ليلة السادس من اذار


حافظ عليوي
2007 / 3 / 11 - 13:13     

في الثلث الاخير من ليل السادس من اذار .. في ذلك الظلام الذي لم تقاوم عتمة الزنازين سوى شهوة الفقراء للوطن .. الذي يُقتادون مكبلين بخطوات مذهلة ليجلسوا على تراب الوطن الذي هو جزء من تراب عشقوه دوما ..
عكس الناس .. لتوي اغلقت عيوني لاصحى من نومي وسط الغام من الحواس .. اصوات تهدم داخل المنزل .. لا شيء .. بالتأكيد انه جيش الاحتلال الصهيوني .. اصوات الحفر تزداد اقترابا من مكان نومي الذي اعدته مساءا بترتيب الحجارة الاسمنتية واضع فرشتي فوق الحجارة ورفيقي لننام .. نوما مريحا ؟ .. ليس هادءا ..
ضرب الباب .. صرخت قائلا من هناك وكأنني تفاجئت بهم رغم ترقب حواسي لحركاتهم .. كان الباب قد انزلق على مصراعيه .. ليرد والدي بصوت مرتفع ليدرك الاحتلال بأن هناك احد ..
كانوا الجنود مشرعين اسلحتهم وكشافاتهم تجاهنا .. ليأمرني احدهم بتفكيك احجار الاسمنت التي انتهيت من عملها سريرا قبل اقل من ساعة .. لقد عملت لديهم عامل بناء دون اجرة .. يراودك حينها احساس منحط ليس الا .. كون رفيقي كان زائري لتلك الليلة .. واحتمالية عدم اعتقاله ضئيلة جدا ..
خلال لحظة واحدة رتبنا ورفيقي سبب وجوده عندي لتبرر ذلك لضابط المخابرات الذي عرف بنفسه بالكابتن " افك " ..
انتهى الجنود من اعمال هدم جدران المنزل وحفر بلاط الارض بحجة التفتيش .. ليذهب بنا حيث .. حيث بدأ .. حيث يمكث اهلي .. مشيت ورفيقي بخطوات معا دون وجهة محددة كوننا لاندري قبل اين هم ذاهبون بنا .. لنصل الى المنزل حيث يتواجد اخواني الاصغر مني سنا لنراهم مثقلين بصمت الاسئلة ..
الكابت افك امسك فجأة بذراعي .. وكأنه يريد ان يوقظني من حلم .. كما يوقظ احدهم اولئك الذي يمشون اثناء نومهم .. وقال :
اريدك ان تأتي وذهب ويرافقه احد جنوده الى غرفة خالية من الانس .. مملوئة بمحتويات المنزل المحطة داخلها .. تكهرب جسدي للمسته .. سأل عن حياتي وماذا اعمل بها ..؟ سأل عن اخي الذي يصغرني وعن عمله ..؟ وكأنه يريد ان يختبر اخلاصه لوطنه .. ليحاول ان ينتهي بالذي يبحث عنه .. بسؤال عقلاني غير ذكي .. قال :
عندما تحصل حرب اهلية او اية مشكلة الا يلزمكم شيء تدافعون به عن حياتكم .. اجبته بجملة كان نتيجتها ممارسة الضعف .. اجبته انه من الضعف ان تقاتل انسان وتضربه .. لكنه مارس ذلك الضعف وضرب اخي المكبل الذي كان عمله في مطعم شعبي ..
خرجت من الغرفة لأرى ايضا رفيقي واخي الذي يصغرني والذي يصغره مكبلين على الارض .. أية ساعة سافلة هذه ؟! ..
ليأتي احد الجنود ليكبلني .. ليلقى رفضي بالانصياع لاوامره .. واستمرت النظرات وعيناه تنظر الى عيوني بحدة لأبادله ذاك الاحساس نفسه .. لينتهي الامر بمجيء احد ضباط الجيش ويأمره بأن يغلق علينا جميعا داخل غرفة واحدة .. عدا اخي الذي يصغرني .. هو اخي .. ورفيقي في نفس الوقت لا ادري .. هل عمره اثنان وعشرين ربيعا ..؟ ام اثنان وعشرين شباطا ..؟!
وحده يقرر .. فأعتقد انه سيختار ان يكون شباطا ..
بقي اخي .. رفيقي وحده بين الشعرات من قراصنة جيش الصهيونية .. يسأله عن شيء يدافع به عن نفسه في حال وقعت احدى المشاكل .. ليلقى الجواب بصوت عاري .. لا يوجد .
نظرت امي اليه .. كانت ملابسه خفيفة جدا والجو باردا .. وقبل ان تقول له انها تريد ان تأتي له بملابس من بين الركام الذي خلط كل شيء بشيء ..
