الرفيق لينين: وداعاً ومرحباً


مجدي الجزولي
2007 / 2 / 5 - 12:20     

مرت قبل أيام الذكرى الثالثة والثمانون لوفاة الرفيق فلاديمير إليتش أوليانوف "لينين" (24 يناير 1924م). بالطبع، يصعب على الكثيرين اليوم بما في ذلك كثير من (الشيوعيين) قبول "فكرة لينين للقرن الواحد والعشرين". لربما هضم الناس صدوع ماركس بالحق الشارح للرأسمالية والمضاد لها في آن واحد، وأشاروا إلى أعماله بالقبول في كومة ما نحمل معنا إلى المستقبل. هذا كونه اقتصادي مجيد اكتنه سر السلعة والنقد. لكن لينين وثورته البلشفية، ديكتاتورية البروليتاريا، الحزب الثوري، وما إلى ذلك .. فغالب الوجوه تنصر، وغالب الشفاه تتعوذ. عند الغالبية لا مكان للرفيق لينين في القرن الواحد والعشرين! بالعكس من هذا التصور، يفيد ما يلي لماذا علينا استعادة جذر نضال لينين نستعين به على نوائب عصر المال الممغنط.

إن التقدير الموضوعي لكفاح لينين وعمله قضية جد شائكة وتحتاج قبل كل شئ تحرر العقول من حجب كثيفة بعضها تبجيل محض وبعضها غبينة فظة، والشاهد في كل أن لينين كان في المقام الأول امرءاً يعمل جهده بوسع ما يصل إليه عقله: وهذا محط التشابك فهو قد استن عزائم في الفكر السياسي جعلت من هذا الضرب الفكري علماً، هذا من جهة؛ ومن أخرى كان عاملاً بما علم لا يخشى التجريب والتصويب والمبادرة، فعبقريته كان مجالها الأساسي العمل، لا الحديث عنه. وبما أنه ساهم مساهمة إبداعية، بمعنى أولى تضرب بها الأمثال وتدشينية تساق بمثالها التقاليد، وذلك في تجذير السياسة وإحالتها إلى المصالح اليومية والاستراتيجية للمنتجين فقد اغتر بجهده نفر من مناصريه حتى جعلوا منه قديساً لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، هؤلاء أرادوا الخير وأسسوا لشر. آخرون أرادوا الشر وأصابوه حيث جعلوا من (سياسة) لينين للواقع تكبيلاً لتفسير الواقع بحسب مصالحهم السلطوية حتى صارت مشاريع لينين عندهم كراسات للحق تدرس باسم (اللينينية) أخضعوا صفحاتها للتحرير والتقرير والحذف والإضافة. ثم زادوا عليها باباً آخر للفقه (غير) الماركسي باسم (الستالينية) كأنما تراكمت سنن الآخرين تحذو حذو سنن الأولين. جميع ذلك هو ما عرفنا في دوائر المشتغلين برشد الماركسية بشهرة (الجمود). وهو توصيف يجانب، شيئاً ما، حكمة الماركسية بتورعه عن تسمية الفاعلين، وإحالته ظاهرة ممتدة إلى قدر محض منقطعة عن الحراك الاقتصادي الاجتماعي والسياسي الذي نجمت عنه. الجمود لم يكن جموداً بمعنى العجز، وإنما كان إرادة فاعلة غلبت على السلطة السوفييتية لم تحاربها برغبة وطلب، بل رعتها وتمسكت بها في إطار مشروعها السياسي، بادئ ذي بدء في وجه المعارضة الداخلية الشعبية والبروليتارية، وكذلك في سياق الصراع الدولي بين القطبين.

