المحكمة ذات الطابع الدولي، أبعادها ومحاذيرها


كميل داغر
2007 / 3 / 25 - 11:55     

ألقيت هذه المحاضرة في ندوة تحت نفس العنوان، نظمها المنتدى الاشتراكي في 22 آذار/ مارس الجاري في قصر الأونيسكو في بيروت، أدارها الدكتور سماح إدريس وحاضر فيها القاضي سليم العازار والمحامي كميل داغر. ه

تستبسل قوى السلطة القائمة في كفاحها لأجل الإقرار النهائي للمحكمة ذات الطابع الدولي، زاعمةً أنها خشبة الخلاص الأساسية للبنان، في حين قد تكون الحقيقة تكشف، على العكس، أنها ليست كذلك إطلاقاً، وقد تشكِّل خطراً داهماً، في حال تمريرها، ولا سيما وفقاً لمسودة نظامها الأساسي ومشروع الاتفاق بين المنظمة الدولية ولبنان. هذا مع العلم أنها قد تشكل بالفعل خشبة خلاص، ضمن هذه الشروط، ولكن فقط للقوى المشار إليها أعلاه، وليس للبلد ككل، الذي يتعرض للاستهداف في كل شيء، اقتصاده، وأمن أبنائه، ومستوى عيشهم، وكرامتهم، وسيادتهم، إلى ما هنالك من مقومات بقائهم في وطنهم، وصمودهم أمام المحن التي تتهددهم.
وبالمقابل، تعبر المعارضة المحلية عن موافقتها على هذه المحكمة، وإن تكن تتحدث عن ضرورة إدخال بعض التعديلات على نظامها الأساسي المقترح.
حسناً، ولكنني أظن أنه آن الأوان لكي يرفع الصوت طرف ثالث يرفض هذه المحكمة، جملةً وتفصيلاً، كوصمة عار، فيما لو قيِّض لها أن تمر، في تاريخ القضاء اللبناني، من جهةٍ، والحياة السياسية المحلية، من جهة ثانيةٍ. طرفٌ يتصدره بالضرورة حقوقيون لبنانيون، وربما حقوقيون عرب أيضاً! إذ إن مشروع المحكمة هذه هو مشروع استعماري جديد، تسوِّقه الإدارتان الأميركية، والفرنسية، بوجه أخص، من دون أن نستبعد أيضاً دوراً للحركة الصهيونية العالمية! وهو لا يستهدف لبنان وحسب، بل ربما كامل المنطقة العربية، وأبعد أيضاً. ولكن دعونا نحاول الآن الإجابة عن السؤال: لماذا نرفض المحكمة ذات الطابع الدولي؟
في إجابتنا هذه، سنتطرق، وإن بالاقتضاب الممكن، إلى جانبين أساسيين، أحدهما يتعلق بملاحظاتنا القانونية، بالدرجة الأولى، على المحكمة ومسودة نظامها، وما نطلع به من استنتاجات بخصوص سيادة البلد والنيل من دستوره وقوانينه والمبادئ القانونية التي يستلهمها قضاؤه؛ ويتعلق الآخر بالأهداف التي يتطلع إليها من وراء ذلك كل من:
1. الإدارة الأميركية بوجه أخص؛
2. والقوى السياسية المحلية المعقودة الولاء للوصي الجديد، القديم، الأميركي في المقام الأول، والفرنسي في الدرجة الثانية.

