استقالة بشارة انتحار سياسي بالبث مباشر


اسماء اغبارية زحالقة
2007 / 5 / 8 - 10:48     


استقالة رئيس التجمع على خلفية الحملة الاسرائيلية ضده، تعتبر سابقة مهمة وخطيرة؛ مع ان الحملة خطيرة، ولكن ليس فيها نقلة نوعية ضد الجماهير العربية التي يحفل تاريخها بالمواجهات مع الدولة؛ الانتهازية والتطرف اللذان قفز بينهما بشارة هما وجهان لعملة واحدة، وقد غطت هذه السياسة على فقدان التجمع لبرنامج واقعي ملائم للجماهير العربية في اسرائيل، وهو المعنى السياسي لاستقالة رئيسه.
اسماء اغبارية

استقالة رئيس حزب التجمع الوطني الديمقراطي، النائب عزمي بشارة، من الكنيست الاسرائيلي هي سابقة خطيرة ومهمة في الحياة البرلمانية في اسرائيل وفي حياة الجماهير العربية في البلاد. فقد كان بشارة نائبا ذا حضور قوي في الاعلام الاسرائيلي والعربي، وجذب اهتمام مؤيديه ومعارضيه على حد سواء.

في تفسيره لاستقالته قال بشارة انها نابعة من محاولة لتفويت الفرصة على اليمين الاسرائيلي كيلا يستغل الحملة للتحريض عليه لنزع حصانته. واكد بشارة في اكثر من مقابلة انه اتخذ قرارا بالاستقالة منذ ايلول (سبتمبر) الماضي، "بعد ان تبين له ان البقاء في الكنيست لم يعد مجديا في ظل ما اسماه "الجوقة اليمينية الاسرائيلية" التي تُحكِم سيطرتها على الكنيست" (الجزيرة نت، 22/4). واشار ايضا للمصدر ذاته "انه شخصيا استنفذ كل امكانياته وطاقاته كعضو في الكنيست".

التهم الامنية الخطيرة المنسوبة اليه سرّعت في اتخاذ بشارة لقرار الاستقالة. وقد نشرت في 25/4 قائمة جزئية بالتهم منها اعطاء معلومات لعدو اثناء الحرب (حرب لبنان)، الاتصال بعميل اجنبي واختراق قانون منع تمويل الارهاب. وكان بشارة قد اجّل الاستقالة كيلا تُنزع عنه الحصانة وهو في البلاد فيتم اعتقاله من بيته على الفور حسب حجم التهم حتى نهاية التحقيق، كما قال في حديث اول لاذاعة الشمس المحلية (13/4).

وصرح في المقابلة الاذاعية نفسها ان الحديث يدور عن "قواعد لعبة جديدة تماما مختلفة لا يتميز فيها القضاء الاسرائيلي بالحياد في مثل هذه الحالات". وفي اشارة الى خطورة التهم وما قد يترتب عليها قال بشارة للجزيرة: "انه لو اختار العودة حاليا الى اسرائيل فانه لن يتمكن من مغادرتها قبل سنتين او ثلاث على ابعد تقدير".

ونتساءل، كيف وصل النائب اللامع الى هذه المرحلة الخطيرة والحرجة، وماذا ستكون انعكاسات ذلك على الجماهير العربية في البلاد وعلى الحركة التي أسّسها، التجمع الوطني الديمقراطي؟



التجمع: بين الانتهازية والتطرف
يمكن تقسيم سيرة حزب التجمع التي بدأت منذ عشر سنوات تقريبا، الى مرحلتين اساسيتين. الاولى: منذ التأسيس عام 1996 وحتى انتفاضة اكتوبر عام 2000، وهي مرحلة الانتهازية؛ والثانية: تمتد من عام 2000 وحتى حرب لبنان الثانية 2006، وهي مرحلة التطرف. ابتدأت السيرة بدعم رئيس حزب العمل، شمعون بيرس، لرئاسة الحكومة في انتخابات عام 1996، وانتهت بدعم حسن نصر الله، امين عام حزب الله، في الحرب الاخيرة ضد اسرائيل. كيف يمكن تفسير القفزة البهلوانية بين بشارة البراغماتي وبشارة الذي لا يعرف المساومة ويحدد بشكل واضح بين الاسود والابيض؟

حتى اكتوبر 2000 عبّر بشارة عن انتمائه للمؤسسة الاسرائيلية، اولا من خلال دعمه لبيرس في 1996 ثم لايهود براك (حزب العمل) عام 1999، عندما تنازل له عن ترشيح نفسه لرئاسة الحكومة مقابل ورقة من ست نقاط هزيلة. ونادى التجمع (مع الجبهة والحركة الاسلامية الجنوبية ايضا) الجماهير العربية للتصويت لبراك لرئاسة الحكومة.

