الحركة الإسلامية: يَهْدُوكْ مِنْ المَبيتْ تَقَيِّل كُتُرْ-2


مجدي الجزولي
2007 / 4 / 3 - 11:36     

فاضت الصحف في الآونة الأخيرة بسجالات متتالية بين رموز الحركة الإسلامية المتوزعين على تيارات تفرقت بها السبل، يبحثون جميعاً بطريقة أو أخرى عن وسيلة لإنقاذ (إخوانهم) السادرين في الغي ما زالوا. ولقد تابع الكثيرون من القراء هذه السجالات بأمل أن يخرج من بين الإسلاميين من يرى النور بعد الغشاوات، وهو عندنا أن مشروع الإسلاميين السودانيين قد وصل حضيضه النهائي!

إذا تسنى الاتفاق على أن قسطاً معظماً من شجار مثقفي الإسلام السياسي يعود إلى إحباط نفر منهم من انحطاط (اليوتوبيا) التي رعوا في الخيال؛ ومن ثم قبلنا التمييز بين الدين في صيغة (اليوتوبيا) والدين في صيغة (الآيديولوجيا) وتنزل هذه الآيديولوجيا في درك (الممارسة) فإن لنا ما نجادل به متوخين بعض الحذر أيضاً من أن نصيب قوماً بجهالة! ولعل هذا التمييز هو ما أراده الشهيد عبد الخالق محجوب في مقالته حول (الدستور الإسلامي)، حينما تنادى أهل الطبقة السياسية في السودان إبان الستينات إلى هذه الدعوة، فرد عليهم بأن المسألة ليست في كون الدستور يحمل شارة الإسلام أو يعدمها، بل في محتوى الدستور. وزاد أن دعوتهم لم تأت طلباً لإنصاف (الغالبية المسلمة) كما أشاعوا، وإنما فزعاً منهم من تنامي المد الديموقراطي بعيد ثورة اكتوبر المجيدة، والذي لمسوا فيه صحوة شعبية تهدد سلطتهم الاجتماعية التي ما فتئت تؤمن لهم السيطرة على مجريات الديموقراطية البرلمانية متى ما برزت صناديق انتخاباتها. وأضاف من جهة نقد التهافت على (الدستور الإسلامي) أن قوى الهيمنة البرجوازية ما كان لها يوماً ما تؤمن به موقفها فكرياً ولا برامجياً، بل أنها من فرط ضعفها جعلت عضدها الأساسي الاستقواء بالطوائف شبيهة الإقطاع مع تعضيدها بخريجي المدارس ممن يناصرون مصالح البرجوازية؛ وعليه فإن سعيها نحو (الدستور الإسلامي) ليس سوى تكتيك سياسي في سياق التكالب على الحكم أو الخوف من ذهابه. بهذا المدخل وفق عبد الخالق في نسب قضية (الدستور الإسلامي) إلى دنيويات السياسة المعلومة لكن دون التبخيس الفظ لأمل جعله الإسلاميون بوابتهم لقلوب جماعة السودانيين المسلمين. لكن لم يدم الحوار العقلاني حول المسألة طويلاً إذ اكتشف الإسلاميون السودانيون القوة (الشعبوية) الكامنة في خطاب (التديين) فاختاروا هذه الوسيلة دون غيرها السلاح المفضل في التنازع السياسي، ودفعوا من ثم بتعارض الإسلام والعلمانية في سوق الاستثمار السياسي. وأصابوا من ذلك إنجاز كيد باكر بطرد نواب الحزب الشيوعي من قبة البرلمان في إطار حملة شعواء على منجزات الديموقراطية السودانية الثانية كما تبدت في مؤسساتها التشريعية والقضائية.

