مشروع تأسيس نظري لحركة القوى الاجتماعية الجديدة


هشام عمر النور
2003 / 7 / 17 - 16:58     




حركة القوى الحديثة الديمقراطية(حق)- السودان



الحاجة إلى أساس نظري جديد:



انهارت دول شرق أوروبا والاتحاد السوفيتي وانهارت تجربتهم الاشتراكية،
تداعت
الماركسية واتضح زيفها، على الأقل في صورتها الكلاسيكية. أصاب الذهول قوى
التغيير في العالم التي حملت آمال الجنس البشرى في الحرية والمساواة
والإخاء
والعدالة، آمال أقامتها على ما ظنته تفكيراً علمياً، فانتهت إلى قيامة لم
يهدأ
بعدها خاطر. وظن البعض – وإن بعض الظن إثم- إن الأمر هين ويمكن اقتصاره
على
ترميم بعض المفاهيم والحفاظ على الآخر ضمن ذات الموقف من الطبيعة والمجتمع
والفكر. وبدأت عمليات جرد ساذجة، هذا مفهوم استخدمه الحزب جيداً ولم يكن
هنالك
مشكلة أما هذا فيجب مراجعته لأن وقائع الحياة كذبته. ولم يستطيعوا هضم
فكرة أن
الأمر يتجاوز عمليات الجرد هذه إلى تصفية الحساب مع الماركسية، تصفية
شبيهة بما
قام به ماركس وإنجلز مع الفلسفة الألمانية.



لقد كان الانهيار من الضخامة بحيث أن العالم لم يعد كما كان ويستحيل أن
يعود
كما كان عليه وتجاوز التغيير حدود المجال السياسي والأيديولوجي ليشمل مجال
الحياة كلها. وتهاوت مفاهيم أساسية في الماركسية واستطاع كل من أعادت له
الهزة
بصيرته وحررته من العمى الأيديولوجي أن يرى أن الانهيار من الضخامة بحيث
يستحيل
تبريره بخلل بسيط في الجهاز المفاهيمى للماركسية يمكن تداركه وترميمه وأن
الأمر
يتعلق بكامل الجهاز المفاهيمى للماركسية وهو ما لا يمكن معالجته إلاً
بتصفية
الحساب مع الماركسية كلها، ومن خارجها لأن محاولات الترميم من داخل
الماركسية
يحولها إلى سلفية تحاول الانسجام مع التغييرات الكبيرة والجذرية التي حدثت
في
العالم وفشلت في التنبؤ بها بل كان حدوثها هزيمة كبيرة وقاتلة لها.



