نحو جبهة موحدة لليسار في لبنان


باسم شيت
2007 / 2 / 1 - 11:57     

يرى الكثيرون أن أساس الأزمة في لبنان هو الانقسام ما بين قوى السلطة وقوى المعارضة، ويتم تصنيفه تقليدياً وبشكل مبسّط بأنه انقسام طائفي وصراع على السلطة. المعضلة هنا ليست وجود الانقسام، بل لماذا يؤدّي هكذا انقسام إلى أزمة؟ يُشكّل الصراع السياسي المحرك الأساسي لأي ديمقراطية برلمانية، والصراع على السلطة يكاد يكون أكثر الأشكال رواجاً فيها. المسألة هنا لا تتعلق بخلاف أو انقسام حول كيفية إدارة البلد أو حول من يديره، بل هي أزمة النظام نفسه لعدم قدرته على إدارة الصراع السياسي وعدم قدرته على استيعاب التغيرات السياسية والاجتماعية والاقتصادية في البلد.

النظام اللبناني أو، لدقة التسمية، النظام الطائفي ليس سوى دائرة مفرغة لا تولّد سوى الأزمات، إذ يعتمد بشكل أساسي على التوافق لا على الصراع كمحرك له. هذا يتناقض مع أبسط قواعد الديمقراطية البرلمانية، الصراع على السلطة والصراع السياسي. فالنظام القائم ليس قادراً، لا من خلال قوانين الانتخابات المتتالية ولا من خلال الحوارات الهادئة منها والساخنة، أن يفرز أغلبية سياسية تستطيع أن تقود البلد. هو محكوم بإنتاج أغلبيات طائفية، أغلبيات نسبية يحتّم عليها إما التوافق وإما التأزم.
كل نظام ديمقراطي يجب أن يبنى على ظروف موضوعية، لا الوقائع الآنية غير المستقرة. فالتقسيم الطائفي والنسب الديموغرافية الطائفية تتغير بفعل الوقت وهي سريعة التغيير. في لبنان، بدل أن يؤمّن النظام السياسي للمجتمع خيارات حول كيفية إدارة نفسه، نراه يسقط خيارات وديناميات لا تتناسب والواقع الاجتماعي والسياسي والاقتصادي، فتكون فعاليته محدودة.

اليوم، نحن نعيش التناقض بين النظام الطائفي القائم والواقع الاجتماعي السياسي الحالي. كما نعيش فرصة تاريخية للتخلص من هذا النظام إلى الأبد واستبداله بنظام ديمقراطي حقيقي يتناسب مع حاجات المجتمع ومتطلبات الصراع من أجل حياة أفضل. الواقع تغيّر، وأصبح هذا النظام عائقاً أكبر أمام تطور المجتمع.

ماذا تغيّر على المستوى الاجتماعي والاقتصادي والسياسي في لبنان؟
قبل الحرب الأهلية اللبنانية الأخيرة، كان هناك ما يعرف بالمارونية السياسية. أي كانت الطائفة المارونية هي التي تحتكر القيادة السياسية للبلاد. كذلك كان هناك نظاماً اقتصادياً حمائياً مارونياً، أي نظاماً اقتصادياً هدفه حماية رعايا الطائفة المارونية، وكانت الدولة ترعاهم بشكل خاص.

هذا النمط لم ينتج صدفة، بل له مسبباته ومبرراته التاريخية والسياسية. ففي منتصف القرن التاسع عشر وحتى بدايات القرن العشرين تطورت الرأسمالية في لبنان وفي جبل لبنان بالتحديد على غرار الرأسمالية الفرنسية وكانت مهام بورصة ليون بشكل أساسي هي تمويل صناعة الحرير في جبل لبنان. أدتّ صناعة الحرير إلى تطور أنماط الإنتاج في جبل لبنان وتخلفها اقتصادياً في المناطق الأخرى كالشمال والبقاع والجنوب.

أصبح الاقتصاد الجديد يمتد بين جبل لبنان وبيروت، ووجود الموارنة كأغلبية أساسية في جبل لبنان والسنة في بيروت جعلهما، وخاصة الموارنة، سباقين في مشروع بناء الدولة المركزية. والسلطة المركزية ليست حاجة إقطاعية بل هي عامود أساسي في عملية تطور النظام الرأسمالي. فالسلطة القادرة على مركزة رأسمال هي الدولة المركزية.
كان مبرراً في السياق التاريخي أن تكون القيادة السياسية والاقتصادية الإنتاجية هي قيادة مارونية، وهذا جعل الطبقة الوسطى والطبقة البرجوازية ذات أغلبية مارونية ويأتي في المرتبة الثانية السنّة. وربما هذا يبرر بعض الشيء ما يستنتجه مهدي عامل بأن الشيعة هم الأغلبية في الطبقة العاملة.

