مباحث ماركسية: تقديم


مجدي الجزولي
2007 / 5 / 3 - 11:46     

تعني عبارة "متغيرات العصر" في أدب الشيوعيين السودانيين جملة الأحداث الجسام التي قرر التاريخ أن تكون ختاماً للقرن العشرين وفاتحة للألفية الجديدة. استخلصت التجربة الفكرية والعملية للحزب الشيوعي من بينها ثلاثة قضايا رئيسة تحت عناوينها تتفرع شبكة متداخلة من الأسئلة والموضوعات الضاغطة، والتي لا تتسنى في الحق للإجابة إلا من خلال تزاوج النظر والعمل حيث لا سبيل إلى الفصل فيها بقول خاتم نأتي به من بطون الكتب قديمها أو جديدها. القضايا الثلاثة الرئيسة هي انهيار التجربة السوفييتية، العولمة، والثورة العلمية التكنولوجية، وجميعها مشمولة بقصد تحرير الماركسية من الجمود والبحث في مستقبل الفكر الاشتراكي.

(1)
في الواقع تصعب الكتابة المنضبطة عن "الماركسية" معرفة هكذا بالألف واللام، فماركس لم يكتب نظرية فلسفية تفسر العالم على نسق ما سبقه من مفكرين، وليس هذا مما يعيبه، فقصده الفكري كما شرح في مقولته الشهيرة لم يكن تفسير العالم كما هو عليه بل تغييره. من هذه الزاوية توسل ماركس السبل إلى هذا التغيير عبر دراسة عملية للواقع وتبصر في التاريخ. قاده بحثه التاريخي إلى الخروج من الحصن الهيغلي وإلى نقد بناء لمادية فورباخ. هذا النظر في المادية والمثالية لم يكن تأملاً صرفاً مجرداً، بل تماسك ملموساً بإفادة ماركس من كشوف مورغان في الأنثربولوجي ومعارف المؤرخين الفرنسيين. من هذه المصادر ومن غيرها طور ماركس "المفهوم المادي للتاريخ". في الحق ليس ماركس من دبج هذا الاصطلاح، لكنه من جعل منه بفضل تطبيق ديالكتيكي منبعاً لثراء نظري وفكري ما انفك منهلاً للفكر الانساني في عمومه، فليس اليوم من يستطيع التراجع عن مكتسب ماركس في هذا الصدد. بل ربما كان ماركس على المدى الطويل من أفاد البرجوازية بتنبيه أهلها إلى تاريخية حكمهم وسطوتهم، وتعريفهم بإتجاهات التاريخ التي لا بد ذاهبة بالرأسمالية إلى مزبلة التاريخ في قول لينين.

(2)
دراسة ماركس لواقعه التاريخي في القرن التاسع عشر خرجت به من تخصصه الأكاديمي في الفلسفة إلى بحث الاقتصاد السياسي الذي تفرغ له بمهجره اللندني ليس فقط بنقد اقتصاد ريكاردو وآدم سميث كما تفيد تسمية كتابه (رأس المال) لكن باجتراح سبل بعث مستقبل يتوافق مع مسيرة التاريخ المتقدم كما تصورها، وينتهي بالاجتماع البشري إلى التخلص من (الاستغلال) كضرورة لازمت الإنتاج المادي منذ فجر الحياة الانسانية على الكوكب، وذلك بفك التناقض بين (الملكية) و(العمل) واستحداث علاقات إنتاج "اشتراكية". في هذا الخصوص كان كشف ماركس ذي المرتبة الأعلى أن أعاد تركيب "المفهوم المادي للتاريخ"، ثم أخذ في تجريبه وتمتينه بالتطبيق على التاريخ الأوروبي، بل امتد هذا الجهد لاختبار "المفهوم" خارج الساحة الأوروبية، ولعل أكثر ما يلاقي دارس ماركس من عنت هو في هذه الساحة فالمعلم ما انفك يعدل ويصحح من مقولاته في شأن (المستعمرات) كلما أصاب في هذا الباب علماً. لكن حياة ماركس انقضت قبل أن يكتمل فقهه هذا عملاَ متماسكاً على شاكلة (الآيديولوجيا الألمانية) و(الثامن عشر من برومير لويس بونابارت).

