أسوأ من استبداد

معقل زهور عدي
2007 / 4 / 2 - 12:20     

هناك طرفة في بلاد الشام تقول ان ثلاثة مساجين أيام العثمانيين اجتمعوا في سجن وطوال الوقت كان اثنان منهم يشكوان الظلم الذي لحق بهم وقسوة السجن بينما كان الثالث يلوذ بالصمت ، وفي الليل يسمعه رفيقاه وهو يتمتم اللهم أعوذ بك من الأعظم ، وقبل ان يضيق صدر رفاقه به جاء السجان ليطلب أحد المساجين الثلاثة الذي حكم عليه بالسجن المؤبد في زنزانة منفردة فصاح رفيقه ألما وحزنا بينما همس الآخر في سره اللهم اعوذ بك من الأعظم ، وفي اليوم التالي جاء السجان ليعلم السجين الثالث ليستعد للموت شنقا فتقبل الحكم قائلا اللهم أعوذ بك من الأعظم فصاح به رفيقه وهل بعد الاعدام مصيبة يارجل ، وفي اليوم التالي جاء السجان ليقول ان القاضي قد عدل الحكم للموت بالخازوق هنا نظر السجين المحكوم لزميله وقال هل عرفت أني على حق هذا هو الأعظم .
حين بدأت الولايات المتحدة الحرب على العراق عام 2003 انقسم المثقفون داخل سورية فئتين ، رأت الأولى في سقوط بغداد سقوطا للاستبداد وفجرا للديمقراطية ، واعتبرت الاحتلال أهون الشرين ، كان المشهد الذي خطف بصرها مشهد سقوط تمثال صدام لا مشهد جنازير الدبابات الأمريكية فوق شوارع بغداد ، لم تستفزها بذلات المارينز بقدر ما أراحها اختفاء صدام والتبشير بعهد ديمقراطي جديد .
قيل بلغة الفيزياء ( انتقلنا من تحت الصفر للصفر ) ، اليوم بعد أربعة سنوات يفترض أنه توضح ان الترمومتر قد قرىء بالمقلوب ، لقد انتقلنا ( بلغة الجغرافية ) نحو الهاوية ، دفعنا حتى عام 2006 مئات الألوف من القتلى (قدرت دراسة نشرت نتائجها بتاريخ 11/10/06 في مجلة /لانست/ الطبية البريطانية المعروفة برصانتها العلمية حصيلة القتلى العراقيين منذ الغزو قبل نحو ثلاثة أعوام ونصف العام بحوالي 655 ألف قتيل ) ، ودمرت أجزاء واسعة من الفلوجة ( استنادا إلى تقارير القوات الأمريكية فان نصف البيوت في الفلوجة و يقدر عددها 39,000 منزل قد تعرضت إلى اضرار و استنادا الى تقارير من شبكة ان بي سي (NBC) الأخبارية فان 9000 منزل قد دمر و قامت القوات الأمريكية بالتعويض على خمسين فقط من الطلبات المقدمة بالتعويض عن الأضرار.) ، وكشف النقاب عن أعمال تعذيب لاتقل سوءا عن أي نظام استبدادي ( فضائح سجن أبوغريب ) ، وتم تهجير عدد يزيد عن ثلاثة ملايين عراقي ، وهناك مئات الألوف من العراقيين المهجرين من بيوتهم يعيشون في مخيمات داخل العراق ، واتخذ الصراع الطائفي أبعادا غير مسبوقة في تاريخ العراق ، وصنف الحكم في العراق باعتباره من أسوأ الحكومات الفاسدة في العالم ، لقد تحول العراق الى أشلاء تتنازعها الضباع .
لماذا نتذكر ذلك اليوم ؟
لأنه لم أسمع من أحد أنه أخطأ في قراءة مشهد الاحتلال حين اعتبر سقوط تمثال صدام أهم من سقوط بغداد تحت الاحتلال ، لم أسمع من أحد نقدا أو مراجعة أو ندما ، ذلك يشير الى أكثر من المكابرة ، هناك مؤثرات العقل الايديولوجي الذي يرفض تأمل الواقع ويستعيض عنه بتأمل ذاته ، وهناك النزعة النخبوية التي لا تستطيع النزول من برجها العاجي ، وهناك ميراث قديم من افتقاد الوعي النقدي.
أيضا نتذكر ذلك اليوم على أمل تجاوز الحفرة التي وقع فيها تيار اليسار الليبرالي حين استخف بما يعنيه الاحتلال بل ذهب البعض الى الاعتراض على تسميته احتلالا ، ووضعت في هذا السياق نظرية تقاطع المصلحة في الديمقراطية مع السياسة الأمريكية ، وتم تبرير فظائع الاحتلال او غض الطرف عنها ، و(تثمين) العملية السياسية ( الديمقراطية ) الجارية في العراق برعاية بريمر ونغروبونتي وزاده ، والتنكر للمقاومة العراقية ، ووصفها بالارهاب ، كيف يمكن ان ننسى كل ذلك بسهولة لمجرد ان أصحاب ذلك الخط يخفضون أصواتهم اليوم ، ويحاولون التهرب من أفكارهم التي رفعوا لوائها حين كانت الحملة الأمريكية في أوجها .
على النقيض مما يفكر البعض فقد أعطت الحملة الأمريكية على العراق مشروعية للاستبداد كان يفتقدها ، وحين كانت النخب الثقافية السورية تخرج باستنتاجاتها أن الحملة الأمريكية تشكل فرصة سانحة للتغيير الديمقراطي ، كان الشعب في سورية يخرج باستنتاج معاكس ان خطر الاحتلال والتدخل الأمريكي أكبر من خطر الاستبداد ، وبعد أربعة سنوات تبين أن حس الشعب العفوي أصدق من وعي المثقفين ، وثمن ( الديمقراطية الأمريكية) للعراق كان فادحا للحد الذي لايوافق على دفعه عاقل ، وحتى بعد دفع ذلك الثمن لم يقبض الشعب العراقي سوى ديمقراطية – طائفية – مافيوية حتى اليوم .

منذ احتلال بغداد عام 2003 مرت مياه كثيرة ، والحملة العسكرية الأمريكية توشك على الاندحار، ليس بسبب انقسام المجتمع العراقي والحرب الأهلية كما يحب البعض أن يصور الأمور ، ولكن بسبب المقاومة العراقية الباسلة ، ومع اندحار الحملة العسكرية الأمريكية وما يحمله ذلك الاندحار من نتائج عظيمة الأثر على العراق والأمة العربية والعالم ، تستعيد الأمة شيئا فشيئا ثقتها بذاتها ، ويصبح ضروريا وملحا استعادة طرح المسألة الديمقراطية ، ليس على أرضية الاستفادة من فرصة الحملة العسكرية الأمريكية ولكن على أرضية الاستفادة من هزيمتها ، هكذا يعاد تأسيس المسألة الديمقراطية بالترابط مع معركة التحرر ومناهضة الهيمنة ، وتندمج في بوتقة واحدة مهام التحرر وبناء الديمقراطية .