لكن الحرب اللبنانية غيّرت هذا الواقع. دمرت الحرب الأخيرة الأسس البنيوية للنظام، حيث وضعت الميليشيات والعصابات المسلحة كقوة الأساسية في إدارة المجتمع، وقامت بتفتيت المركزية الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، مما أثر جذرياً في التنظيم الاقتصادي والاجتماعي اللبناني. ومن جهة أخرى، تلقى الاقتصاد وقطاعاته المنتجة ضربة موجعة أجبرته على إعادة تنظيم ذاته على واقع مختلف بعد الحرب اللبنانية.

لم يعد صحيحاً ما كان موجوداً قبل الحرب، فالطبقة العاملة اليوم تضم أغلبيات الطوائف جمعاء. الحرب الأهلية منحت فرصة للرأسمال المحلي بأن يتطور من ضمن الظروف البنيوية والاقتصادية نفسها، مما مكّن إعادة تركيب الطبقة العاملة بشكل أصبحت فيه عابرة للطوائف بشكل أكثر تساوياً.

اليوم أغلبية الموارنة، كما أغلبية السنة، كما أغلبية الشيعة ينتمون إلى الطبقة العاملة. وهذا صحيح بالنسبة للطوائف الأخرى. يمتثل الوضع اليوم مع التعريف الماركسي الكلاسيكي: النظام الرأسمالي ينتج نهايته بنفسه، أي انه ينتج طبقة عاملة ذات أغلبية واضحة في المجتمع، بغض النظر عن تقسيمها الطائفي، تتناقض مصالحها مع مصالح النظام نفسه والطبقة الحاكمة التي تمثله.

هذا التغيير يحتّم أن تكون الأسس التاريخية والاقتصادية للنظام الطائفي قد انتهت. لا توجد اليوم طائفة واحدة سبّاقة تاريخياً أو اقتصادياً. بل إن الانقسام الأساسي هو انقسام طبقي وسياسي. وهذا ليس ما يقوله أحد اليساريين أو الماركسيين، بل هو التحليل نفسه الذي يتبناه منظمات دولية للواقع اللبناني.

حسب "ماريان الخوري" من البنك الدولي: "إن الانقسام الطبقي هو الانقسام الأساسي في المجتمع اللبناني ولكنه مشوه بسبب الطائفية" (هوغو بانيزا وماريان الخوري، "الحراك الاجتماعي والدِّين: أدلّة من لبنان"، موقع شبكة البحوث الاجتماعية http://ssrn.com/abstract=293012).
يكمل التقرير بأن " لبنان يتسم بنسبة ضئيلة جداً من الحركية الاجتماعية (الارتقاء الاجتماعي) مقارنة بالمجتمعات ذات الموقع الأدنى في العالم كدول أمريكا اللاتينية، ويلاحظ أيضا أن الحركية الاجتماعية هي أعلى عند الطائفتين الشيعية والمارونية وهي الأقل عند المسلمين السنة (باستثناء اللاجئين الفلسطينيين) والطوائف المسيحية الأخرى. ويضيف التقرير "إن هذه الحركية ضئيلة عند السنة ويعود ذلك لتصرف الطبقة الوسطى والطبقة البرجوازية داخل هذه الطائفة".
وللإيضاح، يقول برنامج الأمم المتحدة الإنمائي UNDP في مجال وضع تخطيط استراتيجي للحماية الاجتماعية في لبنان في العام 2002 (http://mdg-guide.undp.org/files/Lebanon_SPPD-Social%20Protection_2002.doc) أن 39% من الشعب يتشاركون في 13.4% من الناتج القومي فيما 14% يسيطرون على 43% من الناتج القومي. 762 (أقل من 1%) من أصحاب الحسابات في القطاع المصرفي يسيطرون على 50.5% من المجموع العام المقدر بـ16 مليار دولار و47% يتشاركون في 2.3% من المجموع العام.

هذا يبرهن أن لبنان ليس بحاجة إلى مصادر مالية بل بحاجة إلى توزيع عادل للثروات وتوزيع للقدرات المنتجة، وإن الفروقات بين الثروات أكبر بكثير من الفروقات في المدخول، مما يعني أن الصراع الطبقي في لبنان موجود بشكل صارخ.

