(3) الهوية الطبقية للسلطة الفلسطينية


حافظ عليوي
2007 / 3 / 22 - 12:31     

" الانعكاسات الاقتصادية - الاجتماعية لاتفاقات أوسلو في ضوء سياسة السلطة "

لا شك أن الاتفاقيات الموقعة مع حكومة إسرائيل وما انطوت عليه من قيود واملاءات ومن إلحاق للاقتصاد الوطني الفلسطيني بالاقتصاد الإسرائيلي من ناحية ، وإجراءات الحصار والإغلاق فضلا عن سياسة السلطة ذاتها لم تترك فرصا أمام الاقتصاد الفلسطيني لينمو ويتطور على نحو يساعد في تنمية الموارد البشرية وفي التنمية الاجتماعية – الاقتصادية في المجتمع الفلسطيني . فإلحاق الاقتصاد الوطني بالاقتصاد الإسرائيلي حكم عليه بالبقاء في دائرة التخلف ، وهذا أمر طبيعي وخاصة أن الاقتصاد الفلسطيني لا يتجاوز في حجمه 2 ـ 3 % من الاقتصاد الإسرائيلي .من وجهة نظر السياسية الاقتصادية فرضت إسرائيل على الاقتصاد الوطني الفلسطيني أن يتحول إلى سوق للمنتجات الإسرائيلية ومصدر للقوى العاملة الرخيصة . وقد كرست بذلك بموافقة طرف فلسطيني الواقع ألاحتلالي ذاته الذي كان قائما قبل التوقيع على الاتفاقيات ، وهو واقع لم ينتج غير اقتصاد فلسطيني تابع ومشوه سواء على مستوى هيكل الإنتاج أو هيكل العمالة .
وترتب على هذا نتائج مدمرة على الاقتصاد الفلسطيني ، ففي ظل تحويل الضفة والقطاع إلى سوق ملحق بالاقتصاد الإسرائيلي ، وفي ضوء القيود التي تفرضها إسرائيل على تجارتها الخارجية فهي تفرض على الاقتصاد الفلسطيني درجة من الانكشاف الاقتصادي تصل نسبته إلى نحو 40% من الناتج المحلي الإجمالي ، دون أن تحرك السلطة ساكنا ، لا بل إنها ومن خلال نشاطها ونشاط البرجوازية الكومبرادورية والطفيلية العالقة بجسم الاقتصاد الفلسطيني تكرس هذا الانكشاف بعجز تجاري سنوي يتراوح بين 1.2 – 1.5 مليار دولار . ويسهم هذا الواقع وهذا النشاط الكومبرادوري والطفيلي للشريحة البيروقراطية ( وهي قمة النشاطات الكومبرادوري والطفيلي ) ليس فقط مفاقمة الاختلالات الهيكلية في الاقتصاد الوطني وتناقص حصة القطاعات الإنتاجية في الناتج المحلي الإجمالي ، بل وفي تراجع مستوى الادخار وانخفاض مستوى الاستثمار ، الأمر الذي يزيد من ارتفاع معدل البطالة وارتفاع معدلات الفقر فضلا عن التراجع المستمر في الناتج القومي الإجمالي ، الذي تصل معدلاته إلى نحو 10% سنويا .
