الحركة الإسلامية: يَهْدُوكْ مِنْ المَبيتْ تَقَيِّل كُتُرْ - 1


مجدي الجزولي
2007 / 3 / 27 - 12:53     

فاضت الصحف في الآونة الأخيرة بسجالات متتالية بين رموز الحركة الإسلامية المتوزعين على تيارات تفرقت بها السبل، يبحثون جميعاً بطريقة أو أخرى عن وسيلة لإنقاذ (إخوانهم) السادرين في الغي ما زالوا. ولقد تابع الكثيرون من القراء هذه السجالات بأمل أن يخرج من بين الإسلاميين من يرى النور بعد الغشاوات، وهوعندنا أن مشروع الإسلاميين السودانيين قد وصل حضيضه النهائي!

بعد هذه المقدمة يبدو من الحكمة أن نضع تيار الإسلاميين السودانيين في منظور أكثر دقة بتوخي علمية قد تفيد في تقييم ودرس الجذور الاجتماعية والاقنصادية لكتلة الإسلام السياسي في بلادنا، وربط ذلك بتطور فكرهم وممارستهم العملية ودعاويهم الآيديولوجية، مع التشديد على أن الإحالة المجانية إلى "الرجس من عمل الشيطان" ليست هي أيضاً إلا دعوى آيديولوجية قد تنقذ خطاب المعارض السياسي المحض لكنها ليست بديلاً موضوعياً لعمل واجب هو الدرس الصابر لهذه الكتلة الاجتماعية السياسية دون الولوج السهل إلى حجة "تجار الدين" على صحتها عند الحكم الأخلاقي على نفر أجرموا حتى التخثر ولم يكرم الله عليهم بتوبة. في هذا الباب كان الرائد لا شك الدكتور عبد الله علي ابراهيم، وقد تحمل في هذا السبيل سباباً وسياطاً من معارضي الإسلاميين قبل مناصريهم، وذلك وفق سنة سبقت لشهيدنا عبد الخالق محجوب الذي أفرد لفكر الإسلاميين كتيباً ما يزال هادياً لأدب اليسار في هذا المضمار: "آراء وأفكار حول فلسفة الأخوان المسلمين". إلا أن المستجد هو المنظور والمعاش من حصاد التيار الإسلامي في السلطة، وهو دون "ملاحيظ" يكفي ولا شك لجعل البغضاء بين الإسلاميين والشعب السوداني حائطاً لا يعلو فوق سوره إلا مداهن راغب في "سلطة أو جاه" بحسب التعبير المحبب عند د. الترابي. وهو بذاته أيضاً دليل الواقع المنتصب على خبال الممارسة السياسية والاقتصادية الاجتماعية للحركة الإسلامية. رغم ذلك فإنه أعشى البصيرة من ينكر حجم النفوذ الذي ما زال التيار الإسلامي يتمتع به بين قطاعات من شعبنا، كان ذلك بصيغة "الحركة الإسلامية"، أو بصيغ أقل أو أكثر "أصولية"، ولعل تاريخنا السياسي يفرخ لنا حتى بعد تجربة الأعوام المتتالية تحت حكم الإسلاميين كتل جديدة ترفع رايات تشابه أو تقارب تلك التي كانت للحركة الإسلامية. بذا فإن من تهوين الأمور أن نترك للحوادث فقط، وليوميات السياسة، مهمة بث الوعي البديل محل ما تراكم من الوعي الكاذب.

في شئ من المقابلة يجد سعينا لا بد لفتح آفاق جديدة في تعاملنا مع قضية الدين، إذ أن قصوراً تاريخياً في هذه المنحى جعل من أطروحات ومبادرات القوى الديموقراطية في السودان هدفاً لدعاية الإسلاميين المضادة كونها – في اعتبار الإسلاميين – "شيطانيات" ليس إلا. بينما يؤكد تاريخنا المعاصر وواقعنا المعاش ألا طريق أخرى يمكن سلوكها في اتجاه السلامة الوطنية سوى الطريق الديموقراطية، بما في ذلك تحييد المسألة الدينية عند طلب السلطة وممارستها وتبادلها، ونفي الشرعية الدينية عن القوانين التي تفرضها الدولة بحيث تتأهل لتحقيق إجماع المواطنين، وقبول شريعة حقوق الإنسان قاضياَ بين الحاكم والمحكوم، وإخراج هوية وطنية يجد جميع أقوام السودان في مضمونها قاسماً مشتركاً؛ ومن ثم الصعود بالدولة السودانية من هلاك عداوة شعبها إلى مقام تمثيلهم، ومن هذه القاعدة محاولة الولوج إلى مستقبل وطني ديموقراطي يسع "الموزاييك" السوداني، ويقدر على مخاطبة قضايا السودان الملتهبة وهي أشد وأنكى. وقد اتضح جلياً خلال الأعوام التي انفردت عبرها الجبهة الإسلامية بالسلطة والقرار السياسي أن الأوهام لا تستطيع مهما خلبت العقول ألوانها أن تنهض بأمة فتك بها الجهل والفقر والمرض حتى استحال سلاحاً. بهذا المعنى فإن معارضة النظام عبر تمييز عيوبه أصبحت قصة سلفت، لا داعي لتكرارها، لأن دليل الوقائع أقوى من كل استنتاج، بل لا يكاد المرء يحتاج أكثر من جمع بعض الإحصاءات الخاصة بأوضاع التعليم والصحة لبيان خبال الدولة، وإضافة أخريات حول الفساد، ذلك دون أي تعليق. أما إذا زاد المرء على ذلك بياناً لمصائب دولة الإسلاميين في جبال النوبة ودارفور والشرق، وما أصاب السودانيين من جنونها في معالجة مسألة جنوب السودان فلا يبقى لها وجهاً.