وفي تقرير حول الفقر في لبنان، يقول البنك الدولي أن القدرة الشرائية للعائلة النووية في لبنان في نهاية العقد الماضي هبطت بحوالي 30% مما يعني أن العائلة اللبنانية تكسب من المال ما يكفيها لتعيش الأسابيع الثلاثة الأولى من الشهر فقط.

دراسة أخرى تقول بأن 80% من الأكثر ثراءً في لبنان لا يعملون ولكنهم يعيشون على فائدة ثرواتهم المكدسة، هم أسياد النظام الطائفي ولكنهم يتنصلون من تبعاته الاجتماعية والاقتصادية.

ما هي جذور الانقسام الحالي؟
في ظل هذا، نستطيع أن نرى أن الانقسام في الشارع اللبناني يتعدى الخلاف ما بين قوى 14 آذار والمعارضة وأن الوقود الأساسي لهذا الصراع هو طبقي ولكنه مشوه بفعل النظام الطائفي وعدم قدرة الطرفين المتصارعين لوضع الصراع في مكانه من الواقع الاجتماعي الاقتصادي.
أيضاً وأيضاً، لم ينتج الانقسام الحالي بعد اصطفافاً لطوائف ضد أخرى. بل نرى انقساماً داخل كل طائفة من الطوائف على أساس سياسي أو على أساس الانتماء إما للمعارضة أو لقوى السلطة. ربما لا يكون انقساماً متوازياً في كل الطوائف، ولكن ليس هناك سبب ليكون كذلك، ونرى الخطاب الشعبوي للمعارضة يستقطب أغلبية الطائفتين المارونية والشيعية الذي هو ناتج عن النسبة المرتفعة نسبياً للحركية الاجتماعية (كما ذكرنا سابقاً) مقارنة بحركية متدنية للطائفة السنية التي تنشدّ أكثر لخطاب السلطة الذي يريد الحفاظ على الأمر الواقع.

الحركية الاجتماعية هي دلالة أساسية على المقدرة على رؤية الواقع الاقتصادي الاجتماعي كما والحذو نحو تخطي الواقع لواقع أفضل. لذا يتأثر مناصرو المعارضة بخطاب تواجهي مع الواقع، وان كان الخطاب وهمياً.

إن وقود الانقسام الحالي يأتي نتاج صراع طبقي يومي يتحول من صدام ما بين طبقات اقتصادية إلى صراع تأففي ونقمة اجتماعية واقتصادية على سياسات الحكومة. وهذا بالضبط ما تستعمله قوى المعارضة من حجج ضد قوى السلطة، فهي ترى أن التوجه الشعبي هو أقرب للواقع من التحليل السياسي التي تقدمه المعارضة نفسها فتستخدمه لاستقطاب جمهورها وتأطيره في تحركاتها. وربما أكثر ما يعبر عن هذا هو قول معتصمين من المعارضة، ولو بشكل هزلي، "الكهرباء موجودة في الاعتصام ومقطوعة في الضاحية".

لكن المعارضة تختزل المشكلة وكأنها إدارية، أي أن السلطة الحالية ليس لديها الكفاءة لقيادة الإصلاح الاقتصادي، أكثر من نقدها لنمط السياسات الاقتصادية المتتالية لحكومات التسعينيات وحتى الآن.
هذا واضح في خطاب عون لكنه أوضح عند حزب الله. مشكلته مع السلطة الحالية هي في احتكارها الحكم وعدم تشاركها. إذاً فهي بالنسبة إليه أزمة إدارية وليست نظمية أو اجتماعية اقتصادية.
أما قوى السلطة فما زالت متشبثة بخطاب تعدّاه الواقع السياسي والاجتماعي الاقتصادي الحالي. فنرى أنهم ما زالوا ينظرون في المؤامرات السورية الإيرانية في حين أن الهمّ الأساسي في الشارع هو تحصيل لقمة العيش وتحسين الواقع الاقتصادي للناس. هذا أدى إلى إفقاد قوى السلطة شعبيتها، بعد خسارتهم المعركة ضد لحود، وخسارتهم معركتهم الثانية في إلغاء الطائفية السياسية تحت ضغط البطرك صفير، ومعركة الانتخابات حين دخلوا في تحالفات ظرفية مع أنداد لهم كحزب الله.
أصبحت قوى 14 آذار، بعد عدم قدرتها على مواكبة التطورات اليومية للشارع والمجتمع، قوى خارجة عن الواقع، مما أتاح الفرصة للمعارضة لدخول الساحة ولتكون المسيّر الأول للصراع والانقسام الحالي.