أولاً: الملاحظات والاستنتاجات

وسوف أستعرضها هنا بالاقتضاب الذي يستدعيه ما أوضحه المحاضر الجليل، الرئيس العازار، الذي تكلم قبلي، في تفنيده لهذه المحكمة ومسودة نظامها الأساسي.
1. الضرب عرض الحائط بقواعد الاختصاص القضائي.
ذلك أن اللجوء إلى قضاء ذي طابع دولي في جرائم سياسية كتلك التي افتتحتها جريمة اغتيال الرئيس الحريري يتعارض بوضوح مع قواعد الاختصاص المعتمدة بصدد هذا النوع من المحاكم، والتي تشدد على نوعية الجرائم التي تخضع له، ولا سيما جرائم الإبادة الجماعية، وجرائم الحرب، والجرائم ضد الإنسانية، وما شابه ذلك. ناهيكم عن أن لبنان، وعلى الرغم من أوضاعه الصعبة، لا يعيش حالة انهيار للدولة والمؤسسات، ولا سيما المؤسسة القضائية فيه.
أما التذرع بالطابع الإرهابي لجريمة الاغتيال المشار إليها فليس كافياً للاستعاضة من القضاء الوطني بقضاء ذي طابع دولي، ولا سيما أنه لم يتم الاتفاق إلى الآن، على المستوى الأممي، على تعريف موحَّد ومقرٍّ لمفهوم الإرهاب. علماً بأن شتى الدول، ولا سيما الغربية منها كانت ولا تزال تعطي صلاحية مطلقة لقضائها في التعامل مع الجرائم التي تضفي عليها هذه الصفة، كما الحال في المانيا، مع عمليات منظمة بادر- ماينهوف، وغيرها؛ وفي انكلترا مع تفجيرات لندن المشهورة في السنوات الأخيرة؛ وحتى في البيرو، مع عمليات المعبر المضيء؛ وصولاً إلى الولايات المتحدة بالذات، بعد عملية البرجين في 11 أيلول/ سبتمبر المشهورة عام 2001.
2. الفضائح المشينة التي رافقت الطور الأول من عمل لجنة التحقيق في جريمة اغتيال الرئيس الأسبق للوزراء، إبان وجود الألماني ديتليف ميليس على رأسها، بحيث ذهبت أدراج الرياح كل الوعود الواردة في المادة 9 من ذلك النظام بأن «يكون القضاة أشخاصاً على خلق رفيع، وأن تتوافر فيهم صفتا التجرد والنزاهة (...)» وأن يتمتعوا «بالاستقلال في أداء مهامهم، ولا يجوز لهم أن يقبلوا أو يلتمسوا تعليمات من أية حكومة أو أي مصدر آخر». وبالطبع لا حاجة للتفصيل حول مدى الجفاء بين ميليس وتلك الصفات، فقد أفاض الكثيرون في وصف ذلك، ولا سيما بخصوص الشهود الزائفين الذين بنى على شهاداتهم، من أمثال محمد زهير الصديق وهسام هسام!!
3. تعارضها مع السيادة اللبنانية، سواء بنقل مكان انعقادها إلى بلد آخر (المادة 8 من مشروع الاتفاق)، أو بغلبة عدد قضاتها الدوليين، وإعطائهم الرئاسة (المادة 8 من مسودة النظام)، أو بتعيين القضاة اللبنانيين من جانب سلطة غير وطنية، ممثلة بالأمين العام للأمم المتحدة (المادة 2 من مشروع الاتفاق)؛ أو بفرض تنازل المحاكم الوطنية عن اختصاصها لصالح المحكمة الخاصة (المادة 4 من مسودة النظام)؛ أو بمصادرة سلطة المجلس النيابي اللبناني لاختيار القوانين الإجرائية وقواعد الإثبات أو تعديلها (المادة 28 من المسودة)؛ أو بازدراء أحكام القضاء اللبناني وتجاوز قاعدة القضية المحكمة (المادة 5 من مسودة النظام)؛ عدا ما ينطوي عليه ذلك كله من تعارض مع الدستور اللبناني والقوانين المعمول بها على المستوى الوطني.
4. كون اختصاص المحكمة الخاصة مفتوحاً زمنياً
وهذا واضح سواء من المادة الأولى من كل من مشروعي الاتفاق والنظام الأساسي، التي تترك المجال متاحاً أمام أن تشمل صلاحية المحكمة أي جرائم حصلت أو قد تحصل لاحقاً، أي بعد 12 كانون الأول/ ديسمبر 2005، ومن دون تحديد. ناهيكم عن أن المادة 21 من مسودة الاتفاق تتيح تمديد السماح للمحكمة بإنجاز عملها، بعد مرور الثلاث سنوات الأولى، «لمدة (أو مدد) إضافية يحددها الأمين العام بالتشاور مع الحكومة ومجلس الأمن»!! الأمر الذي يجعل السيادة الوطنية مرتهنة بقرار خارجي هو هنا قرار الأمين العام و...مجلس الأمن!
5. الأعباء المالية التي سيتم فرضها على المكلَّف والخزينة اللبنانيين، ولا سيما أن حصة لبنان من هذه الأعباء تصل إلى 49٪ من التكاليف الإجمالية لمحكمة ليس معروفاً إلى متى ستبقى موجودة وتمارس «صلاحياتها»!! في حين أنه في حالة محكمة مختلطة تحتفظ فيها الدولة الكمبودية بكامل سيادتها تقريباً (نعود إليها لاحقاً)، وتمارس أعمالها داخل كمبوديا بالذات، لا يتجاوز إسهام هذه الأخيرة في أعباء المحكمة الـ 23٪ على أبعد تقدير من الكلفة الإجمالية.

