فالتر بنجامين: يسار الفلسفة، أثناء الفن


مجدي الجزولي
2007 / 3 / 14 - 11:40     

(1)
بين أكثر ما يحزن من أمر تدجين الماركسية في القوالب التي ارتأى الرفاق الروس، وهم يعمهون في غي سلطتهم، أن حُرِّم على عوام الماركسيين من أهل الهوامش الاطلاع على فيض العرفان الماركسي في غير العوالم التي قنن الحزبيون الروس، ما (مَسَّخ) هوى الثورة، فأزال عن رعشاته الشكوك، والسؤال، والغياب. بل جعل عسف التأويلات المدرسية من (مملكة الحرية) التي أطلت في ذهن ماركس الفيلسوف محض تحول في السلطان وليس بالتواز والتعاضد تحولاً ثورياً، شكوكاً، مسائلاً، باحثاً، صاخباً، وذكياً في الأذهان!
مرد ذلك ربما أن بلادة أولية دافعها الحكم في ذاته اختزلت غنى الديالكتيك اللامتناهي في علاقة سببية تبسيطية بين البنى التحتية والفوقية، من ثم أهمل المغرضون ثورة العقل، بل عارضوها، واستسهلها المؤمنون من أهل التصديق. في حالة الإثنين كان (تأويل) النصوص الماركسية هو باب المعرفة، كما يفسر الفقيه نصاً إلهياً، وليس إبداع المعارف بالاندفاع الماركسي، أي خلق الجديد بدرس السابق واستلهام الحاضر بعد إحسان الإدراك. بسبب هذا الخمول، انحطت آفاق الماركسية الرحبة في نصرة المستضعفين إلى شقوق ملأى بدارج البروباغاندا ومكرورها، مما لا ثورة فيه ولا عبرة. من هذا الانحطاط أن لفظ كهنة الماركسية من حجرها بعضاً من أكثر مفكريها حيوية. كان فالتر بنجامين (1892 – 1940م) أحد هؤلاء المنبوذين.

(2)
ولد بنجامين في برلين لأسرة يهودية، وقرر ختام حياته بالانتحار في عامه الثامن والأربعين، وذلك في فرنسا تحت الاحتلال النازي. اليوم يبدو أن بنجامين من أكثر مبدعي عصره مدعاة للخلاف، حيث استحال تصنيفه في أي قالب كان سوى التزامه المضاد للرأسمالية، المستنصر بالنقد الماركسي الحصيف. أما تداعيات فكره فقد امتد تأثيرها إلى جل معارف الثورة في هذا العصر: تيارات ما بعد الكولونيالية، والأنثوية، والنقد الفكري، والأنثروبولوجيا المضادة أو الدراسات الثقافية، بجانب النقد الأدبي والفني، والفلسفة، ونظريات الاتصال، والدراسات التاريخية. هذا رغم أن ما خلفه بنجامين من كتابات شحيح بعض الشئ، حيث خط دراسة واحدة مكتملة البناء كانت رسالته التي نال بها الدكتوراة عام 1919م في سويسرا بعنوان "أصول الدراما التراجيدية الألمانية". ربما كان لحقيقة أن أعماله في معظمها مشاريع غير مكتملة دوراً إضافياً في إبقاءها مفتوحة، ولدرجة أكبر، على الاحتمالات. من جهة أخرى تعذر على اللاحقين من نقاد فكره إيداع أعماله في قسر التصنيفات، فهي لم تكن أبحاثاً أكاديمية بالمعني المدرسي، ولم تكن ملاحظات عجلى ينقصها التمحيص، كما لم تكن آراءاً فلسفية بالمعنى الحازم. بهذا المفهوم يعتبرها المعجبون ببنجامين من ضمن الاجتهادات التي دشنت لتفكيك الحواجز الفاصلة بين جهات الفكر، والتي شاعت في عصرنا هذا، وأسس لها بنَفَسٍ أعمق فقهاء ما بعد الحداثة: فُوكو، ودريدا، وديلوز، وغُواتاري، وليوتار .. من ضمن آخرين. لهذا السبب ربما فضل بنجامين أن يعرف نفسه برتبة (الكاتب) وكفى، ليس الفيلسوف، أو الناقد، أو الأديب، إذ لم يتحقق بالمعني الحرفي بسمت أي من هؤلاء، وكان في الوقت ذاته جميعهم.