ما هو أفق تحالف المعارضة وهل هي حركة تغييرية فعلية؟
علينا هنا أن نبدأ بتحالف التيار الوطني الحر وحزب الله، وربما هو الأساس لنشوء المعارضة الحالية. هذا التفاهم هو أكثر استجابة للواقع الحالي، وليس بخيار سياسي إرادوي يفرض نفسه فرضاً. وهو تحالف بين طرفين جديدين نسبياً على الساحة اللبنانية، في الشق التنظيمي والسياسي، وكلاهما أحزاب جماهيرية لها قاعدتها الضخمة ولها جمهورها، مقارنة مع قوى 14 آذار، التي هي أطراف حزبية نووية تتبع نمط التبعية المباشرة للزعيم، تفتقد للحركية والصراع السياسي في داخلها مما يجعلها في أغلب الأحيان متأخرة عن الشارع. في حين أن التيار الوطني الحر وحزب الله وإن كان لديهما بعض "الزعاماتية"، لكنهما لا يعتمدان الزعامة كأساس للخط السياسي.
إذاً، نرى نمطين من التنظيمات السياسية. الظروف المادية للصراع السياسي في لبنان أنتجت شكلين من التنظيمات السياسية، أحدهما قديم أو تقليدي، والآخر أكثر تجدداً. هذا لا يعني أن نمط حزب الله والتيار الوطني الحر هو نمط تقدمي، لكنه أكثر تقدمية من القوى السياسية المسيطرة.
تصطدم المعارضة بواقع أن الحركة الشعبية التي تنتجها هي أسرع، على الأرض، بكثير من الخطاب السياسي التي تلتزم به. نلاحظ هذا بشكل واضح، خاصة في الفترة بين الأيام الأولى للاعتصام المفتوح في وسط البلد والإضراب العام، حيث كانت أغلب أصوات جمهور المعارضة نفسها تنادي قياداتها للتحرك بسرعة لإسقاط الحكومة والتخلص من عدو الشعب "فؤاد السنيورة"، في حين تطالب قيادة المعارضة بتشكيل حكومة وحدة وطنية ومن دون أن تحدد أي خطة اقتصادية بديلة. وهي، على العكس، موافقة على سياسات الحكومة الاقتصادية. حتى في هذه الفترة، نسمع الكثير عن تململ كوادر المعارضة من قياداتها لعدم سرعتها وجديتها في المواجهة مع قوى السلطة.

ماذا بعد الإضراب العام؟
جاء الإضراب العام، وكان تصور قيادات المعارضة هو الضغط على موقع السنيورة في باريس 3 وليس إسقاط المؤتمر. لكنهم تفاجأوا بقوة الإضراب وامتداده الشامل على الأراضي اللبنانية، وتفاجأوا أيضا بالتصاعد الذي اتجه فيه الشارع في حيثيات الصراع المباشر.
يبرهن هذا مجدداً أن الشارع أكثر تقدماً في الصراع من قياداته، وهذا ما يهدد قيادة المعارضة في أن ينفلت الشارع من سيطرتهم. لذا نرى شدة التنظيم للسيطرة على الحركة الشعبية. لكن الحركة برهنت أكثر فأكثر أنها أقوى سلطة من القيادات نفسها. فما بدأ كتنفيس عام للاحتقان كاد أن يتحول إلى انتفاضة شعبية قد تنتج قدرة ذاتية على التنظيم يصعب بعدها على المعارضة السيطرة عليها.
هنا يظهر التناقض الذي تحدثنا عنه في الأعداد السابقة من المنشور حول التحالف التقدمي، بذاته، بين حزب الله والتيار الوطني الحر والقيادة السياسية لهذا التحالف المتناقضة مع الواقع الذي ينتجه هكذا تحالف أو تلاقي.