ثانياً: استهدافاتها السياسية الفعلية

ونحن سنرى هذه الاستهدافات على صعيدين أساسيين، خارجي وداخلي، مبيِّنين مدى ضحالة همِّ العدالة فيها، وكون الهم الأساسي من وراء المحكمة ذا طابع سياسي بحت.
1. فعلى المستوى الخارجي، لا بد من تناول المسألة من زاوية المصالح والتوجهات الأميركية بوجه أخص (إذ أننا ننظر إلى الحكومة الفرنسية بقيادة شيراك كمجرد شريك إمبريالي صغير وتافه للسيد الأميركي). وفي معرض ذلك، ثمة حاجة لكشف التناقضات المفرطة في الوقاحة والغطرسة التي تتجلى في مواقف الإدارة الأميركية، منذ زمن بعيد، من مفهوم العدالة، وبصورة خاصة منذ محاكمات نورمبرغ وطوكيو التي تلت الحرب العالمية الثانية، وكانت بإشراف الولايات المتحدة المباشر، في حين نعلم أن هذه الأخيرة اقترفت آنذاك، على الأقل حيال الشعب الياباني، إحدى أبشع جرائم الحرب في التاريخ، متمثلة بإبادة مئات الألوف من سكان هيروشيما وناكازاكي بالسلاح النووي! من دون أن يمنعها ذلك، وفيما هي فوق الملاحقة، من أن تلاحق القادة اليابانيين أمام محكمة جرائم الحرب في طوكيو، وتفرض عليهم «عدالة» المنتصرين!
أ‌- تناقضات الإدارة الأميركية
وهي تناقضات تنحكم كلياً بفهمها للمصالح الكبرى التي تود الدفاع عنها بصورة مستميتة، عبر العالم، غير عابئة إطلاقاً بالصورة التي تعطيها عنها كداعمة لشريعة الغاب طالما يخدم ذلك تلك المصالح. ومن هذه التناقضات:
- رفضها الانضمام إلى معاهدة روما الخاصة بالمحكمة الجنائية الدولية، التي تضمن بنودها ولو حداً أدنى من شروط إحقاق الحق، وضغطها لمنع دول كثيرة، من بينها الدول العربية، ولبنان أحدها، من المصادقة على هذه المعاهدة، وفرضها على العديد من تلك التي سبق أن صادقت عليها، أن تتعهد عبر اتفاقات ثنائية مع واشنطن الامتناع عن المطالبة بملاحقة جنود أو ضباط أميركيين أمام تلك المحكمة.
- بالمقابل، هي تضغط لقيام محاكم دولية أو ذات طابع دولي لملاحقة خصومها عبر العالم؛ كما الحال مع المحكمة بخصوص يوغسلافيا السابقة، وغيرها، والآن مع لبنان.
- امتناعها في ما يخص العراق عن الضغط لتشكيل محكمة من هذا النوع، خوفاً من إتاحة المجال لصدام وأشياعه كي يكشفوا دور الإدارة الأميركية الأساسي في جرائم الحرب وإبادة الجنس والجرائم ضد الإنسانية التي كان النظام العراقي ضالعاً فيها، وبالتالي تسهيلها تشكيل محكمة عراقية تحت الاحتلال، خاضعة بالكامل للإملاآت والضوابط الأميركية.
‌ب- أهدافها من وراء المحكمة بخصوص لبنان
لقد بات من الواضح ، بعد خروج الجيش السوري من لبنان، ووضع حد للتفاهم الذي كان قائماً بين واشنطن ودمشق بخصوص دور هذه الأخيرة في المنطقة، ولا سيما إثر الاحتلال الأميركي للعراق، بات من الواضح أن الحالة الخاصة التي يمثلها لبنان، والتجربة الغنية التي عاشها في مقاومة الاحتلال الإسرائيلي ودحره من دون قيد أو شرط، قد تشكل إرباكاً عميقاً، ليس فقط لأميركا وإسرائيل، بل أيضاً للأنظمة العربية الخاضعة لواشنطن. وهو ما كشفته بقوة حرب الصيف الماضي.
إن المحكمة ذات الطابع الدولي قد تلعب الآن دوراً أساسياً، في حال النجاح في إقرارها، في تسهيل تنفيذ القرارات الدولية القاضية بنزع سلاح حزب الله، مع ما يعنيه ذلك من إضعافٍ لطهران في تصديها للحملة الأميركية-الإسرائيلية، بوجه خاص، لوقف تخصيبها للأورانيوم وللحيلولة دون امتلاكها لاحقاً للسلاح النووي. علماً بأن أحد أهداف المحكمة أيضاً تركيع دمشق، التي لا تزال تحاول أن تحتفظ لنفسها بدور إقليمي مؤثر، بات مرفوضاً، أميركياً.
فضلاً عن ذلك فبين تلك الأهداف أيضاً منع انكشاف ضلوع محتمل جداً للمخابرات الأميركية والإسرائيلية في الجرائم المحالة، والتي قد تحال لاحقاً إلى هذه المحكمة، أو على الأقل في بعضها، إن لم يكن في معظمها.