لاحت بارقة للتحرر من ربقة (الجمود) هذا في إطار حوارات المؤتمر العشرين للحزب الشيوعي السوفييتي (1956م)، لكن البيروقراطية التي حذر منها لينين كانت قد استقرت في جسد الحزب وفي أوعيته تبررها غريزة البقاء السلطوية لا مساعي (مملكة الحرية) الماركسية. بهذا المعنى، فإن سلسلة تاريخية متسقة متاحة للتحليل الماركسي المضئ لقاعدتها المادية الاجتماعية تصل بين البداية والنهاية في حياة التجربة السوفييتية. وهو جهد لا بد من بذله إذا كان لنا أن نعي دروس هذه التجربة على وجه التحقق، لا على وجه (التوبة) المدفوعة بالفزع من قاسي جلد الليبرالية الرأسمالية المنتصرة، أو الجزع من تبعات انتحار الدولة السوفييتية. بالفعل، أخذت جماعة من الماركسيين الروس هذا الأمر بجده، فانتهبوا فرصة انفتاح الإرشيف السوفييتي للدرس ليشتغلوا على موارد التاريخ فيه بالاعتبار والمراجعة. من ثم شرعوا في تأسيس تيار جديد باسم (الماركسية ما بعد السوفييتية). نشرت مؤسسة روزا لوكسمبورغ ببرلين عملهم الأساس مترجماً إلى الألمانية: "بوزغالين، كولغانوف: الماركسية ما بعد السوفييتية في روسيا؛ إجابات على تحديات القرن الواحد والعشرين – مقولات لصياغة مدرسة علمية" (موسكو، 2005م). وهو تطوير وتلخيص لكتابهم السابق "الرأسمال العالمي"، (موسكو، 2004م). في مقدمة كتابهما ميز الإثنان، ألكساندر بوزغالين وآندريه كولغانوف، المدرسة الجديدة بتقرير التالي:
(1) الوراثة الناقدة لمكتسبات الماركسية الكلاسيكية، وتيارات الأنسنة فيها، خاصة تلك التي نشأت في النصف الثاني من القرن العشرين.
(2) نقد الصيغة الدوغمائية الستالينية للماركسية، وتطوير واختبار مجموعة من المنطلقات الفكرية على أساس من خبرة القرون الأخيرة.
(3) الحوار المفتوح مع المدراس الأخرى، على سبيل التخصيص لا الحصر: الوجودية، وتيارات الأنسنة الأخرى.
(4) التشديد على الإحاطة بالواقع المعاصر بما في ذلك القرن العشرين كونه عصر التحولات القاعدية النوعية والعالمية للحياة الاجتماعية، تلك التي تهيئ المسرح لميلاد المجتمع ما بعد الرأسمالي، ليس ذلك فقط وإنما أيضاً المجتمع ما بعد الصناعي وما بعد الاقتصادي، أي مملكة الحرية. عليه يمكن أن نطلق على اجتهادنا اسم (ماركسية العصر ما بعد الصناعي).
(5) التناول الديالكتيكي لخبرة (الاشتراكية المعاشة) – المعسكر الاشتراكي – كونها ظاهرة متناقضة: من ناحية حملت السمات المعهودة للنظام البيروقراطي التسلطي، ومن أخرى كانت حبلى بالنطفة التقدمية للعلاقات الاشتراكية.

ثمة ما يدعو للتفاؤل من مبادرة كهذه، غير اعتذارية، وفيها شئ من مصادمة. على أن الاضافة إلى ذلك هو مقصود هذه الكتابة، أي الدعوة إلى انخراط جديد مع لينين، ليس استعادة لفقه (اللينينية) كما تمترس في العرف السلطوي للسوفييت الروس، بل استعادة (لينين) بما هو عليه: الثوري المحترف الذي نظر إلى عالمه وهو منقذف في وجهه، فاستجمع ماركسيته وشحذها مجتهداً ما استطاع قصد الثورة حتى تحققت، ثم قصد الدولة حتى تأسست. في كل حال كان (يسايس) و(يقايس)، وفي باله التاريخ سائراً في مداره، والهدف المثمن: نصر الغمار من الناس. إذا كانت تركة لينين على يد الدولة السوفييتية قد تحولت إلى قبر دارس يقف عنده المحبون، وفزاعة يطرد بها البيروقراطيون الشبح الذي خيم على المعسكر الاشتراكي دعوة إلى التغيير منذ نهاية الحرب العالمية الثانية فإن لينين ذاته لم يكن بحساب الشروط التاريخية المحيطة به دوغمائياً مدرسياً، ولا متعصباً أصولياً، لكنه تميز بخاصة (اللا تسامح) الجذري في وجه الرجعية أياً كان سمتها، فأصاب وأخطأ. ومناط العبرة أنه أجاد التراجع عند الخطأ، وأثبت الإقدام في حال الصواب.