من المسؤول عن المواجهات الأخيرة؟
أثبت كل من المعارضة والسلطة عدم قدرتهما على إدارة الصراع السياسي الحالي، مما أدى إلى إفراغ الساحة من محتواها السياسي واتجاهها أكثر وأكثر إلى الصراع الفئوي.
إن بقاء الصراع السياسي في إطاره السياسي يعتمد على وجود الوسط الشعبي، أي أن يكون هناك جمهور يتأثر بخطاب سياسي ما، ليس بسبب التزامه بتنظيم حزبي بل لأنه من يطرح الأسئلة التي على الأطراف السياسية الإجابة عليها. حين تنحصر المعركة في اتهامات فئوية خارجة عن الصراع السياسي، ينحصر الصراع فيما بين الأحزاب نفسها ويهمّش الوسط، أي الأغلبية الجماهيرية القادرة على صنع أي تغيير وإيصال طرف ما إلى القيادة دون الأطراف الأخرى.
وفي هذه المرحلة يسجل تدخل ملحوظ للمؤسسات الدينية التي بدخولها، وفرض "آداب عامة" وتهديدات زجرية داخل الصراع السياسي، تضع القالب الطائفي في وسط الساحة وتدفع أكثر إلى تهميش الصراع السياسي وتحويله إلى صراع فئوي أو إطفائه ليبقى الواقع كما هو، أي لإلغاء الفرصة التغييرية الموجودة ضمن السياق التاريخي.
من يتحمل المسؤولية في الاشتباكات الأخيرة؟ وهنا لا أتحدث عن المسؤوليات التكتيكية في من حمل السلاح ومن لم يحمله، بل عن ما هي المسببات التي أدت بنا إلى هذا الحال. وهنا تتحمل المعارضة مسؤولية في عدم انتهازها الفرص المتاحة أمامها للتغيير.
ضاعت الفرصة الأولى في بداية الاعتصام المفتوح وعدم تصعيده لإسقاط الحكومة. الفرصة الضائعة الثانية كانت في عدم الاستمرار في الإضراب العام من أجل إسقاط الحكومة وإسقاط باريس 3. التأخر هنا يعني النحو عن الصراع السياسي المباشر باتجاه تقاتل فئوي. كما أدّى الشكل التنظيمي الذاتي لحزب الله في مناطقه إلى قيام أنداده وخصومه بالامتثال بالشكل نفسه لمحاربته، ومن هنا نرى تطوّر نمط الصفاء الطائفي ضمن المناطق.
لكن، تتحمل السلطة المسؤولية الأكبر في عدم انصياعها للرأي العام المنادي بإسقاطها. أي أنها، في ظل ضغط أغلبية شعبية سقطت في عدم امتثالها للديمقراطية المباشرة. فكيف لها أن تحافظ على الأمن العام أو على شرعيتها في فرض سلطتها؟ هي تتجه إلى فرض سلطتها كأقلية في المجتمع اللبناني. المسألة هنا ليست بالأرقام، بل في من صوته أعلى. وقد بدا واضحاً أن نبض المعارضين وصوتهم أعلى بأشواط من أصوات الموالين.
أيضاً، هناك النمط الميليشياوي الذي تتبعه أحزاب السلطة والذي يمتد إلى الوراء نحو الشكل التنظيمي في الحرب الأهلية. إقناع السلطة لنفسها بأنها في خضم حرب أهلية شجّع قياداتها على الامتثال بأشكال تنظيم عصاباتية وميليشياوية لمحاربة أخصام السياسة. وهذا هو الأكثر بروزاً عند جعجع والحريري وجنبلاط.
المسؤولية التاريخية تتحملها الطبقة الحاكمة ونظامها الطائفي ودعائمه من مؤسسات دينية تقوّض الصراع، من مكانته السياسية إلى مكانته الفئوية والمناطقية. فنرى مفتي الجمهورية يهدّد كل من يقترب من بيروت ويفتي بها على أنها منطقة سنية. ويطالب البطرك من جهة أخرى أن "يحب الجميع بعضهم البعض" وأن يحافظوا على "وحدة المسيحيين". وكأن التوجه لتفادي الأزمة هو الحفاظ على الطهارة الطائفية لكل طائفة.
أما المسؤولية المباشرة فيتحملها اليسار. في ظل هكذا انقسام في الطبقة الحاكمة، لم يستطع اليسار أن يتداركه لتحصيل دعم وبناء حركة تغييرية شعبية تمثل مصالح الطبقات المحرومة والطبقة العاملة بشكل خاص. خاصة وأن الخطاب في الشارع يتجه نحو وجهة صراع أكثر "طبقية"، أي يتحدد من خلال المطالب المعيشية.
المشكلة تتعدى ما فعله، أو ما لم يفعله، اليسار في الأيام الأخيرة. لقد فقد الشارع ثقته بقوى اليسار لترددها الدائم في أخذ خطوات المواجهة في المسار التاريخي، واتجاهها إلى خطوات تكتيكية يراد منها تبرئة النفس من الواقع الطائفي أكثر من أن تكون مواجهة لذلك الواقع. ربما تكون هنا الدلالة الأبرز تقصير الحزب الشيوعي في أخذ أي خطوات تصعيدية لتأجيج الصراع الطبقي. أي أن يكون الصراع الطبقي هو ذو الصوت الأعلى. وهو إن لم يكن مبلوراً بشكل ماركسي مباشر، لكنه سيعبر بشكل صريح عن استياء ونقمة عامة من واقع اقتصادي يزيد الفقراء فقراً والأغنياء غنى.
بدل أن يبدأ الحزب بالتصعيد اليومي منذ قيام 14 آذار وحتى الاعتصام المفتوح للمعارضة ومن ثم الإضراب العام فيدفع الصراع نحو صراع طبقي، التجأ أكثر إلى أخذ الموقف الأخلاقي من النظامين الطائفي والاقتصادي، فلم يرى أن هناك فرصة تاريخية للشعب لينتج مستقبلاً أفضلاً يبدأ بمواجهة النظام القائم بمستوييه البنيوي الطائفي والاقتصادي الاجتماعي.
قد يقول الحزب الشيوعي بأنه واجه هذا الأمر، ولكن الموضوع ليس المواجهة من أجل المواجهة. وليس الموضوع مواجهة الواقع بكليّته بشكل مبدأي. بل تحتّم علينا المادية التاريخية و"المفاهيم الماركسية" مواجهة الواقع من مكانه في المسار التاريخي العام.
هذا يستدعي التخلّي عن فكرة المرحلية الستالينية والاتجاه إلى نمط لينيني في التنظيم وفي بناء الحركة. أي إنتاج حركة تتجاوب مع الواقع بأسئلته السياسية المباشرة وأسئلته التاريخية الإستراتيجية: ما يجب أن نفعله اليوم وما علينا بناءه لمواجهة الغد. نقدنا للحزب الشيوعي ليس لقصد النميمة، بل لاعتقادنا أنه القوة اليسارية الأبرز التي تستطيع أن تصنع تغييراً في الساحة السياسية الحالية وأن تؤسس لحركة تغييرية إستراتيجية يبدأ تأثيرها من اليوم.

