(الهوية الطبقية للسلطة الفلسطينية (1


حافظ عليوي
2007 / 3 / 1 - 12:15     

الانعكاسات الاقتصادية - الاجتماعية لاتفاقات اوسلو في ضوء سياسة السلطة
الهوية الطبقية للسلطة الفلسطينية

جاءت التحولات الواسعة ، التي شهدتها المنطقة وشهدها العالم بعد تفكك الاتحاد السوفيتي وحرب الخليج الثانية ، لتحدث انقلابا في الوضع الفلسطيني ، وعاد هذا الانقلاب بأفدح الاضرار على الاوضاع في منظمة التحرير الفلسطينية وعلى استراتيجية العمل الوطني الفلسطيني . فعلى صعيد " م.ت.ف " اصاب الانهيار اوضاع القيادة اليمينية المتنفذة ودفعها للبحث عن نفسها عن مكان في " النظام الاقليمي " و النظام الدولي الجديد الذي اعتقدت انه اصبح في متناول ايدي الامبريالية الامريكية . في سعيها لتأمين مكان لنفسها اخذت هذه القيادة تتصرف بذعر مبالغ فيه وتبدي استعدادات واسعة لتقديم التنازلات السياسية امام الشروط الامريكية والاسرائيلية للالتحاق بقطار التسوية ، الذي كان يستعد للانطلاق في مؤتمر مدريد . وعبرت سياسة هذه القيادة بوضوع صاخ عن طبيعتها الطبقية التي تكونت كشريحة ذات طابع برجوازي من خلال موقعها في التشكيل القيادي السياسي والاداري لمنظمة التحرير الفلسطينية ، وبحكم تكوينها هذا من ناحية وبسبب الصعوبات التي كانت تواجهها في محاولاتها لقيادة حركة التحرير الوطني ضد الاحتلال ، خاصة بعد تفكك السوفيتي ونتائج حرب الخليج الثانية ، اخذت سياستها تتبلور في مجموعة من الخطوات التراجعية التي تستهدف حماية ذاتها ومصالحها على حساب حركة التحرر الوطني والمصالح الوطنية .

وقد عبر ذلك عن نفسه في الانقلاب التدريجي على منظمة التحرير الفلسطينية لحساب كيان سياسي جديد كانت ملامحه تتشكل في حساباتها في ضوء مشاركتها غير المباشرة في مؤتمر مدريد والموقع الذي خصص لها في قطار التسوية الامريكية .

كما عبر عن نفسه كذلك في الانقلاب على البرنامج الوطني ، الذي كانت الانتفاضة الشعبية الكبرى قد اعطته زخما جديدا وواسعا طرح الاستقلال الوطني على جدول اعمال حركة التحرر الوطني الفلسطيني كقضية راهنة وقابلة للتنفيذ . كان مشروع الحكم الذاتي مشروعا ينطوي على جاذبية باالنسبة لهذه القيادة باعتباره يؤمن لها العبور من وضع شريحة بيروقراطية تعيش في المنفى الى وضع شريحة حاكمة في كيان سياسي وفر لها فرص التطور والتحكم بالموارد البشرية والاقتصادية في ذلك المجتمع الفلسطيني ، الذي يعيش فوق ارضه . كان الحكم الذاتي بالنسبة لهذه القيادة المتنفذه في ادارات واجهزة منظمة التحرير الفلسطينية بمثابة خشبة الخلاص من ازمة عميقة بدأت تعيشها بفعل انسداد الافاق امام قدرتها على قيادة الاوضاع الفلسطينية وعلى الصمود بعد ان تدهورت علاقاتها العربية وباتت تعيش على هامش صراع المحاور العربية التي شهدت تحولات حاسمة بعد حرب الخليج الثانية ، وبعد ان اخذت الدول الخليجية بسياسة الحصار المالي لمنظمة التحرير الفلسطينية .