ونحن بحاجة إلى النظر مجدداً إلى تاريخ الجنس البشرى بحيث نستطيع أن نفهم
التغييرات التي حدثت ضمن صيرورة هذا التاريخ وفى مجراه، لا أن نفهم هذه
التغييرات كتناقض مع هذا المجرى كما تضطرنا الماركسية السلفية أن نفعل
ونحن
بحاجة إلى أن نموضع الماركسية نفسها ضمن مجرى التفكير النظري وصيرورته
باعتبار
أنها حلقة في سلسلة تطور التفكير النظري وليست التعميم النهائي له الذي
يحتاج
فقط إلى تدقيق بين كل فينة تاريخية وأخرى. بمعنى آخر إننا بحاجة إلى أساس
نظري
جديد إلى جهاز مفاهيمي جديد يستوعب الانهيار الذي تم والتغييرات التي حدثت
بحيث
تتبناه قوى التغيير في العالم لتؤسس به مشروعها هل هذا أمر ممكن؟ ونقدم
إجابة
حاسمة وقاطعة على هذا السؤال رغم أن هذا يتناقض مع طبيعة التفكير النظري:
نعم.
إجابة حاسمة وقاطعة لأنها الإجابة الوحيدة التي تبرر كتابة هذا المقال.
نعم،
إذا جعلنا مصادر تفكيرنا النظري هي: الحداثة ومشروع التنوير الذي تبنته
ونظرنا
إلى الماركسية داخل هذا السياق وإذا جعلنا من مصادرنا المستقبليات (ألفين
توفلر
ومدرسته) وبالذات معالجتها لتاريخ الجنس البشرى ولثورة الاتصال والمعلومات
والتقنية والإنتاج وكذلك جعلنا من مصادرنا نقد ما بعد الحداثة وإذا
استفدنا من
تجاوز النظرية النقدية (مدرسة فرانكفورت) لهذا النقد وإعادة بناءها لمشروع
التنوير على أسس نظرية جديدة بحيث يمكننا أن نميز بين حداثة سلفية تضع
نفسها في
تناقض مع تغييرات ما بعد الحداثة وبين حداثة جديدة تتجاوز ما بعد الحداثة.
وإذا
استفدنا أيضاً من فلسفة العلوم وتصوراتها حول العقلانية وتقدم العلم
وصيرورته.
ومن قمم الفكر الديمقراطي القائمة الآن فيما يسمى بالمجتمعية
communitarianism.
وسنتناول في هذا المقال جزءاً من هذه المصادر على أمل أن نتابع الكتابة عن
البقية في مقالات أخرى كلما أتيحت الفرصة.



الحداثة والتنوير والماركسية:

تباينت الآراء حول الحداثة والتأريخ لبدايتها وطالب الكثيرون بدراسة تاريخ
مصطلح "الحداثة" ولكن يظل الرأي الغالب مع اختلافات طفيفة هنا وهناك، أن
الحداثة تميز انتقال الحضارة الإنسانية من مجتمعاتها الزراعية إلى
مجتمعاتها
الصناعية ويمكن أن نحدد عصر كبداية للحداثة مرتبطة بظهور المدينة متخذين
من
الشارع العريض المضاء رمزاً لها، كما فعل بودلير. لقد جاءت الحداثة في
أعقاب
العصر الوسيط الذي كانت تشكل فيه الكنيسة موقفاً دوغمائياً اطلاقياً يتأسس
على
الدين وينبني على ثنائية ناجزة (مانوية) تجعل الظلام في جانب والنور في
جانب
آخر، الشر والخير، الباطل والحق، الكفر والإيمان، ...الخ موقف يجعل
الحقيقة
والصواب دائماً في جانبه بينما الكذب والخطأ دائماً في الجانب الآخر
المختلف
أياً كانت درجة اختلافه، فلم يكن غريباً أن تشكل الحداثة موقفاً اطلاقياً
دوغمائياً مضاداً يتأسس على العلم وينبني على ثنائية ناجزة مغايرة تجعل
العقل
في جانب والحواس في جانب آخر أو العقل والحدس، التجريبي والمتعالي، الكلى
والعيني، ...الخ وهو أيضاً موقف يجعل الحقيقة في جانب والكذب في الجانب
الآخر.
وارتبطت الحداثة بصعود العلم وهيمنته على التفكير النظري وبانفصال اللاهوت
عن
الفلسفة وبشكل عام ارتبطت الحداثة بالتحدي الذي شكلته الحياة الحديثة في
وجه
الاعتقاد الديني. ودافعت الحداثة عن القيم الكلية كما مثلتها قيم عصر
التنوير،
قيم العقلانية والتجريبية والاعتقاد في العلم ومنهجه وتحرير الإنسانية
بالعلم
التطبيقي والفردية والشك في مذاهب الكنيسة والاعتقاد في التربية والتعليم
باعتبارهما عاملين أساسيين في التغيير الاجتماعي والتمثيل السياسي، قيم
الديمقراطية وتوسيع حكمها وحقوق الإنسان الأساسية. وكان النصف الثاني من
القرن
الثامن العشر ذروة عصر التنوير وجاءت الثورة الفرنسية كأعلى تعبير عن هذا
العصر
وشكلت شعاراتها الأساسية "الحرية، المساواة، الإخاء" القيم الجوهرية
للحياة
الحديثة وانبنى حولها النشاط السياسي والنظري.