عاش بنجامين في ألمانيا ما بين الحربين، حيث تكسب ما بين عامي 1925م و1933م من الكتابة في الاصدرات الثقافية محرراً، وكاتباً طليقاً، ومترجماً، وناقداً أدبياً. في هذه الفترة تعرف عن قرب على اليسار الألماني ممثلاً في رموزه الأدبية، فكان رفيقاً محباً للشاعر والمسرحي برتولت برشت، وكذلك رموزه الفكرية الأشد نقدية تجاه إفك الرأسمالية وزور الستالينية من رواد مدرسة فرانكفورت (معهد الأبحاث الاجتماعية – فرانكفورت)، حيث انضم إلى المدرسة في مهجرها في باريس بعد وصول الفاشية إلى السلطة عام 1933م. كان للمهجر، وللمدرسة، وللظرف التاريخي والشخصي عظيم الأثر في تشذيب أداة بنجامين العقلية، حيث انكب خلال هذه الفترة، من هجرته إلى انتحاره، على إبداع أكثر أعماله شروداً، ومنها قراءته الطموحه، والتي لم تكتمل، لعمل بودلير (الرواق) مستنطقاً سياق رأسمالية القرن التاسع عشر. شاءت الأقدار أن يفر بنجامين من باريس عشية الاجتياح النازي للمدينة في 1939م إلى ميوه، التي كانت مستقراً لجيش هتلر. ثم استمر هارباً من التهديد النازي، مختفياً وملاحقاً، لكن حال مرضه بالقلب دون أن ينجح في تجاوز الحدود الفرنسية سراً إلى اسبانيا، ومنها كما أراد وخطط إلى الولايات المتحدة الأميركية. آخر عهد بنجامين بالعالم كان احباطه الغليظ من عدم حصوله على تأشيرة تمكنه من دخول اسبانيا علناً. عندها والقلب محطم والفؤاد كسير، أنهى حياته بإرادته. لكن موته، ويا للأقدار، كان بشارة لرفاقه، حيث أهدتهم السلطات الاسبانية التأشيرات الموعودة في صحوة ضمير متأخرة سببها انتحاره المحرج.
(3)
هانا آرندت، وهي مهاجرة ألمانية أخرى وفيلسوفة من الطراز الأول، صادقت بنجامين اثناء وجوده في باريس، قامت باختيار مجموعة من مقالاته، وتحريرها ونشرها تحت عنوان "إضاءات" (1968م). تبع ذلك نشر دراسته للدكتوراة الآنف ذكرها (1977م)، ثم مجموعة أخرى من الكتابات تحت عنوان "تأملات" (1978م)، وتالية تحت عنوان "يوميات موسكو" (1986م)، وقبل سنوات قليلة مشروع "الرواق" (1999م).
عند هذا الحد لنا أن ننظر سريعاً في أكثر ابداعاته شجى وسطوعاً: "العمل الفني في عصر إعادة الانتاج الصناعي" (1936م)، عبارة عن مقالة طويلة أمسك فيها بنجامين بألم الفن في درك السياسة. وربما كانت العمل المفتاحي الذي انطلق منه الثنائي ثيودور أدورنو وماكس هوركهايمر في كتابة "صناعة الثقافة: التنوير كتغييب جماهيري"، أحد فصول عملهما النابض "ديالكتيك التنوير" (1944م). شخص بنجامين في مقالته تحولات الفن (التقليدي) في خضم نفوذ أدوات إعادة الانتاج الصناعي للفنون من فوتوغرافيا وسينما على الخيال الجمعي للجمهور. عند بنجامين يكتسب العمل الفني اليدوي التقليدي ميزته الفنية الأساسية من تطور تاريخي وئيد تتولد عنه ما أسماه (هالة) العمل، بينما لا تحمل المنتجات الفنية المعاد تصنيعها إلا شبها متخيلاً للعمل الأصلي، وتفتقد بالتالي لهذه (الهالة)، ومن ثم ليست لها أي صلة بالبعد التاريخي للعمل الفني. عليه يعتبر بنجامين أن إقبال الجمهور على الأنماط المصنعة للفنون إنما يعكس انتقالاً من حيز (الفن) إلى حيز (السياسة) بالمعنى الماركسي، ما يفك ارتباط التأمل الجمالي بالخبرة الحية للفرد المستقل. من ثم يستحيل متلقي الفنون، بحسب إملاء الوسائط التقنية، إلى ناقد غير مكترث، أكثر ما يشغله نجاح أو فشل عملية (الترميز) أو (التمثيل) في العمل الفني. من هذا الباب كان انتقاد بنجامين اللاذع لاستغلال الجماليات من جانب الأحزاب السياسية، خاصة الفاشيين، حيث كتب: "إن كل محاولة لإضفاء وجه جمالي (فني) على السياسة إنما تقود إلى نتيجة واحدة هي الحرب". بذات القدر أكد بنجامين على (الثورية) الكامنة في هذا التحول مستشهداً بردة الفعل الرجعية للجماهير على أعمال بيكاسو من جهة، والتقدمية على أفلام شارلي شابلين من جهة أخرى، حيث تتمثل ردة الفعل التقدمية في الاندماج المباشر والشخصي بين المتعة البصرية والعاطفية وبين توجه المتلقي، وما ذاك إلا تنبيهاً للقيمة الاجتماعية لهكذا اندماج، فبقدر ما تتناقص القيمة الاجتماعية لنمط فني يتمايز الفاصل بين النقد ومتعة الجمهور – الذي يتلقى ما اعتاد بحبور غير ناقد البتة، ويستهجن الجديد فعلاً بأشد النقد قسوة. من المنصف أن نضيف إلى هذه الكلمات تعريف بنجامين للجمال: "كل ما لا يتسق صمداً وطبيعته الأصيلة إلا من وراء حجاب". فكأنما الحياة عند بنجامين حجاب وراء حجاب، كل منها صيغة للواقع مستقلة عن غيرها لدرجة ما. وبذا لا نقترب من الجمال إلا بالاقتراب من الحياة، منتقلين من مستوى من التأمل إلى آخر لنرى كل انتقال لنا واقعاً جديداً أمامنا هو عصب التقدم، لكنه تقدم عسير وغامض لا نستطيع إليه سبيلاً إلا بالانفتاح على نبوءات الواقع وحكمه كما تتجلى لنا من خصب التأمل.
لأن بنجامين لم يكتب كما يكتب المدرسون، وإنما كان شاعراً احترف النثر، فأفكاره لا تأتي في جماع متحد متناسق، هو يفضل أن يُشقي القارئ بلملمة خيوط نسجه من أكثر من موقع. نجد في مستهل مقالته الموسومة "حول مهام المترجم" إضاءة لتصوره حول العمل الفني، حيث كتب: "عند تبصر العمل الفني أو أي من أنماط الفنون لا فائدة ترجى من أخذ المتلقي في الاعتبار. فالفن يجسد الوجود الفيزيائي والروحي للانسان، لكنه لا تشغله ردود أفعال الانسان عليه. ليست ثمة قصيدة مقصود بها القارئ، وليست ثمة موسيقى مقصود بها السامع. إذن ماذا يقول الفن؟ ماهي الرسالة المضمنة فيه؟ الفن يقول القليل جداً لمن يفهمه، فخاصيته الجوهرية ليست في إيصال رسالة ما، أو في إثبات مقولة." إن فهم ما يحاول بنجامين أن يعبر عنه يشترط التحرر بعض الشئ من المفاهيم المسبقة. ولربما ساعدت المقارنة بين (العلم) و(الفن) لشرح مراده. آخذين بالمنطلق يشترك كل من العلم والفن في مشروع واحد هو النفاذ إلى الوجود ببصيرة الفهم: العلم عن طريق، والفن عن طريق آخر. العلم يبدأ من الأبسط والأدني معرفاً ومحدداً عناصر الوجود الأولية وشارحاً علاقاتها وتشابكاتها حتى الوصول إلى مستويات البناء الأعقد ثم الأعقد حتى أقصاها، أسلوبه الوصف والتحليل والمقارنة والمقايسة حتى إدراك الواقع كما هو أو الحقيقة في واقعيتها. أما الفن فمقاربته للحقيقة تأخذ الإتجاه المعاكس إذا صح التعبير. الفن يكشف تمثلات ما لا ندرك عن طريق التأمل، حقائقه تقريب ناقص للحقيقة، فالتأمل يجابه الوجود بالترميز والتأويل، والاستعارة والكناية، بالانقطاع عنه والإتصال به في آن واحد. بهذا المعنى ليست العلاقة بين العلم والفن علاقة تعارض وإنما علاقة تكامل، فالعلم لا قوام له بدون الفن، بدون طاقة الإبداع التي تحيط بالواقع حرة منفلتة تضع من الفرضيات ما تشاء! من الجهة الأخرى يفقد الفن تماسكه بدون الشروط والأساليب التي يبتكرها العلم.