لم تكن تلك الازمة التي بدأت تعيشها القيادة المتنفذة في منظمة التحرير الفلسطينية من نوع الازمات الطارئة بقدر ما كانت ازمة بنيوية ذات مضمون طبقي ترتب عليها انعطافة حاسمة في سلوكها وفي خياراتها السياسية . صحيح ان هذه الانعطافة في السلوك والخيارات السياسية لم تكن غير متوقعة ، غير انها بتسارعها ومسارها جاءت تلقي الضوء على ما هو جوهري في مواقفها من الحركة الجماهيرية ، وفي اسلوب معالجتها لحالة التناقض بين الحالة البيروقراطية التي انتهت اليها الاوضاع في منظمة التحرير الفلسطينية والحالة الجماهيرية ذات التكوين الديمقراطي التي كانت تعيشها الاوضاع في المناطق الفلسطينية المحتلة في السنوات الاولى للانتفاضة الشعبية . لقد كانت هذه القيادة المتنفذة تقف على مفترق طرق في سلوكها وخياراتها السياسية ، فإما الاستسلام والتسليم بما آلت اليه الاوضاع في منظمة التحرير الفلسطينية من حالة غير ديمقراطية تثقل حركتها وعلاقاتها شبكة معقدة من الادارات والمؤسسات والاجهزة البيروقراطية المعطلة وغير المنتجة التي تستهلك الموارد المالية المتاحة ، واما التقدم باتجاه الانسجام في الحالة الجماهيرية ذات الطبيعة الديمقراطية التقدمية والتي كانت تعيش حالة صدام متواصل مع سلطات وقوات الاحتلال ومشاريع الحلول الامريكية - الاسرائيلية .

وقد سعت هذه الشريحة البيروقراطية الى حل ازمتها هذه في ضوء الحالة البيروقراطية التي تردت اليها الاوضاع في منظمة التحرير الفلسطينية باحتواء الحالة الجماهيرية الديمقراطية التي تشكلت في المناطق المحتلة في ظل الانتفاضة بالاساليب والوسائل البيروقراطية ، الامر الذي فام ازمتها ، خاصة في ضوء الاختلال الواسع في نسبة القوى الاقليمية والدولية بعد حرب الخليج الثانية وانهيار الاتحاد السوفيتي . ولم يكن ممكنا لهذه الشريحة ان تنقلب على الاوضاع التي صنعتها بايديها في منظمةالتحرير الفلسطينية والاقتراب من الحالة الجماهيرية الديمقراطية للانتفاضة الشعبية ، لما تنطوي عليه مثل هذه الخطوة من تهديد لموقعها القيادي في حركة التحرر الوطني ولامتيازاتها التي لعبت دورا مهما في مسار تحولها من برجوازية صغيرة لاجئة ذات توجهات راديكالية الى بيروقراطية تبحث لنفسها عن كيان سياسي جديد من خلال الاقتراب من مشاريع التسوية الامريكية والانسجام مع ما يترتب عليها من مواقف وسياسات .

لم يكن الاقتراب من الحالة الجماهيرية الديمقراطية في للانتفاضة والاستجابة لمتطلبات تطورها وتصاعدها خيارا مطورحا على جدول اعمال القيادة المتنفذه في منظمة التحرير الفلسطينية لاعتبارات متعددة . فالانتفاضة كحركة جماهيرية ذات طابع ديمقراطي كانت تدفع في سنواتها الاولى نحو اعادة صوغ العلاقات في اطار الحركة الوطنية الفلسطينية في صالح القوى الوطنية الجذرية و الديمقراطية والتقدمية ، وهو امر كان يثير مخاوف هذه القيادة ويدفعها الى التدخل في شؤونها بوسائل بيروقراطية تضع قيودا على افاق تطورها وتجذرها . وفي هذا الموقف اتسمت سياسة هذه القيادة بالاحجام عن تطوير الموقف الوطني في مواجهة ضغط الادارة الامريكية ومشروعها في التحضير لمؤتمر مدريد بالتردد في اتخاذ خطوات جادة ومسؤولة تعيد الاعتبار للوحدة الوطنية والعلاقات بين اطراف الائتلاف الوطني في منظمة التحرير الفلسطينية فضلا عن النزوع نحو احتكار السلطة والقرار في اطار تنامي الميول التي تضغط بقوة للالتحاق بالمشروع الامريكي بشروطه المجحفة على امل الاعتراف بموقعها ودورها في التسوية ، والاهم في الكيان السياسي الذي كان المشروع الامريكي يلوح به كنتيجة للتسوية .