من جهة أخرى لا يكفينا الاحتجاج على دولة الإسلاميين مهما أجدناه، بل لن يسعفنا هكذا احتجاج، وذلك لطبيعة الأزمة السودانية التي ما أفرخت للإسلاميين دولة سوى لضعف البديل المطروح والقوى الاجتماعية الحاملة له، كان ذلك من جهة الأحزاب التقليدية أو من جهة اليسار. وفق هذا المنطق لا يصح أن نأخذ فشل الإسلاميين في إدارة الحالة السودانيين، بل فسادهم في هذا الشأن، دليلاً يقوم بذاته على احتمال نجاح بدائلنا التي طرحنا والتي لم نطرح، ليس من جهة التردد، ولكن من جهة الشك البناء. ولعل سؤال شعبنا الذي يتكرر عن جدوى التغيير يلهمنا سؤال أنفسنا عن محتوى التغيير الذي تتضح من ثم جدواه. نقرأ بهذا العنوان سياق الإضرابات التي تكررت في الآونة الأخيرة في أنحاء من بلادنا تحت شعارات مطلبية محضة وملموسة. وجميعها إن لم تنجح تماماً في تحقيق منشودها خطت في هذا الاتجاه خطوة وخطوات. الدرس هنا أن كل شعار نظري مهما كانت جاذبيته لا بد يقترن بتحقيق تقدم قابل للقياس في جبهة "المعيشة"، وأن كل حرية لا مضمون لها في واقع الكادحين، في مركزهم وهوامشهم سيان، لن تحشد من دعمهم شيئاً. من جهة التفاؤل يستجيب هذا الوعي بمادية التغيير، بالتضاد مع مثاليته، أي ملموس التغيير لا منطوقه، لأمل قديم في تراث الديموقراطية السودانية كما تصورتها الجماهير في عنفوانها الثوري، وهو فض الغشاوات الآيديولوجية بتعدد أنماطها، دينية أو قبلية أو طائفية أو علمانية أو غير ذلك، عن طبيعة السلطة وغشامتها، وذلك في مستوياتها كافة. وقد كان هذا المدخل إلى الشأن الوطني هو ما اختاره الشيوعيون الرواد وهم يصارعون ضد الاستعمار في شكليه ما قبل الاستقلال السياسي وما بعده، ونحن الأحوج اليوم إلى استعادة هذا الجذر في حسن السياسة إذا أردنا للتقدم الاجتماعي قاعدة انطلاق تجتمع عندها الجماهير.

ساق الدكتور عبد الله علي ابراهيم في كتابة سبقت أدلة على هذه الجذور المادية للوعي السياسي في ممارسات "السياسة الريفية"، ذاكراً كيف يدخر أهل الأرياف من أبنائهم لكل حزب ممثلاً، حتى تتمكن جماعتهم من الوصول إلى دوائر السلطة المحلية والاقليمية وكذلك القومية متى ما نال أي حزب من هذه الأحزاب مقاماً في سلم السلطة. والحق أنه من ذات هذا الديالكتيك بين "الجماعة المحلية" و"السلطة المركزية" خرجت الحركات المطلبية الاقليمية في تطور لهذا السعي خلف "ماديات" التقدم لا شعاراته، وذلك عندما انغلقت احتمالات تطور النظام السياسي ليتيح مجالاً مستحقاً لسكان السودان كافة.

إن قراءة أكثر صبراً لكتلة الإسلام السياسي تعود بالتحليل إلى صراع الاقليم والمركز هذا متقاطعاً مع الطموحات والمظالم الطبقية. جذبت الحركة الإسلامية في أيامها الأول جماعات من الصاعدين سلم التراتب الاجتماعي من جهة الريف إلى المدينة، غالبيتهم من أول أجيال المتعلمين في مناطقهم، والذين أصابوا من حصيلة تعليمهم الشاق شيئاً من رأس المال الرمزي كونهم أصبحوا منارات وعي مغاير وحديث. آخرون أصابوا أيضاً عزاً مادياً من كسب المهنية والوظيفة. لكل هؤلاء كانت بيضة الإسلام السياسي حصناً مزدوجاً، احتموا به من صعق المدينة فكان هوية يقارعون بها "تفكك" و"تعدد" المدنية الحديثة، وكذلك كان حوضاً للانتماء المتساوي غض النظر عن العرق أو اللغة. كما برز في داخل هذه الكتلة تياراً أكثر "ثورية"، إذا جاز التعبير، استعصم بفقه الزهد الإسلامي بإزاء فساد الرفاه والترف، كان أحد ممثليه المرحوم محمد طه محمد أحمد. رغم أصول الكدح هذه فارقت الممارسة السياسية للإسلاميين السودانيين نصرة المستضعفين عمداً ودون استحياء، بل كانت وبالاً أغلق أبواب الصعود الاجتماعي التي أتيحت يوماً لهؤلاء الإسلاميين ذاتهم فخرجوا من فرقانهم ونواحيهم حتى تسنموا مواقع الوظيفة والأكاديميا قبل وصولهم سدة السلطة. في هذا السياق تسعفنا تفرقة عبد الخالق محجوب الباكرة بين الدين في صيغة "الآيديولوجيا"، والدين في صيغة "اليوتوبيا" الراسخة في خيال المسلمين. ولعل غضب بعض رموز التيار الإسلامي على ما جناه حزبهم السياسي يعود إلى إحباطهم من المفارقة العظيمة بين ما رعوه في أذهانهم من خيال يوتوبي حول الممارسة السياسية والدولة "الإسلامية" وبين حصاد دولتهم الماثلة ومتاريس السلطة والقوة والمال التي تفصل بينهم واخوانهم السابقين اليوم.

مارس 2007م