2. وعلى الصعيد الداخلي
وفي حين يستشرس فريق السلطة في ضجيجه اليومي لأجل قيام المحكمة ذات الطابع الدولي، بحجة إحقاق العدالة وكشف الجناة وإنزال العقاب بهم، لا بد من طرح سؤال بالغ الأهمية على هذا الفريق، ألا وهو أن إسرائيل عمدت، على امتداد الثلاثين سنة الأخيرة إلى تدمير لبنان مراراً، وتكبيده خسائر هائلة بالأرواح، كما في العمران والبنى التحتية. فلماذا امتنع هذا الفريق، طوال تلك الفترة، وبخاصة منذ الصيف الماضي، عن الادعاء على إسرائيل أمام المحاكم الدولية، والمطالبة على الأقل بتدفيعها تعويضات عن الخسائر التي ألحقتها بلبنان؟
إن هذا الواقع ليعطي صورة مخزية عن حقيقة هذا الفريق، المكوَّن من مجرمي الحرب المتحالفين مع أسياد المال المافياويين، وعن المصالح الفعلية التي يعبر عنها. وهي بالضرورة أبعد ما تكون عن مصالح الشعب اللبناني، وهمومه وأهدافه.
وهو أمر يزيد من خطورته أنه الفريق عينه الذي كان ضالعاً مع أجهزة المخابرات السورية، على مدى 15 سنة، في نهب البلد وتكبيله بالديون الخرافية، وإشاعة أجواء من الفساد لم يعرفها البلد في تاريخه. وهو يستمر الآن في مساعيه لتعظيم تلك الديون، عبر المزيد من الاستدانة، ومن تصوير القروض التي وُعد بها في مؤتمر باريس 3 على أنها المن والسلوى الهابطان على لبنان من الدول الداعمة، في حين أنه في حال تم تحصيل تلك القروض بالفعل، سيعمِّق ذلك الهوة التي يغرق فيها البلد بصورة أشد خطورة. ولا سيما أن ذلك يقترن بمشروع الفريق المذكور، المسمّى إصلاحياً، لبيع ما بقي من القطاع العام بأثمان بخسة للشركات الخاصة، المحلية والأجنبية، في سيرورة نهب جديدة يحاول الفريق المذكور أن يكون المستفيد الأساسي منها.
وبالطبع، يتم ذلك في وقت بات واضحاً فيه أن انتخابات نيابية جديدة، على أساس قانون انتخابي سليم، لن تتيح لهذا الفريق المافياوي الاحتفاظ بالأغلبية التي يحظى بها الآن، وسوف تفوِّت عليه الفرصة التي يربط مصيره بها.
وبالتالي، فإن معركة هذا الفريق لأجل المحكمة الخاصة، ستكون قادرة، وفقاً لمسودة نظامها الأساسي، على أن تفرض مثول أي من خصوم هذا الفريق أمامها، سواء كشاهد، أو كمتهم، أو كشاهد يتم تحويله إلى متهم، وتعريضه للتوقيف والسجن ولأحكام كيدية من النوع الذي يمكن أن يصدر عن قضاة يحتمل أن يكونوا من الطينة نفسها للمحقق ميليس! وبذلك فهي معركة، قبل كل شيء، للحفاظ على الغالبية الحالية أو تعظيمها، وبالتالي لأجل استمرار المشروع الحريري القديم الذي أوصل البلد إلى حافة الـ 50 مليار دولار من الديون، وذلك بصيغته الجديدة المتناسبة مع مرحلة ما بعد حرب الصيف الماضي ومؤتمر باريس 3، وهي صيغة لتعميق النهب وتأبيده على حساب ما تبقى من إمكانات صمود الوطن والمواطن. وأفراد هذا الفريق مستعدون لأجل حماية سلطتهم لكل شيء، بما فيه للحرب الأهلية التي يعدون لها العدة من دون كلل.
لذا فالمعركة ضد هذا المصير القاتم، هي قبل كل شيء معركة ضد الممحكمة بصيغتها المعروفة، وفي آنٍ معاً معركة ضد الحريرية المتجددة ومشروعها وبرنامجها، في شقيه الاقتصادي كما الأمني.
والانتصار في هذه المعركة لن يكون بالتأكيد عبر خرافة الثلث المعطل أو الضامن، مقابل المحكمة. بل بنضال حقيقي طويل يجمع كل القوى الديمقراطية والوطنية واليسارية الجذرية، الحريصة حتماً على سلاح المقاومة، ولكن أيضاً على إخراج البلد من التحاصص الطائفي إلى الاندماج الوطني والعلماني.
ولا شك أن النضال لأجل انتخابات جديدة مبكرة على أساس قانون يقر الدائرة الواحدة والتمثيل النسبي غير الطائفي هو خطوة هامة في هذا الطريق.
يبقى أن نقول إنه إذا كان لا بد من محكمة تدخل فيها عناصر دولية فلتكن على طريقة المحاكم غير العادية في كمبوديا، التي رفض رئيس وزرائها، هون سن، إنشاء محكمة دولية خاصة، مؤسساً رفضه هذا على مطلب احترام سيادة كمبوديا، أولاً، وثانياً على الاهتمام بتحاشي خطر نزاع داخلي، على حد تعبيره. وقد وافق أخيراً، وبعد سنوات عدةٍ من المفاوضات – لأجل محاكمة كبار المسؤولين في الخمير الحمر، الذين قادوا كمبوديا بين عامي 1975 و1979 – على إقامة محاكم غير عادية على الأرض الوطنية، تشارك فيها أقلية من القضاة الدوليين، وتكون برئاسة قضاة وطنيين، وتتخذ قراراتها بالأكثرية. على أن يعين مجلس القضاء الأعلى المحلي القضاة الوطنيين. وحتى القضاة الدوليون، يعينهم هو من لوائح يقدمها الأمين العام للأمم المتحدة. أي العكس تماماً لما هي عليه الحال في مسودة النظام الأساسي للمحكمة ذات الطابع الدولي الخاصة بلبنان. هذا مع العلم بأن الاتفاق بين الحكومة الكمبودية والمنظمة العالمية نص على مهلة زمنية قصوى لإنهاء أعمال تلك المحاكم هي ثلاث سنوات. وذلك في بلد بلغ فيه عدد ضحايا نظام الخمير الحمر، بقيادة بول بوت، قرابة المليونين من المواطنين!

