صراع شامل ومفتوح


باسم شيت
2007 / 2 / 4 - 11:10     

ثلاثة وثلاثين يوماً من العدوان الإسرائيلي على لبنان، وحرب شاملة بين إسرائيل والمقاومة ربما تكون من أهم الحروب العربية الإسرائيلية، إذ استطاع حزب الله تحقيق انتصار لم تحققه أي دولة عربية خلال أكثر من قرن من الصراع مع إسرائيل.

الانتصار هنا لا يحدد بالخسائر الفادحة من الجهة الإسرائيلية، فكما يقول الكثير من القياديين العسكريين الإسرائيليين: إن حزب الله بحاجة لتحقيق 20% انتصاراً ليعتبر رابحاً، أما على الجيش الإسرائيلي أن يحقق انتصاراً بنسبة 80% ليعتبر انتصاراً.

يقول أوليفي روي، كاتب "الإسلام المعولم" في الفينانشال تايمز، "لأول مرة لم يستطع جيش الدفاع الإسرائيلي من النجاح في حرب مفتوحة". وهذا ما يوضّحه أوري أفنيري، الكاتب الإسرائيلي: "بقي حزب الله كما كان، لم يدمّر، لم ينزع سلاحه، ولم يخرج من مكانه، مقاتلوه اثبتوا جدارتهم في ساحة المعركة وحتى أنهم نالوا إعجاب الجنود الإسرائيليين... في إسرائيل هناك اليوم جو عام من الخيبة والتسليم."

ما بدأ كهجوم إسرائيلي منظم ومحضّر لإبادة وتدمير حزب الله انتهى بإذلال إسرائيل. هذه النتيجة لم تفاجئ فحسب بل شكلت صفعة للسياسة الأميركية في الشرق الأوسط في محاولتها إنقاذ هيمنتها في العراق. الخطة كانت بسيطة، فوّضت الولايات المتحدة إسرائيل لضرب التأثير الإيراني في لبنان المتمثل في حزب الله راجية أن يشكل ذلك ضربة للتأثير الإيراني على شيعة العراق.

خسارة حزب الله كان ستشكّل ضغطاً محورياً على إيران، من ملفّها النووي، إلى استقرارها الداخلي، ومصالحها في العراق وقدرتها على لعب دور استراتيجي في المنطقة.

الخطة الحربية الإسرائيلية كانت واضحة، ارتهان وحصار لبنان وشعبه ثم البدء بتصفية الرهائن، واحداً بعد الآخر، عشرة بعد عشرة، مئة بعد المئة، طرد الآلاف خارج بيوتهم، حرمانهم من الطعام، الماء والكهرباء، تخليف الدمار والدماء حتى ينقلب اللبنانيون أنفسهم على حزب الله ويسلمونه لبوش.

هذه المراهنة أتت بعد عام من مما سمي بثورة الأرز، وما مثّلته من صعود تيار قديم يدّعي التجديد على الساحة السياسية اللبنانية، حركة أو قوى 14 آذار. منذ البدء، بنت هذه الحركة نفسها على شعور متزايد في الشارع اللبناني ضد الوجود العسكري السوري في لبنان وأوضحت في خطابها السياسي أن عدوها الأساسي في هذه المرحلة هو سوريا، وأنها تريد فك الارتباط مع المنطقة. ولا يخفى على أحد أن هذه الحركة كانت ورقة الرهان الأساسية للولايات المتحدة وإسرائيل لتحريض الشارع اللبناني ضد حزب الله. لكن الخطة فشلت.

المراهنة كانت خاطئة منذ البداية. قوى 14 آذار، بعد عام تقريباً من صعودها، لم تعد قادرة على تأليب الرأي العام وأصبحت تشكل قطباً متناقضاً مع التغيرات الاجتماعية السياسية الحاصلة في المجتمع اللبناني. خاضت الانتخابات النيابية الأخيرة وهي في خلاف سياسي جذري ضد حزب الله، لكنها كانت أيضا تخوضها في تحالف انتخابي معه، هذا الأمر أفقد قوى 14 آذار الكثير من مصداقيتها في الشارع.
النقطة الثانية كانت إعلانها حرباً سياسية مفتوحة مع التيار الوطني الحر، التيار السياسي الأقدم في الخط المعادي للوجود السوري في لبنان. هذا أيضا أفقدها جمهوراً كان أساسيا في تفعيل التحركات الشعبية التي نشأت على أساسها، وبرهن على عدم وجود رؤية سياسية واضحة لديها.