(3)
توفي كارل ماركس في 14 مارس 1883م، في 17 مارس وقف رفيق عمره فردريك انجلز في مقبرة هاي بارك يذكر ساعة "توقف أعظم مفكر عن التفكير". في ذلك الخطاب الشهير ماثل انجلز بين كارل ماركس وبين شارلز داروين فقال: "كما اكتشف داروين قانون تطور الطبيعة العضوية اكتشف ماركس قانون تطور التاريخ البشري". والمقصود المفهوم المادي للتاريخ والقائم على حقيقة بسيطة تتكاثف لحجبها الآيديولوجيات مفادها أن الانسان يجب في الأول أن يأكل ويشرب ويجد المأوى قبل أن يكون في استطاعته الاهتمام بالسياسة والعلم والفن والدين، أي أن إنتاج الوسائل المادية الضرورية للعيش وبالتالي درجة التطور الاقتصادي هي التي تشكل الأساس الذي تقوم عليه مؤسسات الدولة ومفاهيم السلطة السياسية والقانونية وحتى الأفكار حول الدين، وعلى ضوء الحقائق المادية الأولى نفسر المفاهيم المعنوية الثانية وليس العكس. أضاف انجلز إلى هذا الإنجاز كشف ماركس عن قانون الحركة الخاص بنمط الإنتاج الرأسمالي، أي فائض القيمة، ونقده الديالكتيكي للمجتمع البرجوازي الذي تخلق من واقع هذا الإنتاج استناداً على مفهوم "الاستلاب". في هذا المقام قال انجلز: "إن هذين الاكتشافين لأمر كاف في حياة شخص، وسعيد من كان سيتحقق له اكتشاف واحد منهما فقط دون الآخر". ختم انجلز خطابه بتقرير أن كارل ماركس كان "رجل علم"، إلا أن تصوره للعلم كان تصوراً حركياً بل ثورياً. والحق أن معايشة ماركس للانفجار الصناعي جعلته ينظر بعين ثاقبة إلى التبعات الإنتاجية والاجتماعية والتاريخية لكل إنجاز علمي، وبالتالي كان فقه الثورة عنده متقدماً ورؤيوياً، لا تابعاً وتفسيرياً فقط. لعل في سعي ماركس هذا لتوطين الثورة في حزام العلوم، بما في ذلك الطبيعية، وقد جاء في وقت طغت فيه التصورات الميكانيكية تاريخاً وطبيعة بحسب ابتهاج العصر بتقدم الآلة، سهل على تابعين وتابعي تابعين (تلخيص) ماركس في مقولات شبهها بيقين التقرير في العلوم الطبيعية أكثر من الصيغ التساؤلية والشكوكة في العلوم الاجتماعية. هذا من جهة، كما أتاح أيضاً عبر هذه الروح، كما هو وارد في تعبير انجلز عن شبه ماركس بداروين، أتاح الخلوص إلى تصور يكافئ "القانون" لا حوار الديالكتيك. وقد شكى ماركس نفسه من الحتميات المخلة التي أخذ القوم يستقونها من غنى فكره حتى أعلن أنه ليس ماركسياً.

لا يفوت على فطنة القارئ الصبور لماركس جرح هذا النصل المتوتر بين الطلب العلمي لإدراك التاريخ ومساره وبين التحريض السياسي والآيديولوجي. بل أن ماركس مدركاً لهذا التوتر أخذ على نفسه مهمة فرز هذا من ذاك بتعظيم شعيرة النقد على غيرها. كما أن النعت السائد لاشتراكية ماركس بالاشتراكية "العلمية" تعكس هذا الطلب بإلحاح. الأدلة على نقد ماركس لنفسه قائمة لا جدال فيها وأبرزها تطور رؤاه بخصوص المستعمرات، ما سنأتي على بيانه لاحقاً. لكن في هذه الكلمة نكتفي بالتنبيه إلى أن "ثورية" الماركسية ليست مما يتأتى بمحض النصوص الماركسية الموروثة، وإنما هي في اكتشاف هذا النصل في المرحلة التاريخية المعينة بتقدم الإدراك العلمي لهذا التاريخ وفرز القوى الثورية والمهام الثورية فيه، ليس بالتراجع إلى ما سبق، وإنما باهتبال القادم بقدر من الثقة ذات التوتر الشكوك بحيث لا ينكسر العمل من فرط التردد، ولا يصمت الفكر الناقد من فرط الإيمان!

