الإضراب: حباب الشعب السوداني


مجدي الجزولي
2007 / 3 / 6 - 12:36     

ساق محللون كثر حجج وافرة في ذم نيفاشا وتبيان ما فيها من نقائص ومثالب، وأصدق تلك الانتقادات عندي أنها حل رياضي لمشكلة لا تستوعبها الرياضيات، ففيها من شبهة الهندسة السكانية والاجتماعية الكثير، إذ تكتفي عن جمهور الفاعلين بفاعلين إثنين. والمقصود بالجمهور ليس زمر السياسة الخرطومية، وإنما قطاعات عريضة من الشعب السوداني تشكل غالبه، فهي لم تكل أمرها منقادة مختارة لا للمؤتمر الوطني، ولا للحركة الشعبية. اليوم، لكن، يوم شكر نيفاشا، فقد سمحت نضالات شعبنا التي توجتها نيفاشا بانفتاح مسارات لديالكتيك التغيير الاجتماعي كانت بواباتها حتى عهد قريب مستحيل عبورها. أما وقد أينعت بعض من ثمار نيفاشا في هيئة ترتيبات جديدة للسلطة السياسية رمت بثقل أكيد في ميزان القوى لصالح التحول الديموقراطي فإن رياح جماهيرية أخذت تهب في هذا الشراع طلباً للقطاف.
أكثر البهجة وأشدها بمستجد في سياق صراع شعبنا ضد النظام القائم فيه تحول نوعي يثير حواس التفاؤل، وذلك طقس الإضراب الحار الذي أخذت به جموع جماهيرية في أكثر من بقعة من بلادنا وقاية من برود النصوص وتحرراَ من آفة الوثائق. في خلال الأشهر القليلة الفائتة صعد المعلمون والطلاب، في بقاع عديدة من بلادنا، صعدوا نضالهم العادل إلى درجة (الإضراب)، وهو فعل يقع في درجة أدنى من (العصيان المدني)، والإثنان في مقامات العمل الجماهيري عتبات للانتقال من التراكم الكمي إلى التغيير النوعي. بالإضافة إلى هاتين الفئتين إنضم التجار إلى الركب. اشتركت كافة الإضرابات في كونها احتجاج على "فساد الدولة"، فهي إما عاجزة عن الإيفاء بالتعهد الأولي لأي صاحب عمل، أي دفع الأجور؛ أو تقحم يدها المتسلطة اقحاماً في جيوب الخلق، منتزعة ما تريد من مال انتزاعاً. في الخلفية بالطبع أوضاع الميزانية الحكومية في أواخر العام المالي المنصرم، وبدايات العام الجاري، وهي فترة انتقال يغلظ فيها الجباة الأعلى على أولئك الأدني من بداية السلم إلى آخره كل يلوم صاحبه. كيف لا والميزانية الماضية (2006م) اعتمدت فقط في 7,4% منها على الإيرادات غير الضريبية، أي الإنتاج الفعال، بينما شكلت الضرائب المباشرة وغير المباشرة 39,5%، هذا مع زيادة الضرائب غير المباشرة بقيمة بلغت 571 مليار دينار، وزيادة ضريبة القيمة المضافة من 10% إلى 12%. جدير بالذكر أن جملة المرصود للدعم الاجتماعي بلغ 1,9% من الإنفاق العام (رأي الهيئة البرلمانية للحزب الشيوعي في ميزانية 2006م، موقع الميدان).
بدأت سلسلة الإضرابات الأخيرة بتحرك عسكري شهدته عاصمة الجنوب جوبا، وذلك في 16 ديسمبر من العام الماضي، حيث أخذ الجنود بغضبهم إلى الشوارع مطلقين الرصاص في الهواء احتجاجاً على عدم دفع رواتبهم لما يزيد على تسعة أشهر. ولعلها (المواهي) هي الجامع المفقود بين (الجنوب) و(الشمال) في سياق نزاعنا الوطني الغني بالتحليل (الثقافي). المتابع يذكر لا غرو قسوة السياط التي جلد بها (المعلقون المحترفون) من أتباع المؤتمر الوطني ظهر حكومة الجنوب. لكن لم نسمع من تلك الجهة بنت شفة طلباً للإنصاف والشفافية في ذات الشأن عندما كان الأمر متعلقاً بمعلمي كوستي على سبيل المثال، فمن سيجلد ظهر (الفيل)، رغم أن جلده ما أشد غلظته. والواقع أن قدراً من الحيوية السياسية في الحركة الشعبية جعل من الممكن تحويل تذمر الشوارع إلى قضية للتباحث في أروقة (ياي)، هذا بينما ظل (الجماعة) صم ثمالة الصمم لا يشغل بالهم خروج مدن بحالها عليهم طلباً للمواهي، والعلة المباشرة حبس متأخرات الولايات في المركز: مـتأخرات بلغت أواخر ديسمبر الماضي 80 مليار دينار لا تستطيع لها وزارة المالية الاتحادية سداداً، أو لا ترغب.