صحيح أن سياسة الإغلاق والحصار التي تمارسها إسرائيل تلعب دورا في كل هذا ، غير أن قيود الاتفاقيات وخاصة اتفاقية باريس الاقتصادية وسياسية السلطة كذلك تلعب هي الأخرى دورا لا يمكن التقليل من آثاره السلبية على الاقتصاد الوطني
، الذي يزداد تشوها ويزداد تعميق ارتباطه بالاقتصاد الإسرائيلي . ففي موازنتها العامة لعام1997 حتى عام 2006 التي تشمل أيضا بند الأصول الثابتة لم تخصص السلطة للنفقات الاستثمارية ، التي من شأنها أن تساعد الاقتصاد الوطني على النهوض ، سوى 6% من الإيرادات المحلية التي توجه للنفقات الجارية . أما النفقات الإنمائية المعنية بقضايا البنية التحتية والنمو الاقتصادي فإنها تمول في موازنة خاصة تؤمنها الدول المانحة ( بلغت 860 مليون دولار ) ، مما يكرس الاعتماد على هذه الدول وأولوياتها . إن هذا يؤكد أن السلطة غير معنية بسياسة إنمائية وان اهتمامها ينصب أساسا على تمويل مصاريف الجهاز الإداري ، الذي يشكل أداة ممارستها للسلطة ، وعلى النشاطات الاقتصادية الكومبرادورية والطفيلية ، التي تفتح أمامها باب الإثراء السريع على حساب التمنية الاجتماعية والاقتصادية ، وعلى حساب تطور ونمو قوى الإنتاج وقطاعاته التي من شأن تطورها أن يفتح الآفاق أمام التحرر النسبي للاقتصاد الوطني من التبعية للاقتصاد الإسرائيلي وأمام تصحيح نسبي في الاختلالات الهيكلية سواء على مستوى هيكل الإنتاج أم على مستوى هيكل العمالة . إن سياسة تقوم على زيادة الانكشاف الاقتصادي في ظل ارتفاع متواصل للواردات وتراجع في الصادرات من ناحية ، وتقوم على تخصيص نسبة ضئيلة للغاية من الناتج المحلي للنفقات الاستثمارية في الموازنة العامة تعكس الطبيعة الطبقية للسلطة كمعبر عن مصالح البيروقراطية والكومبرادور والبرجوازية الطفيلية .
ولا يفيد هنا إلقاء تبعات الآثار السلبية على الاقتصاد الوطني على الاحتلال وسياساته وحده ، بل لابد من إبراز جوانب الخلل في السياسة التي تسير عليها السلطة في شحة الموارد المالية واحتياجات التنمية للتطوير البنى التحتية التي دمرها الاحتلال . وفي هذا السياق لا يجوز السكوت على سياسة في التجارة الخارجية ترتفع فيها الواردات من مليار دولار عام 1994 إلى 1.5 مليار عام 1995 لتصل 2.2 مليار دولار في عام 1996 ، بينما تنخفض الصادرات من 500 مليون دولار عام 1994 إلى 350 مليون عام 1995 لتصل إلى 275 مليون عام 1996 ، فالأمر هنا لا يتصل فقط بالقيود الإسرائيلية ، باعتبارها قيودا على التجارة الإجمالية من واردات وصادرات ، بل يتصل بسياسة السلطة ذاتها كذلك ، وتصبح الطبيعة الطبقية في هذا السياق واضحة إذا ما تم الأخذ بعين الاعتبار إن حصة السلع الرأسمالية في التركيب السلعي للواردات المباشرة لم تتجاوز 81 مليون دولار ، هذا في الوقت الذي يشتد فيه الضغط على الصناعة الوطنية ، ويشتد فيه الضغط على المنتجات الوطنية التي لا توفر لها السياسة الإسرائيلية فرصا مناسبة للنمو والتطور.
إن سياسة كهذه لا تغلق الأبواب أمام نمو البرجوازية الوطنية وأمام تصحيح الاختلالات الهيكلية القاتلة في الاقتصاد الوطني وحسب ، بل هي تقود بالضرورة إلى تدهور في مستوى معيشة البرجوازية المتوسطة والصغيرة ، والى تعريض جماهير العمال والكادحين والفلاحين والمزارعين لمزيد من الإفقار . و إذا ما واصلت السلطة سياستها الاقتصادية هذه فان حركة الاستقطاب الاجتماعي ستتصارع في المجتمع مما يزرع عقبات إضافية أمام إمكانية توحيد الصف الوطني في مواجهة الاحتلال.
عندما تسلك الشريحة البيروقراطية في السلطة على المستوى الاقتصادي سياسة تحفز بالأساس نشاط البرجوازية الكومبرادورية والطفيلية وعلى مستوى السياسة الداخلية سياسة صعود وهبوط وتأرجح بين القمع والتسلط والانفراج وفق حالة مسار المفاوضات مع الحكومة الإسرائيلية ، فإنها تدفع قطاعات هامة من أصحاب رؤوس الأموال إما إلى السلبية أو إلى النشاط العقاري الذي يتقاطع في بعض سماته مع نشاط البرجوازية الطفيلية . وتتجلى السلبية هنا بأحد شكلين: الأول في تقنين الاستثمار والحفاظ على عجلة الإنتاج عند المستوى الذي يوفر استمرار الحضور في السوق بانتظار مناخ استثماري أفضل. والثاني بالتوجه إلى النشاط العقاري، الذي يوفر أكثر من غيره فرصا للربح دون أن يدفع بعجلة الإنتاج إلى الأمام .