(4)
"ليس ثمة شهادة على الحضارة إلا وكانت أيضاً شهادة على البربرية"، بهذه العبارة أفرغ بنجامين ما في جوفه من تشخيص للحياة كما خبرها، مأساوية وصراعية وجميلة في آن واحد. لكنه قضى باكراً، ومن هو؟ إبن تاجر الفنون اليهودي الثري. لكن أين؟ في برلين النازية! انقذفت حوادث الحياة في وجهه دون سابق إنذار، ولم يكن يريد سوى أن يقضي أيامه في كنف جامعة ألمانية مدرساً وباحثاً يصبر على شقوة الفكر، وإذا بها شقوة الحياة جميعها تواجهه. من أين لنا الآن أن ندرك ما اعتمل في ذهنه، هل رفض الحضارة الأوروبية بكل ما أنجزت ضربة لازب؟ المعنى القريب أن حضارة أوروبا ما كانت لتتأتى دون السلب والنهب والإرهاب والعنف الذي مارسه الأوروبيون ضد بعضهم البعض وضد الشعوب الأخرى. والمعنى الأعمق ألا حضارة وإلا وأخفت بربرية ما، وألا بربرية إلا وأخفت حضارة ما، وحدة الأضداد القاسية التي نحب ونكره. ومنها مقصود ما بعد حداثي مفاده أن الضحك المجلجل الذي سُر به المستعمر الأوروبي وهو يراقب الأقوام الإفريقية التي وصمها بالبدائية كان في الواقع جهلاً منه بخصائص الحضارات الإفريقية، وجهلاً أعظم ببربريته هو. مقولة بنجامين تنضح بالحتمية لذا فهي محفزة على التفكير، على تأمل أن الخير والشر بينهما علاقة لا انفصام لها، أكثر من حميمة، على أن الحُكم إنما يعكس ظل الحَكَم لا حقيقة موضوع الحُكم. ومن باب آخر يدفعنا هذا التناقض إلى الاحتفاظ بأكثر الأشياء والمعالم بربرية ووحشية لعلمنا أن في باطنها شئ من حضارة.

تبدو عبارة بنجامين في وصف الصراع الطبقي بذات القدر من الغرابة والحيوية حيث يقول: "إن الصراع الطبقي هو من أجل الأشياء الخام والمادية التي لا سبيل لمنال الأشياء الروحية والراقية إلا عبرها. المعنى المسطح أن علينا جني الكثير من المال قبل أن نستطيع الاستمتاع بثمار الحياة. كرة أخرى من البصر تفيد ربما أن التعبير الأجمل عن الطبيعة هو ما ينبع من تأمل وتحليل ومساءلة واستشعار واستنطاق حياتنا اليومية، ويجعل ذلك غذاءاً روحياً وإبداعياً له. إن علاقتنا بالأشياء، بأبسط الأشياء وأكثرها أولية، هو سلم الرقي والمعبر إلى الجمال. المحك هو حس الإنتماء إلى هذه الأشياء فهو يمنح هذه الأشياء الحياة. كعادة بنجامين مع قارئه لا بد من القفز إلى مقالة أخرى لكشف تمام هذه الفكرة: هذه المرة بعنوان "فض صناديق الكتب". يكتب بنجامين أن إعادة امتلاك كتاب قديم هو بمثابة بعث للكتاب، وهذا لا يصدق فقط على الكتب المجموعة، بل كذلك على جامع الكتب، فبقدر ما تتجدد حياتها تتجدد حياته هو. منح الحياة هذا عبر علاقة الانسان بالأشياء هو ما يصفه بنجامين بعبارة "العنصر الطفولي في فعل الجمع"، ويشرحها كالآتي: "إن للأطفال قدرة على تجديد الوجود بطرق لا تنتهي ولا تخيب، ما جمع الأشياء سوى إحداها، بالإضافة إلى تلوين الأشياء ونحتها، وحتى ملامستها، وإضفاء أسماء عليها." بنجامين كان يجمع الكتب والمقولات والأفكار والملاحظات، ثم يبعث فيها حياة جديدة بوسيلة بصيرته المغايرة. هذه هي ثوريته الباطنية، وفي ابتكاريتها ما يلهم بأن نبعث في ما جمعنا من أفكار ومقولات حياة متجددة بحيوية الإبداع لا الاتباع.
يناير 2006م