في 25 ديسمبر أعلن عمال الإرصاد الجوي عزمهم هم أيضاً على الإضراب رداً على تأخير المرتبات، وبذلك انفتحت سيرة امتدت وانتشرت في البوادي والمدن. التقط المعاشيون القفاز وتظاهروا علناً في 27 ديسمبر، لا تهديد ولا يحزنون، على عدم صرف مستحقاتهم، وذلك أمام مقر الصندوق القومي للتأمين الاجتماعي بشارع الجمهورية. الموجة العليا للإضراب لم تتولد، على غير المعهود، في لجة الخرطوم، بل جعل المعلمون في الأقاليم من (اللامركزية) واقعاً فعالاً. البداية كانت في الدمازين عندما شد المعلمون العزم وأعلنوا الإضراب عن العمل في الاسبوع الأول من يناير. تواصل الإضراب حتى تاريخ 17 يناير، بعدما جذب إلى حوضه طلاب المدارس الذين خرجوا إلى الشوارع متظاهرين، وهاجموا في جمعهم مقر وزارة التربية والتعليم في الدمازين، وتقدموا محاولين الوصول إلى بيت الوالي. في هذا المعترك أصابت رصاصات البوليس إثنين من الطلاب. حقق الإضراب آخر الأمر قصده وشرعت السلطات المالية بتاريخ 17 يناير في صرف المتأخرات المطلوبة. في ذات التاريخ أعلن المعلمون في كوستي الدخول في إضراب مفتوح لعدم صرف 50% من المرتب الشهري المستحق لشهر ديسمبر. كما حقق معلمو الدمازين قصدهم كذلك فعل المعلمون في ولاية جنوب كردفان، حيث نفذوا اضراباً من 11 يناير حتى 23 يناير انتهى بصرف مرتبات ديسمبر المتأخرة. الفرق أنه بينما كانت الإضرابات في كل من كوستي والدمازين محدودة بحدود المدينة شمل إضراب جنوب كردفان محليات الدلنج، لقاوة، رشاد، وأبيي، وفي ذلك عسر تنظيمي يسأل عنه النقابيون. لأن المظلمة واحدة، أعلن المعلمون في الضعين بدورهم الإضراب الشامل في 25 يناير بعدما فشلت الحكومة في سداد متأخراتهم البالغة مليار ونصف دينار، والتي تعود في جزء منها إلى العام 2003م. تواصل إضراب الضعين وإمتد حتى منتصف فبراير الماضي.
في كل ماسبق كانت المبادرة تأتي من فرعيات نقابة التعليم العام، التي صحت على تفلت الأقاليم فأعلنت من مركزها في 29 يناير تهديداً بالإضراب العام في حال عدم صرف معلمي الولايات لرواتبهم. الحق أن المعلمين قد أعجزوا نقابة المنشأة التي تضم في حكرها كافة العاملين في التعليم العام، معلمين وغيرهم. بل يمكن القول أنه في ظل تردي الأحوال المعيشية لعوام المدرسين غدت أوضاعهم شبيهة كل الشبه بأهل مسغبة أكبر من العمال في قطاع التعليم. لكن، حيث وضع القانون سدوداً تحول وفعالية الفئات المتجانسة في التعبير عن مصالحها بجمع الكل في (راكوبة) واحدة أفضت المسغبة المشتركة إلى وحدة في الهدف. كذلك نتج عن الترهل المقصود في هياكل النقابات قصد تطويق وحدتها استقلالاً مقاتلاً للفرعيات عن المركز، حتى أنها تعلن الإضراب وترفعه دون كثير انتباه لمزاج النقابة العامة. فأي صندوق باندورا هذا؟
لم تقتصر حمى الإضراب على المعلمين إنما أصابت أيضاً فئة لم يعرف عنها في تاريخنا السياسي الإضراب أصالة، وبذا أدهشت وأرهبت: نفذ تجار سوق أم درمان بتاريخ 28 يناير إضراباً عن العمل احتجاجاً على زيادات الرسوم المفرضة عليهم بنسب تتراوح ما بين 50% إلى 200%، وأجبروا سلطات المحليات على التفاوض معهم بهذا الصدد. رغم تشديد ممثل للتجار في الراديو على نفي الطبيعة السياسية للإضراب، إلا أنه من الصعب موضوعياً، خاصة في ظروف بلادنا التي لا تعرف حيزاً حرماً للدولة، بل كل للدولة للحزب الحاكم، من الصعب الفصل بين الاحتجاج السياسي والاحتجاج المطلبي، بل هما في هذا السياق توأمان، أو وجهان لعملة واحدة. بهذا المعنى فإن لتجار أم درمان، وإن أبى ممثل لهم تقية أو قناعة، ساعد سياسي برز هذه المرة، ليس في صناديق انتخابات سهماً للأمة أوالاتحادي وإنما في الشارع حيث المطالب تسيل، فجمعتهم والغمار.