وبالفعل لبّى 99% من العرب النداء، وعلى اكتافهم وصل براك لرئاسة الحكومة. ولكن في اليوم التالي أدار براك ظهره للاحزاب العربية، وأدخل لائتلافه حزب المستوطنين وميرتس. وسرعان ما اكتشفت الجماهير العربية ان سلام بيرس كان كاذبا، وان شعار براك "الدولة للجميع" كان وهما انفجر بذبح 13 مواطنا عربيا في انتفاضة اكتوبر 2000.

هبّت الجماهير العربية في اكتوبر بسبب احباط عميق واحساس بالخديعة. فلا شيء من كل الوعود المعسولة تحقق، لا سلام ولا ازدهار اقتصادي، البطالة ارتفعت الى اعلى نسبها بين العرب والفقر تعمق. الفجوة بين الجماهير العربية والدولة اتسعت الى درجة غير مسبوقة.

بشارة، الانسان السياسي المحنّك، تمكن من شمّ اتجاه الريح، فانجرف وراء التيار بحثا عن الشعبية، وكانت هذه بداية دخوله مرحلة التطرف. ويبدو انه تبلبل عندما اعتبر الانتفاضة مدَّا قوميا، بينما كانت في الحقيقة هبة شعبية اجتاحت المناطق المحتلة واسرائيل، الى ان اختطفتها التيارات السياسية سواء فتح او حماس، وعسكرتها لمصالحهما السياسية الضيقة.

بكل سهولة غيّر بشارة المسار، وقفز من دعم بنسبة 99% لبيرس وبراك الى دعم بنسبة 99% لموقف الانتفاضة والمقاومة اللبنانية وكل مقاومة مشروعة ضد اسرائيل. منذ ذلك الحين فتح بينه وبين المؤسسة الاسرائيلية مواجهة مفتوحة، انتهت باستقالته.



خطر قديم

الخط الذي تبنّاه التجمع في مواجهة الهجمة الامنية التي ادت لاستقالة رئيسه من الكنيست، يعتبر الحملة عليه وعلى رئيسه جزءا من هجمة شاملة وتصعيد جديد على الجماهير العربية في اسرائيل.

لا شك ان احداث اكتوبر 2000 تركت آثارا عميقة وخطيرة على العلاقة بين اليهود والعرب. وقد انعكس هذا التحول في تشديد الطوق الامني، واتخاذ تدابير واجراءات ضد الجماهير العربية، لعل اخطرها "قانون المواطنة والدخول لاسرائيل" العنصري الذي يحظر لمّ الشمل بين العائلات الفلسطينية من كلا طرفي الخط الاخضر. ومع ذلك، نشك ان تكون الملاحقة المباشرة ضد عزمي بشارة نقلة نوعية جديدة لم نعرفها من قبل في علاقة الدولة بالمواطنين العرب.

موضوع النقلة النوعية خاضع للفحص بسهولة، حسب رد فعل الجماهير، وهي حاليا لا ترد كما حدث في عدة حالات شعرت فيها بالخطر الداهم من جانب الحكومة. وكانت اهم واشهر هذه الاحداث ما وقع في يوم الارض 1976. في ذلك الحين نشطت لجنة الدفاع عن الاراضي التي شكّلها الحزب الشيوعي، ودعت للاضراب العام ردا على اعلان الدولة عن مصادرات واسعة للاراضي العربية لاهداف التهويد. في تلك الفترة كان هناك تماثل تام بين القيادة والجماهير، ولم تفلح محاولات الحكومة في عزل القيادة عن الجماهير، رغم التحريض على القيادة وحتى الاعتداء الجسدي عليها. ونجح الاضراب العام. لقد تمكن العرب من التصدي للهجمة، وقدموا ستة شهداء أفهموا من خلالهم الدولة بان الترانسفير لم يعد واردا.