بعض الماركسيين يفضل وجهاً من وجوه لينين على آخر، فهنالك من يصطنع فصلاً بين لينين (الشرير) الصفوي، كاتب "ما العمل؟"، الذي يعتمد على نخبة محترفة من الثوريين الحزبيين المثقفين كي ينقذ الطبقة العاملة من وهدة مظلمتها دافعا إليهاً بالوعي الطبقي من خارجها، وبين لينين (الطيب) فيلسوف "الدولة والثورة" الذي لمح خيالاً تصفية الدولة، وتولي الجماهير العريضة إدارة الشؤون العامة مباشرة. ولعل في ذلك تقصير عن إدراك الرسالة الأساسية في "الدولة والثورة": أن الدولة بما هي دولة لا سبيل إلى ديموقراطيتها بصورة كاملة، فهي بطبيعتها ترسيخ ديكتاتورية طبقة على أخرى. من ثم يمكن صياغة الحجة، أنه ما دام الحراك في مجال الدولة فليس من حرج في اتباع أشد الأساليب فظاظة وغلظة وإرهاباً، فداخل هذا المجال لا تعدو أي ديموقراطية أن تكون أضحوكة من خبال. بما أن الدولة أداة للقهر فمحاولات إصلاح وسائلها عن طريق صيانة النظام القضائي وتنظيم الانتخابات وتشريع القوانين الحامية للحقوق الأساسية وما إلى ذلك لا طائل منها، بل مجرد تلبيس وتدليس. منتهى هذا التسلسل وردع الحقيقة فيه أنه لا استقامة في الفصل بين التشابك التاريخي الفريد الذي سمح بالتغيير الثوري في أكتوبر 1917م وبين ذلك الذى أدى إلى المنعطف الستاليني: فلاحون مغبونون ونخبة ثورية ممتازة التنظيم. في هذا التشابك تكمن محنة لينين التاريخية.

إذن ما درس لينين؟ لنرى أولاً ما كان حاله ونخبة البلاشفة في العام 1917م والسنين القليلة التالية. قد تفيد الرواية في شرح البون الشاسع بين لينين وعصبته من جهة وبين (نومنكلاتورا) ستالين من جهة أخرى. مساء 24 أكتوبر 1917م غادر لينين شقته إلى معهد سمولني حيث تولى الإشراف على التغيير الثوري. صعد الرجل إلى الترام وسأل جامعة التذاكر الشابة ما إذا كان القتال دائر في وسط المدينة! في السنين الأولى للثورة كان لينين يتجول في عربة بصحبة سائقه الأمين وحارسه الوحيد (جيل). في جولاته هذه كان كثيراً ما يتعرض لإطلاق النار من قبل البوليس، وللتوقيف والاعتقال، فالبوليس نادراً ما تعرف عليه! مرة وهو عائد من زيارة مدرسة في الضواحي قام ثلة من (الشفاتة) المتزيين بزي البوليس بسلب لينين وسائقه العربة والسلاح، ما دفع الإثنان إلى السير على الأقدام بحثاً عن أقرب نقطة بوليس. أما وقائع محاولة اغتياله فكما يلي: في 30 أغسطس 1918م كان الرجل واقفاً قبالة أحد المصانع يتحدث بشغف مع عاملات متذمرات بعد أن فرغ من زيارة المصنع. وهو على هذه الحال انهمر عليه الرصاص. إتجه به سائقه جيل إلى الكرملين وهو ينزف، حيث لا طبيب ولا يحزنون. اقترحت زوجة لينين أن يهم أحد إلى (الخدرجي) ويشتري ليمونة! في العام 1918م كانت الوجبة الرئيسة في الكرملين (عصيدة) و(شوربة) خضار! وهذه الإشارات في الذهن ننظر في لا تسامح لينين.

