تأصيل الديمقراطية وسلفية الغرب


باسم شيت
2007 / 2 / 3 - 11:25     

فوز حماس شكّل صفعة قاسية للخطاب الرسمي الأميركي-الأوروبي. فكيف يفوز "أعداء الديمقراطية" و"الإرهابيون" من داخل العملية الديمقراطية؟ هذه الصفعة تثبت بشكل حسّي أن الديمقراطية الغربية تقف عند حدود مصالحها وتتراجع عن ديمقراطيتها عندما يتناقض الخيار الديمقراطي الشعبي مع أهدافها في المنطقة. هذا الدليل ربما كان الأقوى، لأنه كان في فلسطين التي ما تزال قضيّتها محورية إقليمياً، وعالمياً إلى حد ما.

لم تكن الانتخابات الفلسطينية مسألة تفضيل بين حزبين، بل كانت تضع رأياً حازماً في مسيرة السلام بين السلطة الإسرائيلية والسلطة الفلسطينية، ورأياً حازماً رافضاً للسياسات الرسمية في الشرق الأوسط ككل. وتعلم الأنظمة العربية أيضاً أن فوز حماس يهدد بقاءها كأنظمة.

لا ينفصل صعود حماس عن صعود الإسلاميين في المنطقة العربية وعدائهم للأنظمة القائمة. خلال الحرب الباردة، كانت الأنظمة العربية، وبدعم من الاتحاد السوفيتي، تقمع التنظيمات الإسلامية السلفية، كما كانت تقمع الشيوعيين. الولايات المتحدة استغلّت هذا الواقع في حربها على الاتحاد السوفيتي، فاستخدمت التيارات الإسلامية كما حصل مع تدريب بن لادن على أيدي المؤسسة العسكرية الأميركية، وكما كانت السلطة الإسرائيلية تشجّع، في السابق، صعود حماس لمواجهة الأحزاب القومية وحركات التحرر الوطني.

بالنسبة للولايات المتحدة، كانوا والإسلاميين يواجهون عدواً مشتركاً، أعداء الدين أو إمبراطورية الشرّ، كما كانوا يسمّون الاتحاد السوفييتي. بدأت باستمالة الأنظمة الإسلامية في الجزيرة العربية، خاصة السعودية، وكانت الأخيرة، بمساعدة البيت الأبيض، الممول الأساسي لحركات إسلامية كالإخوان في مصر والأردن وسوريا وفلسطين بمواجهة الحركات القومية وحركات التحرر الوطني المدعومة من الاتحاد السوفيتي.

بعد انهيار الاتحاد السوفيتي، أصبحت الولايات المتحدة القوة العظمى الوحيدة في العالم وأرادت أن تضم إلى سلطانها الدول التي كانت تحت سيطرة الاتحاد السوفيتي، ولكنها افتقرت إلى عدو واضح للانطلاق في الحرب. جاءت الحجة الأولى بعد دخول صدام إلى كويت بتشجيع الأميركيين أنفسهم، فقامت الولايات المتحدة بإبرام اتفاقية مع الكويت أتاحت لهم رد قوات صدام إلى العراق.

لم تأتي فرصة ثانية إلا بعد استلام المحافظين الجدد الحكم في البيت الأبيض وأحداث 11 سبتمبر. هنا وجدت الإدارة الأميركية "العدو" ومبرر وجودها، فكانت الحرب على الإرهاب، وكان العدو هو الحركات الإسلامية التي بدأت تواجه الغرب، مثل القاعدة وحماس والجهاد الإسلامي وحزب الله. بعد أفغانستان، كان العراق، وأيضاً بحجة الديمقراطية ومحاربة الإرهاب. ومن هنا كان توجه الولايات المتحدة إلى دعم ثورات ذات لباس ديمقراطي وفوضى سياسية على أمل أن يصبح التوازن الجديد لصالحها. وهذا ما كانت تروج له كونداليزا رايس بمفهومها للفوضى البناءة. لكن الخطة فشلت.

راهنت الإدارة الأميركية على عدم تقبّل التيارات الإسلامية الراديكالية نشوء أنظمة انتخابية ترعاها الولايات المتحدة، أو على الأقل، ان تصبح العملية الديمقراطية كعازل لهذه التياراتً. لكن إدارة بوش أخطأت في فهم الإسلام السياسي. نظَر مثقفو البيت الأبيض والمحافظون الجدد إلى التنظيمات الإسلامية ككيانات إيديولوجية صرفة، واعتبروا أن حربهم ضدها هي حرب إيديولوجية، وهذا هو صلب مفهوم صراع الحضارات.