ومن الواضح إن سياسة الشريحة البيروقراطية تشجع التوجه الثاني الذي يتقاسم مع البرجوازية الكومبرادورية والطفيلية السيطرة على دورة رأس المال . وهذه يتجلى بوضوع في سيطرة فئات البرجوازية العقارية والكوبرادورية والطفيلية على دورة رأس المال ، وبالتحديد على 85% من استثمارات في القطاعات غير الإنتاجية . وعلى كل حال فان الاستثمار الكلي في تراجع مستمر، فقد تراجعت قيمة الاستثمار الكلي من نحو 21% من الناتج المحلي الإجمالي عام 1994 إلى نحو 17% عام 1995 بسبب تراجع استثمارات القطاع الخاص من نحو 18% إلى نحو 13% من الناتج المحلي الإجمالي. أما الاستثمارات " الحكومية " فقد كانت محدودة للغاية، فقد كانت عام 1994 نحو 2.9% وارتفعت إلى نحو 4% فقط من الناتج المحلي الإجمالي ، وقد واصلت معدلات الاستثمار تراجعها بشكل حاد حتى وصلت في النصف الأول من عام 1996 نحو 7% فقط من الناتج المحلي الإجمالي .
على ضوء لأثار السلبية للاتفاقيات الموقعة مع حكومة اسرائيل وسياسة الحصار والخنق الاقتصادي الإسرائيلي من ناحية والسياسة الاجتماعية – الاقتصادية للسلطة من ناحية ثانية فان الأوضاع في الأراضي المحتلة أخذت تتبلور في اتجاهات تطور تؤشر على أن المجتمع الفلسطيني بدأ يدخل مرحلة أزمة من نوع مركب ، لا حل لها إلا بالتخلص من الاحتلال وبالتصدي لسياسة تسير عليها السلطة تقود إلى حالة مفاقمة حدة الانقسام الطبقي في ظروف تحرر وطني حيث تزداد البرجوازية البيروقراطية والكوبرادورية والطفيلية غنى وثروة وتزداد فيه جماهير العمال والكادحين الفلاحين والمزارعين فقرا ، بينما يتردى مستوى معيشة البرجوازية المتوسطة الصغيرة وتلوذ البرجوازية الوطنية ضعيفة التكوين إلى الصمت والسلبية . لقد اخذ الفقر ينتشر ويتجاوز في اتساعه الحدود المتفق عليها دوليا للحكم على هذه الظاهرة الاجتماعية – الاقتصادية ، وتدول على ذلك العديد من المؤشرات مثل نسبة البطالة وتراجع المداخيل وتدهور مستويات المعيشة والأوضاع الصحية وغيرها .
وقد اعتادت أوساط فلسطينية على معالجة هذه المؤشرات على اتساع دائرة الفقر انطلاقا من ربطها بالتأثيرات السلبية التي تتركها السياسة الإسرائيلية على أوضاع الاقتصاد الفلسطيني . إن مثل هذا الربط قائم بالفعل وينبغي عدم التقليل من مسؤولية السياسة الإسرائيلية عن تردي أوضاع الاقتصاد الفلسطيني ، غير أن انتشار دائرة الفقر بمؤشراته ينبغي إلا يعالج من هذه الزاوية وحدها ، فالضفة الغربية وأجزاء من القطاع لا يزالان يخضعان للاحتلال ، وسلطة تعمل في ظل مثل هذا الوضع ينبغي أن تبني سياستها الاجتماعية – الاقتصادية على أسس من شأنها أن تقلص من انعكاسات سياسات الاحتلال على أوضاع الاقتصاد والمجتمع الفلسطيني وليس مفاقمتها كما تؤكد ممارسات السلطة في هذا المضمار .
