أن إفريقيا حسب تقييماته تعتبر مرتكزاً جديداً للثورة التي شغلته.
ودامت زيارة جيفارا إلى الجزائر نحو 3 أشهر، حيث وصلها يوم 18 ديسمبر 1964 وكانت هذه الزيارة الثالثة، واتفق مع بن بيلا على دعم ومساندة حركات التحرر الوطني، معتبراً الجزائر العاصمة البيضاء المنوّرة للثورة غرفةَ قيادة، وهي في الوقت نفسه القاعدة السرّية للعديد من قيادات وكوادر حركات التحرر في أميركا اللاتينية وإفريقيا، وقد سهّلت معرفة كل من جيفارا وبن بيلا الفرنسية والإسبانية، صداقتهما الحميمة وتفاعلهما المستمر والمتواصل. وقد اقترح جيفارا على بن بيلا أن تصبح الجزائر محطة لتزويد الحركات الثورية الأميركية اللاتينية بالأسلحة، دفعاً لعيون واشنطن التي هي قريبة من كوبا، وكان رد بن بيلا الموافقة الفورية والإيجابية، بل والأكثر من ذلك تحضير التجهيزات اللازمة لذلك، وحدد مركز القيادة الذي وضع تحت تصرف جيفارا فيللا كبيرة في مرتفعات العاصمة تدعى فيللا "موزيني"، ولهذه الفيللا رمزية خاصة، إذ كانت مخصصة للتعذيب ومركزاً للفرنسيين أيام الاحتلال، وإذا بها تتحول إلى مركز للحركات التحررية لدول العالم الثالث، وللتغطية على نشاطها في أميركا اللاتينية، أُنشئت عدة شركات للاستيراد والتصدير بهدف التمويه وذرّ الرماد في العيون!
واعتقد جيفارا أن إفريقيا هي الحلقة الضعيفة للإمبريالية وهي غنية بالمواد الأولية، ولذلك يتوجب كسر هذه الحلقة من السلسلة، وتحضيراً لفكرته قام بزيارة 7 بلدان إفريقية نالت استقلالها في حينها، واحتسبت ضد المعسكر الإمبريالي، ولعل جيفارا هو من دعا إلى تأسيس اتحاد الجمهوريات الاشتراكية الإفريقية، وكان قد قال: "وجدت شعوباً بكاملها تحت الضغط مثل الماء الذي يوشك على الغليان"، وقد سمّي خلال زيارته إلى جمهورية مالي في 17 يناير 1965 بـ "ماو أميركا اللاتينية" (نسبة إلى ماو تسي تونغ).
وخلال زيارته الرابعة إلى الجزائر في 24 فبراير 1965 ألقى خطابه الشهير في ندوة اقتصادية لمنظمة التضامن الأفروآسيوي، والذي عُرف لاحقاً "بخطاب الجزائر"، وهو وثيقة أو لائحة مرافعة ضد بعض مواقف الاتحاد السوفيتي، علماً بأن كوبا لم تكن سوى مراقبٍ في المؤتمر وسوف نعود لمناقشة هذه الوثيقة التي تشكل محتوى الفكرة الجيفارية بعد 6 سنوات على انتصار الثورة الكوبية، وجوهر الخلاف الذي اتسع بينه وبين التيار الاشتراكي الرسمي السائد.
ومن الجزائر توجه إلى القاهرة ومكث فيها 8 أيام في 2 مارس 1965 بعد سلسلة من التأملات والاعتراضات والمراجعات، ويبدو أن هذا التحول كان أقرب إلى القطيعة بينه وبين المناصب الرسمية، فعاد إلى ميدان المعركة الحقيقي في الكونغو ومنها إلى كوبا حيث اجتمع بكاسترو، وبعدها قرر السفر إلى بوليفيا حيث اختفى هناك حتى أعلن عن جرحه وأسره ثم إعدامه.
وإذا كان عبدالناصر أو بن بيلا قد رحبا بحماسةِ جيفارا وانجذبا معه بصداقة مديدة، لكنهما كل من موقعه حاولا تبصيره بتعقيدات النضال في إفريقيا، وقد سهل بن بيلا جميع متطلباته، بما فيها كما يقول وضع معاونته الشخصية مريم مرزوق في خدمته، التي شعرت بصداقة قوية تجذبها إلى جيفارا، الذي داعبها مازحاً ذات يوم "أشعر بأن روحي مسلمة لأني متعدد الزوجات، واعتقد أن بالإمكان محبّة عدّة نساء في آن واحد"، حيث كان متزوجاً مرتين.
يقول بن بيلا: كنت أحاول لفت انتباهه إلى أن خياراته في العمل المسلح، ليست الطريقة الأجدى في مساعدة النضج الثوري الذي ينمو في القارة الإفريقية، فإذا كانت ثورة مسلّحة، فيمكن أن تحظى بدعم خارجي، إلا أنها لا بد أن تتهيأ الظروف الذاتية التي تعتمد عليها، لكنه كما يذهب بن بيلا ظلّ مصرًّا على خياره، وصادقاً في اختياره مضحياً بحياته من أجل ذلك.
ويلخّص بن بيلا علاقته بصديقه جيفارا بالقول: "من بين جميع السياسيين الذين التقيتهم في حياتي، ترك جيفارا عندي انطباعاً أكثر من الآخرين.. كان يحب الجزائر كثيراً وبقي فيها مدة أطول مما يعتقده الناس، من خمسة إلى ستة أشهر مع ذهاب وإياب.. كان ثورياً من النوع غير المألوف، إنسانياً.. كان يعرف أن يعيش وأن يتألم، كان رجلاً ساخراً حتى من نفسه، شجاع ومتيقظ..".
ويمضي بن بيلا بالقول: وذهب إلى كابيندا في أنغولا، ثم إلى الكونغو برازافيل (البرتغالية كما تسمّى)، ولم يكن مرتاحاً من علاقاته مع بعض الأحزاب الماركسية للدول التي زارها، ولعلّه كان ساخطاً على مفاهيمها وتطبيقاتها، الأمر الذي ترك عنده خيبة أمل ومرارة كبيرة، وهو الذي حاول التصدي لقتلة لومومبا وإذا به يحاصَر، فكرياً وسياسياً، ويداهمه المرض، ليضطر إلى الرحيل بعد فشل تجربة الكونغو كما يقول، ثم يرحل ليلتقي بكاسترو ويغادر بعدها راكضاً وراء حلمه، ليقتل في بوليفيا، وفي ذلك روايات كثيرة وجدتها في كوبا ولدى أوساط الثوريين القدامى والشباب مع تفسيرات متباينة، سأحاول المرور عليها.