الصفعة الأساسية كانت تحالف أو تآلف التيار الوطني الحر وحزب الله الذي أنتج ورقة تفاهم أعطت الطرفين وضوحاً في الساحة السياسية ولم تستطع قوى 14 آذار أن تجاريهم بعد. سياسات الحكومة أفقدتها مصداقيتها وقدرتها على الحصول على ثقة الناس، خاصّة بعد تهجّمها الإلغائي على التظاهرة العمالية التي أسقطت التداول بمشروع التعاقد الوظيفي.

وضع ذلك قوى 14 آذار في موقع الدفاع عن السلطة حتى لو كانت الأغلبية الشعبية غير راضية عنها، مما جعلها غير قادرة على التأثير بشكل جدي على الشارع والرأي العام.

عدم نجاح الرهان بتأليب الشارع ضد المقاومة، ناتج أيضا وبشكل أساسي على التغيرات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية في المجتمع بشكل عام. الانقسام بين 14 و 8 آذار بيّن هشاشة النظام الطائفي، وعدم قدرة مؤسسات الدولة القائمة على إدارة مصالح المجتمع، بل على إدارة الأزمة فقط. من أجل ذلك اتجه القادة السياسيون إلى الحوار، فالتوافق ليس إلا مهرباً من أزمة نظام ديمقراطي لا يمثل الأغلبية السياسية الفعلية.

بيّن الانقسام صراعاً على ماهية النظام، فكان النقاش في أسس بنية الدولة والخلاف حول احتكار الدولة للعنف والسلاح؛ وارتباط أو انفصال الدولة بالصراع الإقليمي؛ وعن هوية الدولة: قومية اللبنانية أو أكثر تشعباً؛ ومفهوم الأمن والأمن السياسي؛ ومن هو العدو ومن هو الصديق. هذا كلّه نقاش في البنية الإيديولوجية والنظمية للسلطة.

وهذا دليل على أن النظام القائم لم يعد باستطاعته الاستمرار، واستمراره هو وصفة لعدم الاستقرار، وهو إذا استمرّ سيصبح أكثر عنفاً في خطّه الاجتماعي والسياسي والاقتصادي.

ماذا فعلت الدولة؟

أثبت المجتمع أنه قادر على إدارة نفسه من دون الحاجة لسلطة وصية عليه، ورأينا فعل التضامن الشعبي، واستطاعت الهيئات المدنية والسياسية أن تساند الناس، وخاصة المليون نازح. ذلك كله والهيئات الرسمية لم تتحرك، بل عندما تدخّلت الدولة، بدأت العراقيل وبدأت المشاكل وبدأ التخوّف من الانقسام الطائفي. عدم تدخّل الدولة أبعد إمكانية حصول حرب أهلية وتدخّلها زاد من هذه الإمكانية. الدلالة هنا هي أن نسيج المجتمع وصراع الأفكار داخله ونظمه الاجتماعية القاعدية سبّاقة في بنيتها الاجتماعية والسياسية والتنظيمية عن السلطة نفسها، أي أن النظام القائم أصبح متأخراً عن واقع التوافق الاجتماعي.

هذا يثبت أن التغيير ممكن، وأن إلغاء النظام القائم لا يهدد السلم الأهلي ولا يؤجج التوتر الطائفي، بل يساعد على منعه، ويبرهن أنه ليست هناك حاجة لليأس وفقدان الأمل بقدرة المجتمع على إنتاج نظام قادر أن يخدم مصالحه، وهو ليس بحاجة للطبقة الحاكمة لإدارته.

التناقض الآخر طبقي بامتياز. لقد لاحظنا أن الناس العاديين هم من قام بفعل التضامن وليس أصحاب المال، لم تفتح القصور أبوابها أمام النازحين بل البيوت العادية والشقق في الضواحي. لم تفتح سوليدير أو الفنادق أو البنايات الفخمة لتساعد الناس، بل وضعت القضبان الحديدية واستخدمت شركات أمن لحمايتها ومنع النازحين من المأوى.