في جنوب كردفان استوى السخط انتفاضة محلية، حيث أعلنت عدة نقابات تضم العمال والموظفين والمعلمين إضراباً شاملاً في 10 فبراير احتجاجاً على تأخير مرتبات شهر يناير. كما أعلن الخريجون رفضهم الانخراط في اتحاد عام نقابات الولاية وطالبوا بتكوين نقابات جديدة ديموقراطية حرة ومستقلة. استمر الإضراب حتى اشتعل في شاكلة مظاهرات ضمت الطلاب، وكانت محصلة العنف المتبادل حرق 30 عربة حكومية وخسائر قدرت بمبلغ 650 – 700 مليون جنيه. النتيجة المنظورة كانت حل حكومة الولاية وإعلان حكومة جديدة مع تعديلات في عدد من الوزارات والمعتمديات. في 26 فبراير انضمت نيالا إلى القطار حيث أعلن المعلمون بمحلية نيالا شمال إضراباً مفتوحاً عن العمل مطالبين بمتأخرات رواتبهم البالغة 2 مليار.
رجال البوليس في وانجوك شمالي بحر الغزال لم يتوقفوا يوم 19 فبراير عن العمل وكفى، بل أضرموا النار في موقع العمل، وذلك للاحتجاج على عدم دفع رواتبهم مخلفين وراءهم نقطة بوليس محترقة، ليس بغضب المتظاهرين، وإنما بغضبهم هم! بمراجعة ما سبق فإن الدولة مواجهة بأشكال من الاحتجاج سابقة للوعي النقابي المعروفة خطوات تنظيمه: مذكرة ومذكرة وأخرى، وتفاوض وتفاوض وآخر، ثم يأتي الإضراب بعد تمحيص ودرس لمدة مقدرة معلومة، حتى القمة في الإضراب المفتوح بعد تشاور وتتداول وحسن تخطيط. والدليل أن جل هذه الإضرابات أو كلها كانت منذ وهلتها الأولى إضرابات مفتوحة لا شولة ولا نقطة. كما أنها لم تسر على هدى خطة موحدة جمعت فرعيات نيالا وكوستي وكادوقلي والضعين، إنما كانت الظروف الموحدة والمطالب المشتركة هي دافع الانتظام، أو بمعنى أخر الأرضية الموضوعية لوحدة الحركة النقابية وليس الأشكال التنظيمية.
رغم غياب الخرطوم عن خارطة الإضرابات، إلا أنها كانت حضوراً في العمل الجماهيري محل ما ارتخى قيد الدولة عن عنقها ولو قليلاً، فمن جانب تحكم الدولة سيطرتها على دوائر العمل المنظم من اتحادات ونقابات لكن ينفلت الشارع من جانب آخر حيث لا تحتسب. في 25 فبراير قاد أهالي الحلة الجديدة مظاهرة لمنع هيئة الإمدادات الطبية من الاستيلاء على ميدان المولد؛ وتمكن المفصولون عن العمل في 26 فبراير من تنفيذ اعتصام أمام القصر الجمهوري. كما واجه سكان منطقتي فشودة والعقيدة بالصالحة جنوب أم درمان البلدوزرات القادمة لإزالة مساكنهم في 1 فبراير بعصيان اشتبكوا إثره مع قوات البوليس، والتي قامت باعتقال 12 من المقاومين. لقد أعاد شعبنا إعادة اكتشاف (الإضراب)، فلينظر مهندسو السيناريوهات أي ريح آتية!
مارس 2007م