وانبنى موقف عقلاني على أساس من العلم والتجربة والعقلانية انتهى بهيمنة
الحتمية على مجال الفكر العلمي وآلت القضية البسيطة القائلة بأن لكل أثر
سبب
إلى أن الطبيعة يمكن قراءتها بالكامل قراءة رياضية تحكمها قوانين نيوتن
الفيزيائية الآلية. وبتطبيقنا لهذه النتائج على مجال السلوك الإنساني نحصل
على
حتمية قاطعة يمكننا فيها أن نتعرف على خيارات أي إنسان إذا تعرفنا على
العوامل
المؤثرة على حياته والشروط التي عاش فيها. وهذا كان يعنى افتقار الإنسان
للحرية
فالإنسان لا يختار وفقاً لإرادته وإنما يختار لعوامل بيولوجية وكيميائية
وفيزيائية واجتماعية...الخ ولذلك يمكننا التنبؤ باختياراته أو قراءتها كما
نقرأ
الطبيعة.



وهكذا يمكننا النظر إلى الماركسية باعتبارها امتدادا لمشروع التنوير
وعقلانيته
وحتميته فالقيم الجوهرية للحياة الحديثة كما عبر عنها عصر التنوير في
الثورة
الفرنسية، قيم "الحرية، المساواة، الإخاء" حولتها الماركسية إلى نتائج
لتطور
المجتمعات طبقاً لقوانين موضوعية تعمل وفقاً لمنطق الحتمية التاريخية
وانسجاماً
مع المنهج العلمي لعصر التنوير اكتسبت الماركسية طابعها العلمي بأن جعلت
قوانينها الموضوعية تعمل في مجال النشاط المادي للإنسان (النشاط الاقتصادي
الذي
يحدد النشاط الاجتماعي والسياسي) دون أفكاره ومعرفته، مما جعل الأخيرة
دائماُ
ملحقة بالأولى ومحددة بها. وبالتالي فإن المعرفة بهذه القوانين تكفل
السيطرة
على التطور الموضوعي للمجتمع بما في ذلك الأفكار والمعرفة. أما المشروع
الديمقراطي لعصر التنوير فقد تم إلحاقه بالقوانين الموضوعية اكتسب بذلك
أهمية
ثانوية بديلاً للأهمية الأولية التي كانت له في بدايات عصر الحداثة كما
عبرت
عنها الثورة الفرنسية. وتماماً كما عصر التنوير انبنت الماركسية على
دوغمائية
تميزت بثنائيات مطلقة: البرجوازية والطبقة العاملة، الرأسمالية والشيوعية،
الديالكتيكى والميتافيزيقى، المثالية والمادية، علاقات الإنتاج والقوى
المنتجة...الخ، والأهم من كل ذلك تلك الثنائية التي تجعل الماركسية
التفكير
العلمي الوحيد في مقابل كل الأفكار الأخرى التي هي الفكر البرجوازي. إنها
ذات
الثنائية التي تجعل الحقيقة في جانب والكذب في الجانب الآخر، الخير والشر،
الحق
والباطل.