خلال الحرب أيضاً، قامت الكثير من الشركات بطرد العمال بشكل تعسفي وبدون تعويض وقامت شركات أخرى بقطع مبالغ من الأجور. الحجة كانت "أن الوضع لا يسمح". لكنْ، إذا كان على العمال المشاركة في تحمل أعباء تردّي الأوضاع الاقتصادية، لماذا لا يُسمح لهم بالمشاركة في الربح والازدهار الاقتصادي والأموال الطائلة التي يجنيها أصحاب العمل في أوقات السلم؟

أمر آخر ظهر بشكل واضح، لماذا كان هناك حوالي مليون شخص غير قادر على الحصول على الطعام، وكانت المحال والاستهلاكيات مليئة بالمؤن والطعام؟ ربما يكون هذا السؤال على مستوى بنية النظام الاقتصادي، لكنه سؤال أساسي هنا. لماذا يغيب النظام الاقتصادي من المداولة ويُسَلّم بأنه نظام عادل يهدف إلى الازدهار؟ في أوضاع كالتي مرت، يسقط القناع ونجد أن البنية الاقتصادية الموجودة ليست سوى كيان فوضوي لا يستطيع أن يلبّي حاجات الناس ولا يستطيع أن ينقذ الشعب من أزمته بل هو يساهم بزيادتها، ويساهم بشكل مباشر بالعدوان والاعتداء على الفقراء والعمال. هنا تبقى سوليدير صامدة أمام النازحين ويبقى الناس صامدون أمام الفقر.

كل ما ذكر سابقاً يبرهن أن النظام القائم هو غير عادل واستغلالي لأغلبية الشعب، هو نظام مبني لحماية أقلية من أصحاب الأموال وحلفائهم في السلطة السياسية القائمة. خلال الحرب، لم تقم الدولة بحماية الناس بل قامت بحماية نفسها من الناس وحماية أصحاب الأموال.

نذكر خطاب السنيورة الذي يترجّى فيه عدم ضرب بيروت. خلال العدوان كانت السلطة تحمي الاستثمار والأبنية ولا تسعى إلى حماية شعبها الذي يُقصف ويُقتل يومياً. النظام القائم واقتصاده الرأسمالي وسلطته السياسية غير التمثيلية وبرلمان من دون آليات محاسبة، ونظام طائفي يسعى إلى فرض تقسيم غير مقبول شعبياً، بات يتناقض بأكمله مع العدالة والمساواة الذي نطمح إليهما، يتناقض مع مصالح الناس العاديين والعمال، ولا يخدم سوى فئة صغيرة.

هل حزب الله حركة تغييرية؟

بعد الانتصار اتجه الكثيرون إلى دعم حزب الله، وقام بعض اليساريين والشيوعيين بالانضمام إليه. هذا الدعم أتى نتيجة فعل المقاومة، لكن علينا أن نرى إن كان حزب الله سيتعدى الحزب المقاوم إلى الحزب التغييري.

أدت المقاومة الإسلامية دوراً أساسياً في تنمية قاعدة الحزب الشعبية من الشيعة، وأنتجت شعبية خارج طائفته. سبب ذلك كان القدرة العسكرية على إتمام عمليات واقعية غير متوقعة من العدو وضرب الجيش الإسرائيلي بشكل مباشر ومتزايد حتى استطاع تحرير جنوب لبنان في العام 2000.

اضطر حزب الله إلى إحداث الكثير من التغيّرات داخله للتأقلم في الساحة السياسية اللبنانية، خاصة بعد اتفاق الطائف، وكان عليه إقناع الطوائف الأخرى بوجوده وإثبات نفسه سياسياً.

هذه الشعبية ودخوله الساحة السياسية اللبنانية أدت إلى ظهور الكثير من التناقضات داخل الحزب. اضطرّ إلى التنازل عن أجزاء من عقيدته الدينية، الجمهورية الإسلامية شيعية، واتّجه ليوضّح أن نشوء الدولة الإسلامية الشيعية مرتبط باقتناع أغلبية اللبنانيين بهذا الأمر. مما وضع مطلبه في إطار المطلب التاريخي وليس في العمل السياسي المباشر.

أمر ثان هو أن شعبيته التي خرجت عن إطارها الشيعي أدت به إلى تغيير خطابه السياسي ليستطيع أن يخاطب جمهوره الجديد، مما أدى به إلى إنشاء خط سياسي يبتعد شيئاً فشيئاً عن عقيدته الأساسية. هذا لا يعني أن حزب الله سيتحول إلى حزب غير طائفي أو حزب ليبرالي، لكنه يدل على نشوء صراع فكري حول الموضوع.
إمكانية أن يتطور الحزب ليصبح حزباً جامعاً على مستوى البلد بعيدة، وقد تكون مستحيلة إذ إنها تعني التخلّي عن عقيدته الشيعية. فعلياً، يمكن لهذا الأمر أن يدمّره بالكامل. كما أن جناحه العسكري يشكل أساساً في بنية الحزب وفي خطّه السياسي، وهذا الجناح يعمل ضمن إطار عقائدي وديني شيعي، ولا يستطيع أن يغير مساره بهذه السهولة. هذا إن أراد ذلك.