(4)
في هذا الباب يسعفنا ابن الدوحة الماركسية أصيل الشك جان بول سارتر (1905 – 1980م)، وذلك في مقاله الشهير "الماركسية والوجودية" المنشور ضمن كتابه "نقد العقل الديالكتيكي" (1960م) حيث يؤكد فيلسوف ثورة 1968م ما سبق وأكده مدرس فرانكفورت هوركهايمر، وماسبق به ماركس من قبل، أن "الحقيقة بنت زمانها" شارحاً أن الفلسفة لا يكتب لها عمراً أطول من عمر ممارستها، فالممارسة هي التي تحمل الفلسفة وتضئ مكنونها، فحياتها في توطنها بين الجماهير فقهاً للتحرير. زاد سارتر أن أي حجة مضادة للماركسية هي بالضرورة عودة إلى ما قبل الماركسية، بل أن مساعي "تجاوز" الماركسية هي آخر الأمر ذات العودة إلى ما قبلها ليس إلا، أو بلفظ أشد: هي "الرجعية". ليضيف أن فلسفة الواقع ترتبط في الجذر بحاملها الاجتماعي، وهي في واقعيتها لا تتحنط كوحدة مكتملة للعلم بل هي تهجم على المستقبل لتشق طريقها صانعة له بما هي نتاج مشدود للحراك الاجتماعي. على هذا الأساس ميز سارتر بين "الفلسفة" وبين "النظرية النقدية" جاعلاً الماركسية في الخانة الثانية كونها سلاح المقهورين ضد القهر. كأقرانه في مدرسة فرانكفورت كان هم سارتر أن يستنير باللحظة النقدية للماركسية فعاب على السوفييت ما قادتهم إليه الدولة من فصل "غير ماركسي" البتة بين النظرية والممارسة بحيث أصبحت النظرية "علماً ناجزاً ومتكلساً"، وأصبحت الممارسة "تجريباً عديم المبادئ" فانحطت إلى عوالم "المثالية" السابقة للماركسية، أي حيث حراك المجتمع وفعله خاضع لأفكار مسبقة مصدرها البيروقراطية المكتبية، بما يتناقض مع الخبرة المنظورة والشروط التاريخية. ساق سارتر لبيان ما سبق واقعة بناء مترو الأنفاق في بودابست الاشتراكية من باب الاستدلال الطريف: عندما اتضح أن التربة في بودابست لا تلائم مثل هذا المشروع أعلنت الإدارة الحزبية أن التربة مضادة للثورة! عليه، فإن النظرية غدت آيديولوجيا للتبرير، وليس التحرير، والمفاهيم الماركسية أصبحت علماً أبدياً يسعى الماركسي إلى تدجين الواقع في أقفاصها، لا استكشاف الواقع بنصلها، ومن ثم لم تعد نقداً، بل سجناً يُعدم فيه كلما لا يتفق ومطلب التماثل بعبارة أدورنو.

(5)
على أساس ما سبق ظني أن الأمر في الماركسية ليس "المراجعة" و"التصويب" فهم كهذا يحيلنا إلى الماضي، ويجعل من فكر الثورة "أصلاً" نعود إليه كما النص الديني، وبالتالي نشيد في الوهم "مثالية أصولية" نرقع الواقع بعباءتها. لكن القضية أن نستكشف "ماركسية" قرننا الواحد والعشرين، ما يشير إليه غرامشي بعبارة "فلسفة الممارسة"، أو بحسب كلمات ماركس وانجلز: "إن سؤال قدرة الفكر الإنساني على إدراك الحقيقة الموضوعية ليس سؤالاً نظرياً، بل هو سؤال عملي. على الإنسان أن يثبت حقيقة فكره، أي واقعيته ونفوذه، من خلال الممارسة. إن أي جدال حول واقعية أو عدم واقعية الفكر مفصولاً عن الممارسة هو جدال مدرسي". في العام 1999م قامت هيئة الإذاعة البريطاني (البي بي سي) باستبيان بين زوار موقعها على الإنترنت لتحديد أهم مفكر في القرن العشرين، ثم مرة أخرى في العام 2005م لتحديد أعظم فلاسفة التاريخ، في الإثنين تصدر "ماركس" القائمة، بفارق مقدر من المرتبة الثانية، وحيداً معزولاً في القمة، ولعله كان سيحتج على هذه النتيجة إذا علم أن هيغل لم يلحق بالعشرة الأوائل، وكذلك جان جاك روسو. قال سماك ألماني من ساسنيتز معلقاً على نتيجة الاستبيان: "لا أصدق، ماركس رجل الألفية، هذا أمر جيد، فهو ليس المسؤول عما قامت به قيادتنا في ألمانيا الشرقية من تخريب. عندما أنظر إلى حالنا بعد الوحدة يتأكد لي أنه كان على حق. ما عليك إلا أن تعتبر في المشاكل التي تواجهنا اليوم، لكني رغم ذلك لا أعلم كيف يمكننا أن نغير كل هذا". أصاب السماك وأخطأ المتراجعة، والقضية آخر الأمر: كيف يمكننا أن نغير كل هذا، هذه هي الماركسية!