بدا له وكأنه غير مكترث الا بصمتها .. لحظتها فقط تنبهت الى انه لم يكن يرتدي معطفا ..
الحزن لا يحتاج الى معطف مضاد للبرد او المطر .. انه هطولنه السري الدائم .. وها هي .. وها هو اليوم يقاومان معا عادتهما في الكلام ويجربان معا الصمت ..
نظر اليه رفيقي .. فابتسم اخي ..
لماذا لبس ابتسامته معطفا للصمت ؟
كي يجرب معه الان الابتسام ؟
الابتسامة الغائبة .. صمته .. او لغته الاخرى التي تبدو وكأنه يواصل بها الحديث الى نفسه .. لا الى الاخرين ويسخر بها من اشياء يعرفها وحده .. الذي يخفيه عن الاحتلال نفسه .
رفيقي ام اخي ؟.. لا ادري بعد ..
ولا ادري ايضا كم يلزمه من الصمت كي لا تشي به الحرائق !..
لكن .. هو الذي يعرف كيف يلامس تراب وطنه من داخل زنزانته .. يحتضنها ببطء متعمد من الداخل .. كما يحتضن جملة هاربة .. بشيء من الكسل ..
هذا الرجل الذي ذهب ليرسم شكل الوطن على جدران زنزانته .. كيف له ان ينسى ليلة السادس من اذار ؟
وكيف له ان ينسى صموده داخل جدران منزله المدمر ؟
كيف يستطيع ان ينسى صراخ امه الذي لم تسمعه وهو مكبل داخل جيبات الاحتلال ؟
كيف لها ان تنسى هي كل مالم يحدث بينه وبينها ؟
في ساعة متأخرة من الشوق .. يداهمها حبه .. يأتي في ساعة متأخرة من الذكرى .. يباغتها بين نوم ان كان واخر .. يضرم الشوق في ليلها .. ويرحل لمعتقله .. يمتطي اليه حنانها .. وتدري :
للحنان صهيل داخلي لا يعترضه منطق .. فتشهق ... وخيول الشوق الوحشية تأخذها اليه .
في عتمة الليل يأتي .. يشعل كل شيء بداخلها .. ويمضي .. فتجلس في المقعد المواجه لغيابه .. هناك .. حيث جلس يوما مقابلا لها .. تستعيد به انبهارها حيث كبر يوما بيوم بين يداها .. بحضنها الدافء . هناك خلف الجبل البعيد حبيبها .
ماذا تراها تفعل دونه ؟ هناك مقعد للذاكرة واخر في القلب مازال شاغرا بعده .. ريثما يأتي ..
يوف يأتي ..
هو رجل الوقت شوقا .. تخاف ان يشي به فرحها المباغت بعدما ان وشت عليه حبر العملاء ..
في اليوم التالي توفت امها .. أي جدته وهو في معتقله ينتظر التحقيق ليُحسم مصيره .. ذهبت امي لعزاء امها .. كان في غياب امي يقوم بقامها بكل شيء .. حتى بأعمال البيت .. افتقدته .. وكأن احد اعصابي شُلّت .. ذهبت يومها ابحث عن اجوبة .. بعد ان قضيت نصف نهاري في مواساة امي .. والنصف الاخر في مواساة نفسي .. اتى رفيقي ام اخي ؟! الذي لا زلت اجهل بل اعرف جيدا انه رجل الشوق ..
اتى ليجيبني على اسألتي .. ما كان ينهي اجاباته حتى يختفي .. حتى اجلس منهارا ويفاجئني البكاء .. أي زمن هذا الذي اصبح فيه الاخوة يلتقون في مساحات الذاكرة فقط .. فيتشاجرون ويتصالحون على مسمع من الاخرين .. ثم يفترقون دون ان يدروا متى سيكون لقاؤهم القادم .. وفي أي عالم !!
لكنه يأتي دائما .. لكن الاجمل ان يأتي دائما متأخرا .. كوني لم اجتاز معه يوما منتصف الليل .. يأتي وصوته ملامسا لمسمعي ..
ما اكاد التفت خلفي حتى وجدتني على حافة جسده بيننا انفاس وقبلة .. ولكنه لم يقبلني .. كنت اتمنى لو ضمني اليه او ضممته لصدري ..
كنت اود لو كان بامكاني ان املأ هذا الدفتر الاسود .. وانا اصف فقط اللحظة الفاصلة بين عمرين ان اوقفه .. ان احنطه داخل الوقت .. لكن النوم في النهاية هو اكثر خيباتي ثباتا .