أمر آخر هو أن قاعدته الأساسية هي قاعدة فقيرة، معظمها من العمال والفلاحين. لكنه يضم فئة من أصحاب الأعمال والمتمولين والتجّار. لقد تطورت مؤسساته، لكن هذه المؤسسات يستفيد منها بشكل مباشر أعضاء الحزب والميسورين، ولا تستفيد منها الأغلبية الساحقة من الشيعة، مما ينمي الانقسام الطبقي وبعض الفتيشية الحزبية.

يظل حزب الله حزباً كبيراً، لكنه مهدد دائماً بالصراع الطبقي وعليه مجاراة المطالب الشعبية أو التحركات العمالية بشكل دقيق. فكلّنا نذكر ما حصل في أحداث حي السلم وموقفه آنذاك برفض التظاهرة مما أدى إلى نقمة ضده من قبل الناس، وكان عليه إعادة ترتيب وضعه السياسي بشكل جدي. وقام في الآونة الأخيرة بالاعتراف بخطئه من خلال المطالبة بالتعويض لشهداء حي السلم. الأمر الثاني كان عندما قامت تظاهرة 10 أيار العمالية والتي اضطر إلى دخولها ولو ليستفيد بتسجيل النقاط على أنداده في الحكومة أو لأن يسيطر عليها وتحييدها عن المطالبة بإسقاط الحكومة.

أين اليسار من كل هذا؟

يرى الحزب الشيوعي أن المسألة الرئيسية اليوم هي ذات تشعبين: بناء الدولة وبناء المسار المعادي للإمبريالية كخط سياسي إقليمي. في بناء الدولة، تعتمد أطروحة الحزب الشيوعي على معضلة أن لا وجود لسلطة مركزية ضمن النظام الطائفي، ولإنشاء دولة مركزية علينا التخلص من النظام الطائفي.
الإشكالية الأولى في هذا التحليل أنه ينفي وجود دولة مركزية في الوقت الحالي والإشكالية الثانية هو أنه يتكلم عن بناء دولة مركزية بدون تعريف ماهيتها. هذا يضعه في اتجاه واضح نجو إنشاء سلطة برجوازية وطنية ضمن برنامج إصلاحي ودولة رعاية.

إن زعم أن لا وجود لسلطة مركزية في ظل الطائفية يتناقض وواقع البنية الطائفية للنظام اللبناني. النظرة تلك ترى النظام الطائفي كبنية اجتماعية، ولتحرير الدولة من الطائفية السياسية علينا أولا إلغاء الطائفية من المجتمع، أي فعل الكراهية ما بين عنصر طائفي وآخر. هذا التحليل يحدد الطائفية على أنها نظام علاقات أخلاقية وسيكولوجية ولا يضعها في إطار النظام السياسي، ويرى الأخير كنتاج للبنية الاجتماعية الطائفية.

الانطلاقة صحيحة، فنشوء النظام الطائفي مرتبط بشكل أساسي بتطور رأس المال في لبنان في مناطق دون أخرى، ولدى طائفة دون أخرى. هذا ما سمح للمنطقة/الطائفة الأكثر تطوراً رأسمالياً أن تشكّل القوى الاقتصادية الجديدة التي استطاعت، بمساعدة الامبريالية حينذاك، أن تفرض النظام الرأسمالي من خلال دولة مركزية تلزم بقية المناطق بنظمها وقوانينها. هذه هي الجذور الاقتصادية للطائفية. أدّى الإنماء غير المتوازن إلى حقد طبقي ينقسم على الخطوط الطائفية، وكانت تتم تغذية الحقد الطائفي من قبل الاستعمار الفرنسي.

فالاستنتاج أن الطائفية هي بنية اجتماعية صحيح، ولكنها نتيجة لفرض النظام الطائفي بفعل الإنماء غير المتوازن وسيطرة الاستعمار الفرنسي، وليس العكس. بالإضافة إلى أن هذه الحالة تعود إلى القرن التاسع عشر، وأن الوضع الآن يختلف. النظام الطائفي تغيّر، خاصة بعد الحرب الأهلية، التي قضت على أفضلية كانت لدى بعض طوائف.