ولم تكن الشريحة البيروقراطية المتنفة في منظمة التحرير الفلسطينية في وضع يمكنها من الدخول في مواجهة او اشتباك مع المشروع الامريكي للتسوية ، الذي كان تحت ضغط التعنت الاسرائيلي يستهدف تهميش دورها ، خاصة بعد ان اخذت تفقد قدرتها على المناورة بين المحاور العربية ، التي اعادت حرب الخليج الثانية خلط اوراقها على نحو لم تعرفه المنطقة من قبل . لقد وجدت الشريحة العليا للبيروقراطية الفلسطينية نفسها في ضوء الاوضاع الخطيرة التي انتهت اليها الاوضاع العربية ، خاصة على المستوى الرسمي ، في حالة من العزلة ومحدودية القدرة على المناورة . وبسبب من طبيعتها الطبقية غير الديمقراطية ومن ضعف ثقتها بالحركة الجماهيرية الفلسطينية منها والعربية على حد سواء ، فانها لم تكتفي فقط بابقاء الحركة الجماهيرية للانتفاضة تحت وصيتها وعرضة لتدخلاتها البيروقراطية ، بل سعت الى جانب ذلك الى الوقوف في وجه التعبئة الديمقراطية المنظمة للقوى الشعبية ومارست في السياسة العملية موقفها مترددا ومرتبكا دون ان تدرك ما يترتب على لك من اثار ضارة ونتائج سلبية واسعة على المصالح الوطنية ، التي كان الدفاع عنها يتطلب بل ويشترط تعبئة ديمقراطية واسعة ومنظمة للقوى في ظروف اخذة فيها الصراع يشتد في البحث عن حلول للقضية الفلسطينية .
لم يكن ممكنا ان تسلك القيادة البيروقراطية المتنفذة في م.ت.ف في حينه سلوكا اخر لحماية المصالح الوطنية الفلسطينية . بسبب طبيعتها وتكوينها ومصالحها الطبقية بالاساس ، التي فاقمها ضيق هامش المتاورة امامها وما ترتب على الحصار المالي للمنظمة من نتائج بعد ان اخذت تفقد احد اهم مصادر قوتها وتأثيرها في القرار السياسي الوطني . فقد كان الدعم الذي كانت تقدمه بعض الدول العربية بشكل خاص يستهدف صوغ الاوضاع في م.ت.ف. والحركة الوطنية . بما يعتز من ثقل ودور الشريحة البيروقراطية في المنظمة والتأثير في مواقفها وسياستها وبما يعطل التحول نحو مواقع اكثر صلابة في الموقف من مشاريع التسوية الأمريكية . وقد نجحت هذه الدول في سياستها كما نجحت عندما أخذت بسياسة الحصار المالي . وهكذا نمت عند هذه الشريحة ميول التكثيف مع الشروط والاملاءات الامريكية ظنا منها ان ذلك يؤهلها لان تكون طرفها مقبولا في التسوية السياسية للصراع.
ولم تكن ميول التكيف هذه بجديدة على سلوك وسياسة القيادة المتنفذة في م . ت . ف ، فقد سبق ان اكدت مرارا استعدادها لذلك . غير ان الجديد هو الرهان على الانتقال من وضع الشريحة البيروقراطية اللاجئة ، التي تنوء تحت ضغط ازمة تتفاقم في ظل تعقد اليات الصراع وتعدد الاستعصاءات التي تعترض طريقة التسوية ، الى وضع سلطة حاكمة في ظل مشروع للتسوية يبدأ بحكم ذاتي للسكان . كان ذلك واضحا منذ السنوات الاولى للانتفاضة ، اذ في الوقت الذي كانت فيه الانتفاضة الشعبية في اوج تطور وتصادمها مع سلطات الاحتلال ، وكانت تبني الانوية الاولية لسلطة الشعب ، وتؤثر في الرأي العام الاسرائيلي والامريكي للقبول بفكرة التسوية والعمل على حل للصراع وفق الصيغة الناميبية ، أي حل يكون على تحديد الهدف النهائي للتسوية والمراحل المترابطة في الوصول الى الهدف ، كانت القيادة المهيمنة على المنظمة تبدي الاستعداد للدخول في تسوية وتقوم على مرحلية التفاوض دون ترابط ودون تحديد الهدف النهائي للمفاوضات .