إن انتشار البطالة في صفوف المجتمع الفلسطيني ظاهرة باتت تضغط على أوضاع قطاعات وفئات اجتماعية واسعة من حيث اتساعها وكذلك من حيث طبيعتها ومكوناتها . فالبطالة التي كانت في الثمانينات في حدود 5% من القوة العاملة الفلسطينية ولم تكن حتى التوقيع على اتفاق أوسلو حول إعلان المبادئ تتجاوز حدود 10% أصبحت تصل في أيام الإغلاق الإسرائيلي إلى 40 % في الضفة الغربية إلى 60% في قطاع غزة .
إن معدل البطالة هذا مرتفع للغاية ولكنة يخفي جوهرية نؤكد نسبة ثابتة من البطالة تحافظ على حدها لأدنى في كل لأحوال تصل إلى نحو 25% من القوى العاملة الفلسطينية في الضفة ونحو 35% في القطاع ، لأمر الذي يحتاج إلى حلول . بمعزل عن معالجة الآثار المترتبة على سياسة لإغلاق. إن هذه النسبة الثابتة من البطالة مرتفعة للغاية ولا تعالج بالدعاية السياسية ضد سياسة الإغلاق ، لان سوق العمل الإسرائيلي بعد إحلال العمالة الفلسطينية بعمالة من عدد من بلدان أوروبا الشرقية وبعض البلدان الآسيوية لم يعد معنيا بهذه النسبة العالية من البطالة الثابتة في المجتمع الفلسطيني ، وبهذا أصبح البحث عن حلول لها وظيفة فلسطينية في المقام الأول .
ولا يقوى سوق العمل الفلسطيني على استيعاب هذه المعدلات العالمية من البطالة أو معالجة المشكلات التي تترتب على طبيعة انتشارها بسبب الاختلالات الهيكلية التي يعاني منها الاقتصاد الوطني وفي المقدمة منها اختلال القاعدة الإنتاجية التي تعبر عن نفسها بالتدني الكبير في مساهمة قطاع الصناعة في الناتج المحلي الإجمالي وبتراجع مساهمة القطاع الزراعي ، ولان الوضع قد تغير على نحو جوهري منذ مطلع التسعينات في معالجة فائض العمالة، الذي كان يجري حله في السابق إما من خلال العمل في المشاريع الإسرائيلية أو من خلال العمل في بلدان الخليج العربية .
هذا الانتشار لظاهرة البطالة يشكل احد المكونات الأخطر لتدهور مستوى المعيشة ، الذي تتحكم به عوامل متعددة ، حيث تلعب سياسة حكومة إسرائيل كما تلعب سياسة السلطة دورا في تفاقمه ، فمستوى المعيشة في الضفة والقطاع في تدهور مستمر ، تغذية سياسة الإغلاق والخنق الاقتصادي ، حيث بلغ عدد أيام الإغلاق منذ التوقيع على اتفاقيات أوسلو الأولى وحتى منتصف عام 1996 نحو 350 يوما وترتب على ذلك خسائر للاقتصاد الفلسطيني تجاوزت 1.5 مليار دولار طالت بآثارها مصالح فئات اجتماعية واسعة وانعكست على الحياة الاقتصادية فتراجع الناتج القومي الإجمالي من عام لأخر كما تراجعت فرص الاستثمار والعمل .
وساهم التضخم في إسرائيل الذي ينعكس على الوضع الفلسطيني ارتفاعا في الأسعار في مزيد من التدهور في مستوى المعيشة وانعكس ذلك بقسوة على ذوي الدخل المحدود ، إذ بفعل ارتفاع الأسعار والتضخم طرا تراجع ملموس في معدل الأجور و الرواتب لفئات شعبية واسعة فازداد على نحو ملموس عدد العائلات التي وقعت في دائرة الفقر المدقع ووصلت نسبة العائلات التي لا يتجاوز الاستهلاك الشهري للفرد فيها 30-50 دينارا أكثر من 33% أي أن ثلث الشعب الفلسطيني في الضفة والقطاع أصبح يعيش في ظروف الفقر والفقر المدقع بعد أن تدهور مستوى المعيشة بنسبة تفوق بنسبة 36% وفق أفضل التقديرات ، وهكذا ازدادت الفرو قات في توزيع الثروة التي تعني زيادة في حدة التمايزات الطبقية في مجتمع يعيش تحت الاحتلال ويعاني من سياساته وممارساته ، وأصبح الهم الرئيسي لقطاعات واسعة من المواطنين السعي وراء مصدر الرزق من اجل الكفاف .