اليوم، الطبقة العاملة تمتد عابرة للطوائف وهي ليست محصورة بطائفة واحدة. تطور النظام الرأسمالي ودخول القوانين النيوليبرالية أدت إلى إنتاج ضغط واستغلال اقتصادي على كل الطبقة العاملة بغض النظر عن انتمائها الطائفي. أصبح النظام الطائفي عبئاً على جميع العمال وليس على جزء منهم.

هذا يتطلب منا أن ندرك أن الدولة المركزية هي فعلاً موجودة ولكنها غير مستقرة وهشة بفعل التناقضات التي ينتجها النظام الطائفي والتغييرات الديمغرافية وبفعل تناقضه مع المجتمع نفسه. لذا، فإن النظام الطائفي ليس آفة مجتمعية بل هو آفة بنيوية في الدولة اللبنانية.

أما في ما يتعلّق ببناء الدولة المركزية، فلا حاجة لبناء شيء موجود أصلاً، بل الحاجة هي إلى التعبئة لمناهضة قدرتها المركزية على التسلط والاستغلال، والتجييش لتحصيل المكتسبات للطبقة العاملة وليس لمساعدة البرجوازية الوطنية على إيجاد حلول لمشكلتها في إدارة الدولة البرجوازية. فمن مصلحة الطبقة العاملة القضاء على الدولة البرجوازية والتطلع إلى سلطة عمالية ديمقراطية مباشرة، فلماذا علينا أن نبني شيئاً ومن مصلحتنا التاريخية أن نحطّمه؟

في مناهضة الامبريالية، يميل الشيوعيون إلى الالتحاق يوماً بعد يوم بما يطرحه حزب الله في مواجهته للاحتلال الإسرائيلي ورؤيته للوضع في الشرق الأوسط، كما مالوا مع كمال جنبلاط سابقاً. مما يعني أنه يشكّل حركة مقاومة لنوع واحد من الإمبريالية وهي السياسية والعسكرية ويتجاهل بشكل جدّي شقّها الاقتصادي. الإمبريالية ليست قائمة بحد ذاتها بل هي نتاج النظام الرأسمالي، لذلك فإن الصراع ضد الإمبريالية يتلاصق في صراع ضد الرأسمالية، وهنا حدود حزب الله. لذلك هو حركة مقاومة وليس حركة تغيير. وارتماء الشيوعيين في أحضانه يحدهم من أن يكونوا حركة تغييرية.

اليسار الديمقراطي

أما اليسار الديمقراطي، فهو لا يرى حاجة لمقاومة الإمبريالية. بل يراها تقوم بما لم تقم به شعوب المنطقة، وهو تطوير النظم القائمة من رأسماليات الدولة إلى نظم رأسمالية معولمة. بالنسبة لهم، هذا يطوّر البنية الاجتماعية والأخلاقية للناس، باعتبار أن تطور الرأسمالية سوف يطور النظام الديمقراطي حتى يستطيع اليسار أن ينشط ضمن النشاط البرلماني للتغيير. إنها حقاً خطّة مربكة، ساقطة ودفاعية لا معنى لها وليست إلا تبريراً سخيفاً لالتصاقهم بقوى 14 آذار.

اليسار الديمقراطي أيضاً يرى أولوية لبناء الدولة ويرى في قوى 14 آذار، والحريري وجنبلاط بالتحديد، عامودين أساسيين في بناء الدولة في لبنان. هذه الدولة يجب أن يكون لها احتكار العنف والسلاح، والحق المطلق في تحديد مسار حياة الناس.

لكن الأزمة الأساسية هي في مسارهم هم. يتكلمون يومياً عن بناء الدولة ولكنهم لم يغيّروا أي من القوانين والنظم في هذه الدولة. لا النظام الطائفي ألغي، ولم يستطيعوا التخلص من رئيس الجمهورية. أصبح مفهوم الدولة هو القفز والركض وراء السفارات العربية والعالمية والشكوى. فعندما لا يستطيعون إقناع أغلبية فاعلة بآرائهم في الشارع اللبناني، يلجأون إلى التغيير من الخارج وضد شعبهم.
فقد انهالت قوى 14 آذار بالشتائم العنصرية ضد المتظاهرين في 10 أيار 2006؛ في المظاهرة العمالية المطالبة بتحسين لقمة العيش وإلغاء التعاقد الوظيفي. هذا النمط من السياسة هو في مكانة الفاشية الاجتماعية. أحزاب تترفّع على الناس وتهاجمهم على أنهم لا يفهمون أو لا يقدّرونها، وتتحول إلى العنصرية المباشرة عندما يصبح الجو العام مناهضاً لسياساتها.