لكن الحركة الإسلامية تمكّنت من التأقلم مع التغيّرات الجديدة واستطاعت أن تنتج خطاباً سياسياً يتجاوب مع حاجتها لدخول الحياة السياسية التي طالما منعت عنها. خرج الإخوان في مصر إلى الساحة السياسية مطالبين بالديمقراطية والإصلاح، وأحرزت حماس أغلبية واضحة في الانتخابات البلدية الفلسطينية، وكان حزب الله قد دخل العملية السياسية والانتخابية في لبنان، وصعد الإسلاميون في الأردن بعد مظاهرات عام 2000 ضد معاهدة السلام مع إسرائيل ليدخلوا إلى البرلمان الأردني بعدها، كما فاز الإسلاميون في الانتخابات البلدية الأولى في المملكة العربية السعودية. بدأت الحركات الإسلامية تتبني النظام الديمقراطي وتستخدمه لصالحها فتحولت من حركات إيديولوجية إلى تيارات أكثر سياسية وذات برامج إصلاحية.

تلاقى هذا التوجه الإسلامي لتبني الخطاب الديمقراطي ورفض السيطرة الأميركية مع الشارع العربي الذي تصاعدت وتيرة رفضه للاحتلال الإسرائيلي وللحرب على العراق وأفغانستان، وكانت الحكومات العربية تقمع التحركات الشعبية لتسهّل دخول القوات الأميركية إلى المنطقة، فكانت حربهم ضد الولايات المتحدة هي حربهم ضد الأنظمة الحاكمة.

أمّا اليسار فكان غائباً عن الساحة، إما لتواطئه مع الأنظمة أو بسبب الغيبوبة التي وقع فيها الستالينيون بعد انهيار منظومتهم، مما سهل صعود الحركات الإسلامية كقوى "نظيفة" مقابل فساد الأنظمة وأمام انهزامية اليسار.

في مصر، استطاع الإخوان المسلمون إحراز عدد لا يستهان به من المقاعد. وفي إيران، استلم التيار المحافظ السلطة وتوجه في صراع حاد مع الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي برنامجه النووي والعراق والنفط، فكان في الآونة الأخيرة الأكثر عدائية للولايات المتحدة. كما شهد لبنان استمرار صعود حزب الله، وهو تيار إسلامي مناصر للثورة في إيران، ففرض نفسه كركن أساسي في السياسة الخارجية اللبنانية، وأثبت وجوده إقليمياً بدعمه لسياسات مناهضة للولايات المتحدة.

فوز حماس في الانتخابات الفلسطينية يؤكّد مجدداً أن الشارع العربي، والإسلامي، لم يكن ينوي نثر الأرز أو الرقص فرحاً بدخول الجيوش الأميركية إلى المنطقة، كما حاول البيت الأبيض تصويره خلال الحرب على العراق.

قد يكون الإسلاميون تفاجأوا بالدعم الذي يحصلون عليه في الانتخابات. ربما يعلمون أن فوزهم لا يمثل خياراً إسلامياً في السياسة بقدر ما يمثّل خيار مقاومة الاحتلال بالتلازم مع بناء الديمقراطية داخلياً، وهو الخلل الذي وجده اليسار في حركات التحرر التي تحوّلت إلى ديكتاتوريات. لقد تعلّموا ذلك سريعاً واستفادوا من التجربة السابقة. كان بمقدورهم الاستيلاء على السلطة والتفرد بها، لكننا نرى أنهم لم يفعلوا ذلك بل تبنّوا الخيار التشاركي، لأنهم يعلمون أن الأغلبية صوتت لهم في موقف من الوضع الراهن وليس كخيار عقائدي.

هذا يفسّر قرار الإخوان الترشّح على عدد محدود من المقاعد في انتخابات مصر الأخيرة. كما نرى أن حماس ما تزال مصرّة على تشكيل حكومة مشتركة، إن لم تكن مع "فتح" فمع أفرقاء آخرين، وإن كانوا أقل تمثيلاً. وهي لم تقطع بشكل نهائي مع الولايات المتحدة وأوروبا وإن كانت اتخذت موقفاً حازماً كردّة فعل على عدم تقبّل الغرب لنتائج الانتخابات.

وتشير استفتاءات الرأي بعد الانتخابات في فلسطين أن 75% من الذين صوتوا لحماس يعارضون تدمير إسرائيل و84% من الفلسطينيين جميعاً يعارضون هذا المطلب. نستطيع القول أن القرار في فلسطين انطلق من أسباب محقة، وهذا ما تعرفه حماس جيداً. فالشارع الفلسطيني صوّت لحماس رفضاً لاستئثار فتح بالسلطات وفساد عدد لا يستهان به من قيادات فتح وكوادرها، كما صوّتوا من أجل خيار أكثر وضوحاً ومقاومة للإملاءات الأميركية-الإسرائيلية.