ولا تقف مؤشرات الفقر عند هذه الحدود بل هي تتسع لتشمل أوضاع السكن والمساكن والصحة والتعليم وغيرها ، فأكثر من 70 % من المساكن لا زالت غير موصولة بشبكة من المجاري ويعيش نحو 35 % من المواطنين ضائقة سكنية حقيقية . وفي المجال الصحي تنعكس مؤشرات الفقر في مجالات عدة كنسبة وفيات الأطفال ، التي تتجاوز في مثيلتها في الأردن وغيره من بلدان المنطقة ، كما تنعكس في مجال التعليم حيث ترتفع نسبة التسرب في المدارس لاضطرار إعداد كبيرة من الطلبة الدخول المبكر في سوق العمل بشروط قاسية للغاية .
وهكذا فان ما يميز الأوضاع في الضفة الغربية وقطاع غزة بعد أكثر من 12 عام من التوقيع على اتفاق أوسلو هو التراجع على مختلف المستويات : في الناتج المحلي والناتج القومي الإجمالي واختلال واسع في هيكل التجارة الخارجية يؤدي إلى انكشاف اقتصادي خطير وهيمنة النشاط الاقتصادي الطفيلي على الاقتصاد وهروب رؤوس الأموال الوطنية إلى الخارج بنسبة تزيد على 75% من ودائع المواطنين في البنوك التجاري وغيرها من مؤسسات الجهاز المصرفي ، وانتشار البطالة على نطاق واسع وبروز ظاهرة البطالة الثابتة ، التي لم تعد ترتبط بسياسة الإغلاق الإسرائيلية فضلا عن البطالة المحبطة بنسبة كبيرة من الذين يبحثون عن عمل ، هذا إلى جانب تدهور مستويات المعيشة لقطاعات جماهيرية واسعة وانتشار ظواهر الفقر والفقر المدقع ، وظهور تمايزات طبقية حادة في المجتمع تدفع بعجلة التناقض الأساسي في المجتمع في موازاة التناقض الرئيسي مع الاحتلال .
هذه هي ملامح صورة السلطة التي جاءت بها الاتفاقيات الموقعة مع حكومة إسرائيل وملامح صورة الأوضاع كما تطورت في الضفة والقطاع في ظل هذه السلطة ، ولكن هل انتفت إمكانية نشوء ظروف تجعل السلطة تعيد النظر بسياستها ؟ إن السياسة المعتمدة إذ تعبر عن مصالح طبقية محددة ، ليست امتدادا تلقائيا ومباشرا لهذه المصالح ، إنما تعبر عنها في التحليل الأخير وبحدود ما تفرج عنه وتتيحه نسبة القوى السائدة في كل مرحلة بين مختلف الطبقات والشرائح في المجتمع ، وبين المجتمع والاحتلال . لذلك بإمكاننا القول ، مبدئيا ، بان تصاعد الضغط الجماهيري من جهة ، واستعصاء مسيرة أوسلو من جهة أخرى ، يمكن إن يجبر السلطة أو الشرائح الاجتماعية المكونة لها ، على العودة إلى أرضية الإجمال الوطني ، بصرف النظر عن مصالحها الطبقية كما تقدم نفسها أنيا وبثكل مباشر ، بكلام أخر : إن ما وصلت إليه السلطة التي تعبر بتكوينها عن المصالح الطبقية لشريحة ضيقة من البرجوازية الطفيلية والكوبرادورية والفئات البيروقراطية المندمجة معها ، لا يغلق إمكانية الوصول في ظروف وشروط معينة إلى استعادة هذه الشريحة الطفيلية و الكومبرادورية إلى ائتلاف وطني شامل على قاعدة برنامج وطني مشترك. فل لحل الذي ارتضته هذه الشريحة من خلال عملية أوسلو يقترب من نقطة الاستعصاء الكامل من جهة ، ومن جهة أخرى بسب من كون حركة التحرير الوطني الفلسطيني مازلت في مرحلتها الأولى ، فهي تواصل النضال من اجل إحراز الاستقلال الوطني وفي هذا الإطار ؛فان الحسم لجهة التقدم نحو تلبية الحقوق الوطنية والاجتماعية للشعب الفلسطيني يعتمد أولا وبالأساس على مستوى وفعالية الحركة الجماهيرية بأشكالها النضالية المتعددة من اجل تصعيد الضغط على الاحتلال ، و"في هذا السياق" على السلطة أيضا من اجل احتواء ميولها والتكيفية وكبح استعداداتها للمساومة وتقديم التنازلات على حساب المطالب الوطنية .