اما في حالة التجمع فقد تمكنت الحكومة من عزل القيادة عن الجماهير، وحصرت المشكلة في بشارة نفسه. فالتهم لا تتعلق بموقف التجمع السياسي العام، كما كان الحال في المرات السابقة، بل تركّز هذه المرة على علاقات بشارة بالنظام السوري وزيارته لبيروت مباشرة بعد حرب لبنان الثانية، وتصريحاته اللاذعة من هناك ضد الحكومة الاسرائيلية. فبشارة والتجمع لم يكتفيا بالتعبير عن الموقف المعارض للحرب، والذي كان جزءا من اجماع شمل كل الاحزاب العربية في البلاد، وانما قام بخطوة كان يعرف انها تتجاوز حدود الشرعية التي تحددها الديمقراطية الاسرائيلية المحدودة.



خطاب عقيم

يدّعي التجمع ان سبب التصعيد الامني "الجديد" على العرب، هو خطاب التجمع السياسي الداعي لتغيير الطابع اليهودي للدولة، والذي انتشر في بعض النخب السياسية والاكاديمية الحقوقية. وهو الخط الذي تعتمده وثائق التصور لمستقبل العرب في اسرائيل، والتي تصدر مؤخرا عن جمعيات مختلفة في البلاد، وتنادي الدولة بتغيير طابعها اليهودي، ومنح الاقلية العربية حكما ذاتيا، هذا بعد ان تقر وتعترف بجرائمها في نكبة ال48 وتعوّض العرب عن الاضرار التي لحقت بهم جرّاءها.

لا شك ان كل دعوة لتغيير الطابع اليهودي للدولة تثير قلقا حقيقيا في اوساط المؤسسة الحكومية والامنية، خاصة بعد احداث اكتوبر. ومع ذلك، فالمخابرات نفسها تقول في التقرير الذي نشرته صحيفة "معاريف" (13/3) ان وثائق التصور محصورة في نخبة من الاكاديميين وان اغلبية العرب لا تعرف بوجودها. واشارت بعض الاحصائيات ان 15% فقط من العرب يعرفون بوجود هذه الوثائق، وان 5% فقط قرؤوها.

والحقيقة ان الجماهير العربية لا تقرأ هذه الوثائق ولا تهتم اصلا بالسياسة والاحزاب، لانها مشغولة بهموم يومها ومطاردة لقمة عيشها التي صارت مهددة، بسبب السياسة الاقتصادية الجديدة التي رفعت نسبة البطالة وعمقت الفقر حتى طال اكثر من نصف العرب. كما انها لا ترى آلية لتحقيق ما تطلبه الوثائق من حكم ذاتي ودولة ثنائية القومية، في حين انها تهمل قضايا اساسية ملحّة للجماهير العربية واولها مواجهة الفقر والبطالة. وإن دلّت هذه الوثائق على شيء، فانما تدل على الهوة المتسعة باستمرار بين النخبة المثقفة وبين الجماهير.

خطاب التجمع والوثائق تنجح فعلا في فضح الطبيعة غير الديمقراطية لاسرائيل، ولكن بصرف النظر عن صحة الاولويات المطروحة وتوقيتها (حكم ذاتي ودولة ثنائية القومية، الآن!)، يبقى السؤال الكبير هو كيف ينوي اصحاب هذا الطرح تحقيقه؟ ولا نفهم ما المنطق في ربط هذا المطلب بسياسة عامة تدعم اليوم النظام السوري وحزب الله؟ اي منطق يجعل زعيما يربط حزبه بمآرب واهداف معسكر ايران، سورية وحزب الله الموجود في مواجهة مع اسرائيل؟

يقول بشارة ان غضب الدولة نابع من "رفضنا اعتبار اعداء اسرائيل اعداءنا". ولا يبدو هذا الادعاء مقنعا، ففي حرب ال1967 دعم الحزب الشيوعي الاسرائيلي الزعيم المصري جمال عبد الناصر في حربه مع اسرائيل، وكذلك دعم السادات في حرب ال1973. الكثير من النشيطين العرب واليهود دفعوا ثمنا سياسيا ودخلوا السجون بسبب علاقاتهم مع منظمة التحرير الفلسطينية حين كانت اللقاءات ممنوعة، انطلاقا من دعمهم لنضال الشعب الفلسطيني. ولكن الفرق بين تلك التجارب وبين حالة التجمع، ان حزب الله والنظام السوري بعيدان كل البعد عن البرنامج التقدمي الاشتراكي الديمقراطي التحرري الذي مثّلته منظمة التحرير ونظام عبد الناصر، اللذين تمتعا بدعم ساحق من شعبهما والشعوب العربية والعرب في الداخل.