في وقت مبكر راجت في اوساط هذه القيادة ، كما في اوساط اخرى ، الاوهام بأن الانتفاضة قد انضجت شروط التوصل الى حل سياسي سريع للصراع الفلسطيني – الاسرائيلي ، كما راجت الاوهام السياسية بأن سياسة الانفراج الدولي ، التي كانت تسير عليها ادارة غورباتشوف في الاتحاد السوفيتي ، وهي سياسة تراجعية انهزامية ، من شأنها ان تنعكس بشكل ايجابي وتلقائي على الوضع في الشرق الاوسط من خلال التوجه الى اخماد بؤر التوتر الاقليمية وبما يكفل تسوية الصراع العربي والفلسطيني – الاسرائيلي . وعلى الرغم من ان تطور الاحداث قد اثبت في وقت مبكر عقم الرهان على هذا كله وخطورة الاقدام على خطوات من شأنها خفض سقف المطالب التي طرحتها الانتفاضة على جدول اعمالها ، الا ان نزعة التحول الى سلطة حاكمة باي ثمن في اطار حكم ذاتي اصبحت السياسة الرسمية غير المعلنة لهذه الشريحة البيروقراطية التي كانت تعيش اخطر ازماتها .
كانت نزعة التحول الى سلطة حاكمة بأي ثمن تنطوي على اخطار الاستعداد لتقديم التنازلات السياسية ، بدءا بالاستعداد لتهدئة الانتفاضة و السيطرة عليها وتوظيفها في صفقات المساومة السياسية مع مشاريع التسوية الامريكية – الاسرائيلية ، مرورا بتهميش الائتلاف الوطني العريض في اطار م . ت . ف حتى يصبح ممكنا المضي في سياسة التكيف مع متطلبات التسوية الامريكية – الاسرائيلية ، وانتهاء بخفض سقف المطالب الفلسطينية والموقف الفلسطيني ، الذي عبرت عنه قرارات المجالس الوطنية . وقد كانت هذه البيروقراطية الفلسطينية تجهز اوضاعها لمثل هذا التحول دفاعا عن مصالحها الطبقية الانانية بالدرجة الرئيسية باعتبار ذلك بمثابة خشبة الخلاص من ازمتها ، والتي كانت تتفاقم ليس فقط بسبب ضيق هامش قدرتها على المناورة في ظل التحولات الاقليمية والدولية ، بل وبسبب موقفها " الاحتوائي " من الحركة الجماهيرية ومطالبها كما عبرت عنها الانتفاضة الشعبية . وقد كانت ازمة القيادة المتنفذة في م. ت. ف تتفاقم اكثر فاكثر كلما ابتعدت عن مطالب الانتفاضة والحركة الجماهيرية وكلما امعنت في سياسة تهميش دور الائتلاف الوطني العريض في اطار المنظمة والبرنامج المشترك الذي يستند اليه ، لانها كانت تجرد نفسها من الاسلحة التي تشكل بالاساس مصدر القوة في مواجهة الضغوط الامريكية المسلطة عليها .
وقد شكل هروب الشريحة البيروقراطية هذه من مفاوضات مدريد – واشنطن ، والتي كانت لاعتبارات عدة تجري في اجواء شبه علنية تفرض عليها الدخول في اشتباكات متقطعة مع المشاريع والمناورات الامريكية والاسرائيلية في اطار خيارها للتسوية على اساس الترتيبات الانتقالية للحكم الذاتي ، الى مفاوضات اوسلو السرية نقطة التحول الحاسم في سياسة السقوط في شرك مشروع للتسوية لم تكن تقدر العواقب الوخيمة المترتبة عليه . فقد جردت نفسها في مفاوضات اوسلو السرية من جميع الاسلحة التي من شأنها ان تحسن مواقفها في سياق سعيها للتحول الى برجوازية حاكمة .

يتبع ..
مع التحية ..