إن التطورات الجارية توفر كل الفرص لقوى المعارضة الوطنية (وبخاصة مكوناتها اليسارية والديمقراطية )للنمو والتقدم بعد انكشاف سياسة حكومة الائتلاف اليميني في إسرائيل ، ومن جهة أخرى تؤكد التطورات ذاتها أن المشروع الذي حملته البيروقراطية المتنفذة في السلطة وحاولت تسويقه باعتباره الخيار الوطني المفضي إلى الاستقلال والتقدم الاقتصادي والاجتماعي قد انتهى كمشروع سياسي وأدى في الوقت نفسه إلي المزيد من التعقيد و التأزيم في وضع علاقات القوى الطبقية في المجتمع وتعميق التفاوت الطبقي على نحو لم تشهده الضفة والقطاع من قبل.
إن سياسة الحكومة الإسرائيلية تدفع نحو حدة التناقض بين الشعب الفلسطيني وبين الاحتلال ، وكلما أمعنت هذه الحكومة في تعنتها وعدوانيتها وأمعنت في مواصلة سياستها ونشاطاتها الاستيطانية كلما دفعت بالتناقض الرئيس نحو الانفجار الواسع والشامل . إن سلطة المصالح الطفيلية البيروقراطية لا تبدي حماسا كبيرا لمواجهة تطور خطير بهذا الحجم ، وهي لا زالت تسلك نهجا في مواجهة حكومة إسرائيل تحاول من خلاله التوصل إلى مساومة تؤمن لها حماية مصالحها الطبقية بالدرجة الرئيسية . إن السلطة الفلسطينية لا تذهب بعيدا في المواجهة مع سياسة ومواقف الحكومة الإسرائيلية ، ولهذا نراها كلما تعقدت مسيرة المفاوضات بسبب سياسة هذه الحكومة الجأت إلى سلسلة من الإجراءات والتدابير كاللجوء إلى الحور الوطني والتلويح به كوسيلة ضغط ليس أكثر ، ورفع وتيرة اللفظي للسياسة الإسرائيلية ولتساوق الإدارة الأمريكية معها ؛والتشدد مع العملاء والسماسرة دون ثبات على الموقف بمعاقبتهم ، وهذا إلى جانب الإيحاء بالتنصل من المسؤولية عن فضائح الفساد دون الإقدام على محاسبة القائمين عليه .مثل هذه الإجراءات والتدابير تلجأ لها السلطة لاسترضاء الشارع الفلسطيني وكتعبير قاصر دون شك عن الاستجابة لضغط ومطالب الحركة الجماهيرية وقواها السياسية والاجتماعية المعارضة لاتفاقات أوسلو .