أيها الأخوة والأخوات، والصديقات والاصدقاء

دعوني في ختام هذه الكلمة أقرأ عليكم هذا المقطع من كتاب الشاعر الفرنكوفوني اللبناني الكبير شارل قرم، «ستة آلاف سنة من العبقرية السلمية في خدمة البشرية»، الذي يذكِّر فيه بأن الأمبراطورية الرومانية أطلقت على بيروت تسمية أم الشرائع، وبأنها شهدت في القرن الخامس الميلادي ذروة مدرسة القانون فيها، هذه المدرسة التي جرى الإعلان عن كونها مدرسة المعلمين الكونيِّين. يقول شارل قرم إن تلك المدرسة كانت توزع تعليمها على أكثر من سبع وعشرين أمة، ويضيف: «لم تكن بيروت تتنافس آنذاك مع روما وبيزنطة والإسكندرية وحسب، بل كانت تقدم لها أيضاً أساتذة، وعلماء، وشعراء، ودبلوماسيين، وبوجه خاص رجال قانون من بينهم أولبيانوس وبابينيانوس اللذان ندين لهما بتنقيح قانون يوستينيانوس، الذي نتعيَّش عليه حتى أيامنا هذه».
وأنا أظن أيها الصديقات والأصدقاء، أن هذا التاريخ الذي تبدي اعتزازها به نقابة المحامين لدينا، رافعةً في أكثر من مجال الشعار المشهور بيروت أم الشرائع، هذا التاريخ سوف يتفِّهه إلى أبعد الحدود إقرار المحكمة ذات الطابع الدولي ونظامها الأساسي، مثلما سيتفِّه أيضاً كل الادعاآت الكاذبة للفريق المسيطر إلى الآن في الدولة اللبنانية، عن التعلق بالسيادة والاستقلال، وما إلى ذلك من الخزعبلات!