من هذا التمييز نلج ساحة للجدال قطباها مفهومان أصبحا جزءاً من لجاج جدب الفكر الذي أشار إليه عبد الخالق محجوب والسودان ما زال بخيره على حد شهادة أساتذتنا فالعصر عصر الستينات، أي التناقض المتكلس بين (الشريعة) و(العلمانية)؛ تناقض أخرج آدم السودان من جنته وتلبسته ضغائن الكيد لا مساعي إصلاح الدستور. ولقد كان هذا الإصلاح شاغلاً للشيوعيين السودانيين منذ فجر الاستقلال، إلا أن وسيلتهم إلى ذلك كانت تعبئة النصرة الجماهيرية والبرلمانية المنظمة لا (الشعبوية) وفق مفهوم متقدم لمشاركة الجماهير في صياغة المستقبل بحسب مصالحها الملموسة. بالمقابل اتفق للإسلاميين أن يجعلوا من طلبهم إصلاح الدستور باباً لتقويضه بالكلية على أساس من تصور (انقلابي) يصرعون به الدولة ويقيمون أخرى. والدليل أن تمكين (الشريعة) على طريقة الإسلاميين لم يتأتى لهم إلا ضربة لازب من فوق دبابة ما: (نميرية) ومن بعد (بشيرية)، لكنه لم يكن مشروعاً يتقدم في مجرى إصلاح قانوني بحسب ما يتطلبه هذا الإصلاح من تدارس وتداول وتعاهد بين أمة المسلمين السودانيين (حسنى قرآنية) وليس (عافية سلطانية)، فكأنما مسلمي السودان أقوام جاهلية غزتها قوة الإسلام السياسي بليل. لتسويق دعواهم في (تديين) الدولة استثمر الإسلاميون في تصور للتعارض بين مفهومين كلاهما حمال آيديولوجيا بحسب الرغبة، فجعلوا من (الشريعة) مشروعاً سياسياً، ونصبوا (العلمانية) مناقضاً موضوعياً للشريعة، بل للإسلام. كما جردوا المفهومين من كل ارتباط بالواقع، وقذفوا بهما في عالم مثالي من الخير والشر تصطرع فيه الإرادات الأبدية. والواقع أن خبرة الممارسة التي حملت هذا الشعار أو ذاك تعود بنا إلى تمييز عبد الخالق بين الشكل والمضمون وهنا بيت القصيد. على سبيل المثال، ما كان حكم عصابة عبود إسلامياً ولا كان حارساً لبيضة الشريعة إلا أنه نال (أجر) حملة عظمى للأسلمة والتعريب في جنوب السودان لا تماثلها في الحماسة والإصرار سوى حملات الإسلاميين خلال عهد التسعينات. من الجهة الأخرى هبت أمة المسلمين السودانيين في أبريل 1985م لتصرع حكم إمامها الواثق من شريعته، بل تقدح كل القدح في إسلاميتها وتحيلها فقط إلى شهر إعلانها من السنة الجريجورية. كما أن الإسلاميين وهم في الحكم لم يعفوا عن هياكل الدولة العلمانية وسننها، بل اتفق لهم أن ينصوا في دستور 1998م على أن (المواطنة) هي أساس الحقوق والواجبات، وليس الدين. كل ذلك والسودانيين المسلمين على دينهم وتقواهم الذي يعرفون، ما ذهبت علمانية الدولة بإيمانهم ولا زادتهم إسلاميتها صلاحاً.