الاستقالة نهاية الطريق
استقالة رئيس التجمع من الكنيست، تحمل اكثر من معنى. صحيح ان بشارة قال انه سبق ان أبلغ حزبه بنيته الاستقالة للتفرغ للعمل الفكري والادبي، بادعاء انه استنفذ طاقاته كنائب بعد عشر سنوات من العمل البرلماني. ولكن عشر سنوات لا تعتبر فترة زمنية طويلة مقارنة ببقية الاحزاب الاساسية. والواقع ان الملابسات التي ادت للاستقالة والتصريحات التي رافقتها لا تشير الى ان الرجل يريد فتح الطريق امام آخرين ليخلفوه.

فقد اعتبر ان العمل البرلماني "لم يعد مجديا"، كما قال للجزيرة، بسبب الاحزاب اليمينية. وقال لراديو الشمس في المقابلة المذكورة انه "من ناحية المستوى القيادي لعرب الداخل.. هل هنالك اكثر نطمح اليه، هل لدينا حكومة ماذا لدينا ان نطمح سياسيا". وهي تصريحات تشير الى ان التجمع ايضا وكل الاحزاب العربية ليس لها ما تفعله في البرلمان الاسرائيلي.

واضح ان سياسة وخطاب التجمع في الكنيست، أثارا نقمة النواب الاسرائيليين حتى انهم امتنعوا عن سماعه. كما قام الاعلام الاسرائيلي بمقاطعة بشارة بعد ان كان ضيفا عزيزا (قبل الانتفاضة)، فذهب يفتش عن بديل في الاعلام العربي الذي احتضنه بحرارة. القطيعة بين الحزب وبين الرأي العام الاسرائيلي قيّد الدور البرلماني للتجمع، وجعله مجرد منبر لتسجيل المواقف الاحتجاجية. وعندما اصبحت امكانية التحرك والتأثير محدودة للغاية، تحول البرلمان الى عمل مملّ وغير مجدٍ.

الامر الثاني متعلق باجندة التجمع الذي حدّد لنفسه سقفا عاليا جدا: تغيير الطابع اليهودي للدولة. ولكن في الطريق الى تحقيق الهدف لم يجب عن السؤالين: ما الآلية لتنفيذ المطلب؟ وهل يستجيب فعلا للحاجات الملحة للجماهير العربية التي انتخبته؟ وسرعان ما اتضح ان الطريق لتحقيق المطلب بالعمل البرلماني كانت مسدودة امام الحزب. وبقيت الساحة الوحيدة امامه العمل الجماهيري. ولكن المظاهرات والتحركات القليلة التي نظّمها التجمع في المناسبات الوطنية المختلفة، حتى في خضم حرب لبنان، أشارت الى انه لم يحرك سوى بضعة مئات من الجماهير، وهي قاعدة اقل بكثير من ال70 الف الذين صوتوا له في الانتخابات الاخيرة.

استقالة بشارة والنفي الذاتي يخلقان الشعور بانه لا جدوى من العمل السياسي داخل اسرائيل، وان من يريد ان يقوم بهذا العمل فعليه القبول بالوصاية الاسرائيلية، كما المح بشارة عدة مرات، كانت الاولى في راديو الشمس حين قال: "ربما بعض الاحزاب سيكتب لها البقاء والاستمرار في ظل الهيمنة الصهيونية، ولكن ستفقد هويتها ستفقد ذاتها".

ويبدو من هذا الكلام ان بشارة يعكس الاحباط الذاتي على الجماهير وعلى نضالها الطويل والتجربة السياسية والنضالية الطويلة جدا التي خاضتها منذ قيام الدولة. فبالنسبة لبشارة التاريخ السياسي للجماهير العربية يبدأ عام 1996 مع تأسيسه للتجمع، وينتهي عام 2007 باستقالته.

الانتهازية والتطرف اللذان قفز بينهما بشارة، هما وجهان لعملة واحدة. وقد غطت هذه السياسة على فقدان التجمع لبرنامج واقعي ملائم للجماهير العربية في اسرائيل، وهو المعنى الحقيقي لاستقالته.

ان عملية بناء حزب تحتاج اولا لصياغة برنامج فكري سياسي واقعي يطرح رؤية واستراتيجية مستقبلية، ويكون قريبا من هموم الجماهير اليومية. والاهم، هو القراءة السياسية للواقع العالمي والعربي ولكن الاسرائيلي ايضا، واشتقاق معايير الممكن وغير الممكن، حماية الجماهير من الدخول في مواجهات لا قابلية لها لامتصاص ردود الفعل عليها، وتحديد الخطوات التي من شأنها خدمة الاجندة السياسية للحزب وللجماهير التي يمثلها.