في لبنان اتفق حزب الله مع التيار الوطني الحر الذي يمثل الأغلبية المسيحية على نوع من الأجندة السياسية المشتركة. هو لا يريد الوقوف وحيداً، فالشارع المسيحي والشارع الشيعي والشارع اللبناني بشكل عام أصبح أكثر إصراراً على رفض التجييش الطائفي والمذهبي، وهذا ما يقوله استطلاع أخير من أن 77% من الشارع المسيحي يرى إيجابية في تحالف حزب الله والتيار الوطني الحر. بينما رأى استطلاع سبقه أن الدور الأميركي في لبنان هو سلبي، 50% وصفوه بالوصاية، مقابل 38% رأوا فيه دعماً للبنان.

إيران أيضا لم تقطع العلاقات نهائياً مع الغرب وتستمر في محادثاتها مع روسيا، وبشكل غير مباشر مع الولايات المتحدة وأوروبا. فهي القطب الأكثر مواجهة ومباشرة للمشروع الأميركي، لكنها إن استمرت في سياسات القمع في الداخل، قد تخسر زخمها أمام الرفض الشعبي للسياسات المقيدة لحرية العمل السياسي والحريات الفردية.

التحدي الأكبر للإسلاميين يكمن في الأزمة الاقتصادية الاجتماعية. مشاريعهم الاقتصادية لا تختلف عن مشاريع السلطات الحالية، بينما تعاني المنطقة العربية من أكبر نسبة بطالة في العالم (حسب منظمة العمل الدولية التابعة للأمم المتحدة). وفي ظل تطور الصراع الاقتصادي الاجتماعي عالمياً، ظهرت مشكلة الضواحي والتجمّعات "العشوائية" واحتدمت الصراعات العمالية. في 2004، شهد لبنان هذا الصراع في معركة بين سكّان ضاحية حيّ السلّم والجيش نتج عنها مقتل 5 مواطنين برصاص الجيش. ظهر سكّان الضواحي أيضاً في التظاهرة الأخيرة ضد السفارة الدانمركية، وكان المشهد أقرب لأن يكون انتقام المناطق الفقيرة من المناطق الغنيّة من أن يكون حرباً بين الطوائف.

هذه الحقائق تدلّ أيضاً على غياب اليسار في المنطقة العربية. فقد تعرّض إلى تدمير جدّي خلال الحرب الباردة، وتمّ احتواؤه من قبل الأنظمة، كما حصل مع الأحزاب الشيوعية في سوريا ومصر ولبنان. من خلال التحالف مع الأنظمة وانهيار الاتحاد السوفيتي، الممول الأساسي للتيارات الستالينية، بدأ جزء من اليسار يتخبّط في سياسات انتحارية أفقدته قاعدته ومصداقيته شعبياً ونقابياً. أمّا الجزء الآخر فتوجه نحو تحالفات عبثية مع قوى داعمة للمشاريع الأميركية، كما فعل الحزب الشيوعي في العراق، واليسار الديمقراطي في لبنان بتحالفه مع قوى 14 آذار. وفي فلسطين، تخلّت التيارات اليسارية عن المقاومة، فعلياً، وانشغلت في صراعاتها الفئوية.

ذلك لا يعني أن اليسار لم يعد موجوداً. لقد نشأت في هذه المرحلة قوى يسارية جديدة تنادي بالديمقراطية وتناهض الامبريالية والرأسمالية. لكنها، بسبب نشأتها المتأخرة، لم تستطع فرض نفسها شعبياً وديمقراطياً. ومن أبرز الحركات التي حملت هذا الخطاب كانت حملة "لا للحرب لا للديكتاتوريات" في لبنان، وحركة كفاية في مصر، التي تنادي بإسقاط الديكتاتوريات والقمع وتناهض الامبريالية وتدعم التحركات العمالية المناهضة للرأسمالية، وظهرت في الأردن حركات مشابهة. لقد أثبت خطاب رفض بوش وصدّام (أي الأنظمة العربية) شعبيته.

فهل يمكن أن يتحول صعود الإسلاميين إلى انتصار سياسي لليسار في المستقبل؟ لتحقيق ذلك، علينا أن نعيد بناء حركة مناهضة للرأسمالية والإمبريالية ونظام ديمقراطي يمثّل الإرادة الشعبية. علينا بناء الحركة لإنهاء الاحتلال في فلسطين وخروج قوات الاحتلال من العراق. علينا ببناء الحركة أيضاً من أجل وقف الاستغلال الاقتصادي للشعب. ما علينا فعله اليوم هو النهوض بشعاراتنا "نحن"، وقد أثبتت المجريات الأخيرة صحّة ما كنا نقوله.