لعل الميلاد التاريخي لفرادة لينين يعود إلى العام 1914م عندما اندلعت الحرب العالمية الأولى (الحرب الأوروبية)، ففي موقفه من هذه الحرب يتجلى درسه الأساس: استجلاء الجقيقة بالتحليل الملموس للواقع الملموس، ومن ثم الصمود على الحق غض النظر عن دواعي المواتاة السياسية ودون خشية العزلة أو رهاب الفكرة. بهذا المعنى لا يمكن تعريف السياسة بأنها فن صناعة الممكن وإنما كذلك اختراع الممكنات. في ذلك العام انهارت عملياً الأممية الاشتراكية الثانية (1889 – 1914م)، بدرجة أولى لخروج لينين عليها منافحاً عن الحق الماركسي في غربته. استفاق لينين سريعاً من الصدمة العظيمة التي أصابته جراء انصياع أحزاب الاشتراكية الديموقراطية للوثة "الوطنية" و"الشوفينية القومية" حيث وقفت خائبة تدعم الحرب الأوروبية، وشن هجوماً باسلاً على ما أسماه "انهيار الاشتراكية العاجزة ممثلة في هيئة الأممية الأوروبية، انهيار الإصلاحية والانتهازية، وليس بأية حال انهيار الاشتراكية"!! وقد كانت صدمته جد عظيمة حتى أنه ظن خبر تصويت الاشتراكيين الألمان لصالح المجهود الحربي في البرلمان الألماني (الرايشستاغ) دسيسة من البوليس السري الروسي لخدعة العمال الروس، رغم أن الجريدة التي حملت الخبر كانت يومية (Vorwaerts) الناطقة بإسم الحزب الاشتراكي الديموقراطي الألماني. باستثناء لائحة شرف تضم البلاشفة الروس، والحزب الاشتراكي الديموقراطي الصربي وقفت جميع أحزاب اليسار الأوروبي تساند الحرب بما في ذلك أحزاب فرنسا وبلجيكا وألمانيا. أما لينين وثلته فحصدوا غربة استمسكوا بها ثمناً للحقيقة. كتب لينين معرفاً الحرب الأوروبية: "إن الحرب الأوروبية والعالمية تحمل طابع حرب إمبريالية برجوازية توسعية، هي صراع من أجل الأسواق وفي سبيل حرية نهب البلدان الأجنبية. هي سعي لقمع الحركة الثورية للبروليتاريا والديموقراطية في كل بلد. هذه الحرب تمثل مسعى القوى المسيطرة خداع وتشتيت وذبح البروليتاريا في جميع البلدان عن طريق دفع مستعبدي الأجور في كل قومية إلى قتال رفاقهم لصالح البرجوازية. هذا هو المحتوى الحقيقي الوحيد لهذه الحرب". من هذا المنطلق خلص لينين إلى أن واجب الاشتراكية الديموقراطية هو الدفع باتجاه تحويل الحرب من قتال بين الرفاق البروليتاريين إلى كفاح يستهدف الحكومات البرجوازية والرجعية، وذلك عن طريق تنظيم خلايا فاعلة في جيوش كل القوميات مهمتها شن حملة دعائية مكثفة لهذا الغرض بجانب فضح تفسخ قادة الأممية الاشتراكية الثانية وتعرية مواقفهم الانتهازية.

أما الجانب الأعظم من حذق لينين فقد تبين في دعوته الخاصة إلى شن الهجوم على القيصرية في روسيا وعلى الشوفينية الروسية والسلافية، واستنهاض الهمة للثورة في روسيا بالإضافة إلى ضمان حق تقرير المصير لكافة القوميات المضطهدة تحت نير السلطة الروسية، على أن تتبع ذلك شعارات الجمهورية الديموقراطية، ومصادرة كافة الإقطاعيات، ويوم العمل من ثمانية ساعات. في الواقع يمكن الحكم أن يوتوبيا لينين المفصلة في "الدولة والثورة" ولدت في رحم كارثة 1914م، وهي لم تكن في عرفه خيالاً مفارقاً وإنما واقعاً يكاد يقتطفه من دوحة التاريخ. تمددت هذه اللحظة الخارقة حتى أدرك بها لينين أفق "مقولات أبريل 1917م" التي أفصح فيها عن تكتيك الثورة الروسية. ذلك في وجه معارضة أولية شديدة من معظم رفاق حزبه خاصة الصفوف القيادية، حتى أن (برافدا) الجريدة الناطقة بإسم الحزب أعلنت تملص هيئة التحرير، بل الحزب كله، من هرطقات لينين. وللاستشهاد قال بوغدانوف أن "مقولات لينين ما هي إلى هلوسات مجنون"، وإنضمت إليه زوجة لينين كروبسكايا بزعمها: "أخشى أن لينين قد فقد صوابه". هذا بينما كان إليتش يصنع الواقع باحتراف محققاً في غضون ثلاثة أعوام (1914 – 1917م) طفرة قصوى في العقل الماركسي وفي الممارسة الثورية مكنت ثلة البلاشفة من إمساك التاريخ من قرونه.
إن استعادة لينين تعني استعادة هذه القدرة على المبادرة، استعادة اللا تسامح، تعني إعادة الاكتشاف. أعاد هو اكتشاف المشروع الثوري في رحى الإمبريالية والكولونيالية. واليوم اللازم إعادة اكتشاف الثورة في غمة الليبرالية الجديدة ورأسمالية الأسواق المالية. إن درس لينين هو التحرر من إسار تابوهات الفكر المضمنة في أطلال انهيار الاشتراكية السوفييتية، والتي تعززها بحقد لافت بروباغاندا الرأسمالية المنتصرة في محددات سينية وصادية تخط حواجز المسموح به تحت عنوان الفكر ما بعد الآيديولوجي. بكلمة واحدة علينا استعادة حرية التفكير مرة أخرى، ففي هذا الصدد لم ينطق ماركس وإنجلز ولا حتى لينين ببنت شفة.

يناير 2007م