وبسيرها على هذا النهج؛ وتحجم هذه السلطة عن اتخاذ خطوات جادة ومسئولة في حوار وطني بهدف إعادة بناء الوحدة الوطنية على أسس جديدة تقوم على الشراكة والمشاركة في كل ما يتصل بالشأن السياسي الوطني وتحديد جدول أولويات مهمات إعادة البناء الوطني بعد الدمار الذي ألحقه الاحتلال بهذا البناء . كما هي تحجم عن الخطوات الإجراءات التي من شانها إن تبلور في إطار الكيان السياسي الذي أنتجته الاتفاقيات الموقعة مع حكومة إسرائيل مؤسسات تقوم على احترام تعدد وفضل السلطات "وبالحدود المتاحة لا تطغى مسؤوليات وصلاحيات السلطة التنفيذية على غيرها ، حتى لا تتحول مؤسسات الكيان الأخرى إلى مجرد ملحق أو واجهة سياسية هشة للسلطة التنفيذية" . إن هذا الإحجام لا يأتي من فراغ ، يل يعبر أصدق تعبير عن نزوع هذه الشريحة العليا من البيروقراطية نحو احتكار السلطة باعتباره ألا ساس والوسيلة للدفاع عن مصالحها الطبقية الخاصة وعن امتيازاتها.
إن تعثر المعملية التفاوضية في ضوء تعاظم الضغط الإسرائيلي واتساع مطالبه الأمنية واستمرار الاستيطان والضائقة الاقتصادية وتفاقمها ؛يجعل السلطة أكثر عرضة التأثير القاعدة الاجتماعية التي ترتكزا إليها كي تحافظ على موقعها ودورها القيادي ، ويجبرها أن تأخذ بالاعتبار – بأقله – جانبا من مطالب هذه القاعدة الاجتماعية . وفي الوقت نفسه ؛فأن الشريحة المقررة في السلطة لا تملك أن تتبع سياسة تضعها في مواجهة سافرة مع الحكومة الإسرائيلية والإدارة الأمريكية ؛فهذا ما يتناقض مع بنيتها ، مصالحها ؛شبكة علاقاتها وخياراتها بالأساس في أن تجد لنفسها موقعا ضمن الترتيبات الإقليمية قيد الإعداد لتتمكن من ممارسة دورها الطفيلي في النهب والسمسرة والعمولات . هذا الوضع العملية التجاذبية التي تتخلله بالتعقيدات المشار إليها يفسر مسلك السلطة السياسي الذي يبدو تائها ومتعارضا مع نفسه في بعض الأحيان .إن وعي هذه العوامل ودراك طبيعتها يشكل بوابة عمل واسعة لجميع القوى لتسليط ضغوط جماهيرية على السلطة لإعاقة نزوعها نحو التساوق والتكليف مع الضغوط الإسرائيلية والأمريكية.
إن سياسة الاجتماعية – الاقتصادية إذ تلحق أفدح الإضرار بالاقتصاد الوطني وتفاقم حدة الناقضات الاجتماعية ؛تشكل عامل هدم في صمود الوطن والموطن في وجه سياسات وممارسات سلطات الاحتلال .فالسلطة لا تكفي فقط بتوجيه الإنفاق العام نحو النفقات الجارية على الإدارات والأجهزة على حساب النفقات الاستثمارية لتطوير وتنمية الصناعة والزراعة والبني التحتية في التعليم والإسكان والصحة والمواصلات وغيرها في قطاع الخدمات بكل ما يترتب على ذلك من تعميق الاختلالات الهيكلية في بنية الاقتصاد ، بل أنها أمام فرص التنمية . إن الانكشاف الاقتصادي الذي يعبر عن نفسه بالتوسع المتواصل في الواردات وفي تراجع الصادرات إلى ادني المستويات يفضي بالدرجة الرئيسية إلى تشجيع النشاط الكومبرادوري والطفيلي خاصة ، علما أن حصة الرأسمالية في هذه الواردات محدودة للغاية .يضاف الى سياسة الاقتراض التي تمارسها السلطة بهدف سد العجز في موازنتها العامة ، التي لا تحتل فيها النفقات الاستثمارية حصة تذكر . إن الاستمرار في هذه السياسة تدفع بالاقتصاد الوطني إلى مزيد من التدهور والى مزيد من التبعية للاقتصاد الإسرائيلي .