هل هناك حركة جديدة في اليسار؟

هذان القطبان لا يحددان الخريطة الفعلية لليسار في لبنان، بل يتفاعلان داخل جمهور أوسع وتيارات ومجموعات متعددة. نشوء حركة يسارية أكثر جدّية شيء ممكن، وهي موجودة فعلاً.

في العام 2003، استطاع اليسار أن ينتج حركة مناهضة للحرب ضد العراق قامت بثلاثة مظاهرات نجحت في تقديم رؤية وخطاب سياسيين أثبتا صحتهما في الساحة السياسية المحلية والإقليمية. بعد سقوط بغداد، اعترف العديد أنه لا يمكن أن يكون هناك صراع ضد الإمبريالية لا يرتبط مع الصراع من أجل تغيير النظام في الداخل والتخلص من الديكتاتوريات، لأن الإمبريالية تمتد في الشرق الأوسط بفضل هذه الديكتاتوريات.

هناك أيضاً مثال الاعتصام المفتوح عام 2002. خمسة وأربعون يوماً من الاعتصام في الشارع مكّنت اليسار من إنشاء قاعدة وجمهور يتكلم معه ويخرج من عزلته. ونشأت من هذا الاعتصام صراعات فكرية وسياسية عدة ومشاريع كجريدة اليساري مثلاً التي كانت محركاً أساسياً في حركة مناهضة الحرب في عام 2003.

اليوم، هناك حركة جديدة تخرج عن إطار القطبين المذكورين، وهي استطاعت، حتى الآن، أن تثبت وجهة نظرها في الكثير من الصراعات السياسية قبل الحرب وخلال الحرب على لبنان، مما مكنّها من لعب دور ريادي في حملة صامدون، التي هي الأخيرة استطاعت أن توجد مكانة لها وأن تفرض اعتراف الكثير من المنظمات والجمعيات والأحزاب أنها حملة أساسية في عمل الإغاثة ودعم الصمود في لبنان.

التغيير ممكن اليوم وهو ضروري. إن بناء حركة تسعى فعلاً إلى تغيير قاعدي وثوري هو أساس في إنتاج مستقبل أفضل. البرلمان كان ولم يزل أضحوكة في العمل التغييري وليس إلا مكاناً للاستعراض. التغيير يبدأ من نشوء حركة من الناس تعمل من أجلهم، حركة تنظر إلى العمال والطلاب كمحرك أساسي لما هو جديد وتقدّمي في هذا المجتمع. معركتنا اليوم هي ضد الواقع السياسي والاقتصادي والاجتماعي، ومن أجل التقدم والتطور بمواجهة سياسات تدمير الذات للسلطة اللبنانية.

علينا أن نشبك ما بين مناهضة الإمبريالية ومقاومة الاحتلال وما بين نضالنا ضد الاستغلال والفقر. والاثنان يتكاملان مع صراعنا من أجل الديمقراطية والحرية في لبنان وفي العالم.

لسنا في معركة هامشية، ما يتم حبكه اليوم داخلياً وعالمياً سيقرر مصير الملايين من الناس في العالم. علينا أن نقف في وجه، وأن نكون أساسيين في إنشاء حركة مناهضة للإمبريالية والاحتلال، لا ترتكز في لبنان وحسب بل تمتد إلى سوريا وفلسطين والعراق ومصر والأردن وتركيا وكل الدول المحيطة، وأن نشبك مع الحركة العالمية المناهضة للحرب.

بناء حركة مناهضة للحرب هو أساس لإنشاء حركة أوسع، لأنها تأخذ موقفاً مباشراً من ما تطرحه القوى الإمبريالية وحلفائها من الأنظمة القائمة.

ولا نستطيع فقط أن نقف عند مناهضة الحرب. علينا أن نبني لتغيير فعلي على المستويين الاقتصادي والاجتماعي، ومن أجل تحطيم النظام الطائفي، وأن نناهض النيوليبرالية والرأسمالية، وأن نناضل من أجل حقوق العمال والناس بمواجهة سياسات الاستغلال والإفقار، التي من الواضح أنها السياسات الوحيدة التي يتبعها النظام. وهذا لا يكتمل إلا بحركة تحررية من القيود الاجتماعية، ومن أجل حقوق المرأة والطلاب وإطلاق الحريات الفردية والجنسية.

إنه صراع شامل ومفتوح من أجل عالم أفضل نعيش فيه.