ما علينا فعله اليوم؟
على اليسار أن ينظم نفسه في إطار جبهة موحّدة، تحتمل الصراع الفكري الداخلي وتواجه في الصراع السياسي العام ولكنها تتجه نحو تحويل الصراع الحالي من شكله الفئوي والمفرغ من المحتوى السياسي إلى إنتاج صراع طبقي ينتشل جمهور المعارضة من قيادتها لتتوجه نحو صراع مباشر مع النظام القائم.
هذا لا يعني أنه علينا أن نكون في صراع مباشر ضد قيادات المعارضة، نحن سنلتقي معهم، بل مع جمهورهم في معركة لإسقاط الحكومة، وهنا علينا تخطي خطاب المعارضة نحو الهجوم المباشر على النظام والتخلص من بنيته الطائفية ومساره الاقتصادي التجويعي، والاتجاه نحو ديمقراطية فعلية وسياسات اقتصادية تحمي حقوق الناس وحقوق العمال. علينا أن نسعى إلى بناء حركة ترى أنه من مصلحة المجتمع أن ينتج إطاراً تنظيمياً ديمقراطياً يتناسب مع حاجاته، ليس مع حاجات أخلاقية تفرضها المؤسسات الدينية والطائفية.
على اليسار اليوم أن يبني نفسه بسرعة وأن ينتج شبكة للتواصل ما بينه شعبياً وتنظيمياً وأن يبدأ بالمواجهة، لا المماطلة، لأن المواجهة هي التي تبني ثقة الناس به، لا المناورات الإعلامية لتبرير موقعه.
إن الانقسام البنيوي في المجتمع اليوم هو انقسام طبقي بامتياز مشوه بالطائفية والصراعات الفئوية، وهنا يكون لليسار الدور الأبرز في تبيان هذا الصراع ودفعه ليكون الصراع الأساسي في البلد.
حدود المعارضة هي الدولة، حدود اليسار هو مصلحة الناس ومستقبل أفضل، وإن كان هذا يعني التخلص من شكل الدولة الحالي وإنتاج إطار تنظيمي أفضل، فليكن. إن التخوّف من الحرب الطائفية هو الذي يؤدي إلى الحرب، وليس مواجهة النظام الطائفي الذي يؤسس للحرب الطائفية.