لذلك لا بد من معارضة هذه السياسة بجزم والى النضال ضدها بفرض القيود المشددة على النشاط الكومبرادوري والطفيلي وتصحيح (لا يمكن أن يكون بالتأكيد إلا جزئيا )للاختلال في التجارة الخارجية وبحماية الناتج الوطني ، وبخاصة السلع التصديرية ، وكذلك مقاطعة البضائع الإسرائيلية ، كما ندعو إلى خفض نفقات السلطة والى سياسة تقشف حقيقية . وفي سياق النضال ضد السياسة الاجتماعية – الاقتصادية بآثارها المدمرة تبرز ضرورة التحضير لمؤتمر اقتصادي وطني تشارك فيه القوى السياسية والفعاليات الاقتصادية في الداخل والخارج للبحث في برنامج للتصحيح الاقتصادي لإنقاذ الاقتصاد الوطني من الأخطار التي تهدده ولمعاجلة الخلل الذي أخذت أبعاده تتسع بين النشاط الاقتصادي الذي يؤسس لتنمية وطنية رغم الظروف الصعبة وقيود أوسلو وبين النشاط الكومبرادوري والطفيلي الذي يسد الطريق أمام متطلبات التنمية الوطنية ويعمق ارتباط الاقتصاد الوطني بالاقتصاد الإسرائيلي .
إن تفاقم سياسة الفساد المالي والإداري التي أصبحت سمة مميزة للنهج تسير عليه السلطة ف إدارة الاقتصاد الوطني وتردي الأوضاع الاقتصادية بسبب تبديد الأموال العامة وتأمين امتيازات المسئولين المتنفذين في إدارة وأجهزة السلطة، إن سياسة الفساد هذه لا تقتصر أضرارها على ما تلحقه بالاقتصاد الوطني من خسائر ، بل باتت تنعكس على الحالة المعنوية للمواطن ، وعلى مواقف الرأي العام العربي والإقليمي والدولي . وتزداد الآثار الضارة لهذه السياسة كلما وصلت السلطة تسترها على هذا الفساد وأحجمت عن تلبية مطالب المواطنين بالكشف عن أبعاد هذه السياسة ومحاسبة القائمين عليها والمشاركين فيها. من هنا ضرورة ممارسة الضغط على السلطة لفتح ملف الفساد أمام الرأي العام وعدم التستر عليه وتقديم المسئولين عنه المشاركين فيه إلى المحاكمة ومصادرة الثروات التي راكموها من سرقة الأموال والأملاك العامة وأملاك المواطنين وخبز الشعب .
والى جانب هذا كله ينبغي وضع حد لنشاط " الاحتكارات " التي ترعاها السلطة ، والتي صبحت احد أدوات تدخلها في الحياة الاقتصادية للبلاد واحد أهم الميادين التي تمارس البرجوازية والكوبرادورية والطفيلية من خلالها نشاطها الاقتصادي المثير للجدل في الأوساط السياسية والإعلامية المحلية والدولية . إن هذه "الاحتكارات " تتحكم من خلال نشاطها بقسط مهم من حركة التجارة الخارجية والتجارة الداخلية وتتحكم بالأسعار في الأسواق المحلية ، هذه الأسعار التي تفوق مثيلاتها في إسرائيل ، مما يزيد في أعباء المواطنين . ويغلق عدد من هذه "الاحتكارات " السوق أمام حركة التجارة من البلدان العربية المجاورة في حدود ما تسمح به الاتفاقات الموقعة مع إسرائيل إلى كومبرادور رسمي لهذه المراكز ينتفع من صفقاته معها كما ينتفع من التحكم بالأسعار في السوق المحلية . ويتصف نشاط هذه "الاحتكارات " بجشع بالغ ولا يخضع هذا النشاط للمراقبة أو حتى للإجراءات الضريبية ، مما يجعل منه نشاطا أقرب إلى نشاط "ما فيوي" منه الى النشاط الاقتصادي العادي . ويذهب قسم من عوائد هذا النشاط إلى حسابات سرية للسلطة بينما يصب قسم آخر في حساب عدد من المسئولين في الادارات والأجهزة . من هنا ، دعوتنا إلى وقف نشاط هذه "الاحتكارات " ، والى تحويلها إلى شركات عامة مساهمة وطرح أسهمها للتداول أمام المواطنين وتأهيلها في ضوء ذلك لممارسة نشاطها كمؤسسات اقتصادية مستقلة تخضع للرقابة وتسهم في تطوير أداء الاقتصاد الوطني.