عليه، لا سبيل لإدعاء صفاء ديني أو علماني للدولة، بل يمكن بمزيد من الشجاعة القول أن الدولة لا يستقيم لها موضوعياً أن تكون تمثلاً لليوتوبيا الدينية أو أن تكون تامة الخلو من كل أثر للدين ولو من جهة طلب نفيه وإعلان الإلحاد عقيدة للدولة، بل هي مدار ونتاج الصراع الاجتماعي، وقد تتدثر مختلف القوى الاجتماعية بكل ما يواتيها من حمولات ثقافية في سبيل السلطة والمشروعية. في هذا المعنى فإن من طبع السياسيين، من كل بقاع الأرض، أن يلتقطوا المثل والقيم الدينية متى ما كانت لهم حوجة في (قوة ثقافية) في صراع السلطة، بينما يطرحونها بعيداً عند تمام التمكين إذ لا تتفق ومجريات براغماتية السياسة اليومية. كما أن الثقة في التناقض بين ما هو (علماني) وما هو (ديني) تتهاوى عند اختبار هذا التمييز على أساس تعريف اجتماعي وليس ثيولوجي للدين. بذا فإن صفاء المفهومين يتداعى إلى طيف واسع من التركيبات بين الدين والسياسة، حيث تميل السياسة إلى أن تصبح (دينية) استجابة واستغلالاً للحساسية والتمايزات الدينية على مستوى المجتمع ككل (ديميراث وستريت، 1997م). في هذا الإطار من الإحسان إلى منجزات العلمانية أن توضع في سياق تطور ممارستها، وليس التصورات الشيطانية أو الرحمانية حول المفهوم من جهة بروباغاندا الإسلاميين أو الشائع عن جنتها في عرف (اليسار الجزافي) بحسب عبارة الدكتور عبد الله علي ابراهيم.
تلقي نظريات (النظم الاجتماعية) بعض الضوء على محيط تطور (العلمانية)، فأي نظام اجتماعي يتحقق بناءه وكذلك بقاءه على أساس قدرته توفير مطلوبات يمكن تعيينها: الإنتاج المادي، التكامل بين مكونات المجتمع، وتوقير أنماط مشتركة من القيم. في المجتمعات القديمة تحقق غرض التكامل، وتسنت صياغة القيم المشتركة، عبر الثقافة الدينية، فهذه وفرت أرضية مشتركة سلوكية ومعرفية. إن الأديان ذات هذا الطابع، أي التي استطاعت القيام بوظيفة التكامل الاجتماعي، كان لها بالترافق طابع سلطوي، فأهلها لا يخضعون فقط لمعايير الدين، بل كذلك لسلطة رجال الدين الذين يقومون بدور الوسيط الناقل والمفسر للرسالة الدينية. بذا كان الدين في المجتمعات القديمة من حيث المبدأ سلطوياً، والسلطة دينية. لكن اصطدمت السلطة الدينية كما تبدت في الكهنوت الكنسي بتحديات اجتماعية تفوق قدرتها على الاستيعاب، حيث تفتق النظام الاجتماعي الديني الأحادي عن نظم اجتماعية فرعية وظيفية من شاكلة العلوم والاقتصاد والحقوق والسياسة حتى تولد (المجتمع المدني) مزاحماً لشمولية النظام الديني وأصبحت الهياكل المدنية تقوم هي أيضاً بوظائف التكامل الاجتماعي وتفرز من القيم والمعايير ما لا يمكن اعتباره مقدساً دينياً. في هذا المحتوى يصبح الدين (مدنياً) فهو مكون من مكونات (مدنية متعددة)، لكنه لا ينتفي ولا يبور.

اكتمل هذا التطور في التاريخ الأوروبي عبر ما يزيد على 1500 عام بدءاً من عقيدة القديس أوغسطين في الإرادة الإلهية، ثم تكوين الدولة، حتى الديموقراطية والتعددية المعاصرة. يعود تاريخ تمايز النظم الاجتماعية الفرعية عن الغطاء الديني إلى أواخر العصور الوسطي حيث استقلت غالب العلوم، التي نشأت بإلهام الدين في حضن القساوسة والكهان، عن سلطة الكنيسة. كما نشأت الدولة المطلقة بعيدة ونافرة من سلطة رجال الدين. لاحقاً وبدفع (التنوير) والثورة الفرنسية بدأ تاريخ الهياكل المدنية من أحزاب وروابط وجماعات ورأي عام. عليه فإن ولادة المجتمع المدني التعددي الحديث في أوروبا كانت نتيجة صراع طويل ومتراكب طرفاه الدولة والكنيسة، اختصار مراحله عبر الخمسمائة عام الماضية في الآتي:
(1) في المرحلة الأولى كانت الكنيسة شريكاً في ممارسة السلطة، حيث اعتمدت سلطة الملوك على مزيج من الأسطورة والوراثة أضفت عليه الكنيسة مشروعية دينية.
(2) في المرحلة الثانية انقلب ميزان القوى لصالح الدولة. احتفظت الكنيسة بدورها في تحديد العقيدة واجبة الاتباع، لكنها أصبحت تعتمد على الدولة في فرض عقيدتها على المجتمع.
(3) في المرحلة الثالثة غدت الكنيسة طرف مستقل عن الدولة، لا تدعمها الدولة ولا تحاصر نشاطها. وبذا تجسد الفصل بين المجالين: تنازلت الدولة عن السيطرة على الكنيسة، وتنازلت الكنيسة عن منزلة السلطة الرسمية وأي مميزات مرتبطة بهذه المنزلة. في هذا المرحلة انفتح الأفق لقبول مختلف العقائد والتصورات في خضم المجتمع الواحد، لا تيسر الدولة ولا تعسر انتشار أو ممارسة أي منها، كونها شأن اجتماعي متروك لتداول المجتمع المدني.

المصادر
(1) N. J. Demerath & K. S. Straight: Religion, Politics, and the State: Cross-Cultural Observations, Cross Currents, Vol. 47 Issue No 1, Spring 1997.