نقد الحداثة (ما بعد الحداثة):

ابتداءً من هذه الثنائية التي ميزت الحداثة كلها بدأ نقد ما بعد الحداثة،
ويعود
الفضل في الكشف عن الثنائية التي تعرضنا لها فيما سبق للنقد الذي مارسته
ما بعد
الحداثة. لقد كشف هذا النقد عن أن الثنائية تتخلل نسيج التدين في أوروبا
والتقاليد الفلسفية للميتافيزيقيا والابستمولوجيا. وهى ثنائية يتم التعبير
عنها
بطرق عدة: الأنا ضد الآخر، العقل ضد الشعر، العقل ضد الحدس، إمكان الحقيقة
ضد
السيلان النسبي والابستمولوجى...الخ. لقد انتقلت ما بعد الحداثة إلى تفكير
لا
ثنائى ولكن العلاقة بين تصوراتهم عن الحداثة وما بعدها تبدو – ويا
للغرابة-
أيضاً ثنائية. ففي مقابل الحقيقة المطلقة في الحداثة اعتبرت ما بعد
الحداثة
الحقيقة نسبية فإذا كانت الحقيقة المطلقة تدعى الوصول إلى المعرفة الكاملة
فإن
النسبية لا تصل إلى أية معرفة فهي تقول بصحة أية حقيقة أو حكم أو قول. وفى
مقابل الأنا أو الذات طرحت ما بعد الحداثة نقداً للأنا وقدمت مفهوم الذات
غير
المتمركزة decentered self.



إن الجدل بين الحداثة وما بين الحداثة يهدف إلى توسيع الديمقراطية والحرية
الفردية بنقد كوابحهما في كل من التيارين. ولذلك فإن تيار ما بعد الحداثة
يعطينا الكثير ولكن انحيازه إلى النسبية الأخلاقية والمعرفية الذي يُضعف
متعمداً العقلانية الكلية للحداثة يُضعف في ذات الوقت التماسك النظري لما
بعد
الحداثة كما يُضعف القيم السياسية لعصر التنوير والحداثة، قيم الديمقراطية
والمساواة والتحرر التي تتبناها ما بعد الحداثة ذاتها. لأنه إذا كانت
الحقيقة
نسبية كما تدعى ما بعد الحداثة فهذا يعنى أن المشروع الديمقراطي لعصر
التنوير
هو مجرد أكذوبة كبيرة. (ولكن ألا يعنى هذا أن ما بعد الحداثة تقع فريسة
تناقضاتها الخاصة؟).



إن رفض ما بعد الحداثة لعقل الحداثة والتنوير يُضعف أي احتمال للأخلاق
والعدالة
لأنه يرد الفرد والاعتقادات والعلاقات الاجتماعية إلى محض عمليات السلطة،
وكذلك
اختفاء الأنا والقول بالذات غير المتمركزة يؤدى إلى ذات النتيجة بأن يكون
المحدد الأساسي للعلاقات هو محض عمليات السلطة. ويمثل فوكو هنا رمزاً
أساسياً.
فقد رد فوكو كل مفاهيم الحداثة : العقل، الأخلاق، العدالة... الخ إلى
التعبير
عن هيمنة إرادة النظام will to discipline وكان يمكن أن يتحاشى ذلك لو أنه
ميز
– كما فعل كانط – بين نظام الهيمنة discipline of domination ونظام
المقاومة
discipline of resistance ولو فعل ذلك لما رأى في مفاهيم الحداثة الهيمنة
والسلطة والقسر بل كان سيرى فيها التحرر والمقاومة. إن الرفض الرومانسي
لعقلانية الحداثة يفتح الطريق للفاشية ما دام يفتحها بالأساس للقوة.



ولكن مع ذلك يظل نقد ما بعد الحداثة لدوغمائية الحداثة القائمة على
الثنائية
نقداً جائزاً. وعلى حد تعبير ليوتار فإن الحداثة قد تأسست على حكايات كبرى
ونظن
أن كبرى هذه الحكايات كانت الماركسية. وما وقعت فيه ما بعد الحداثة هي
أنها قد
ألغت الحكايات تماماً وبذلك وقعت في شراك ما قامت لتجاوزه وأنشأت ثنائية
في
علاقتها بالحداثة.



أزمة المنطق الثنائي "الدوغمائية":

إن المنطق الثنائي والتفكير القائم عليه ينتهي إلى عدد من الافتراضات
العامة،
مثلاً، نحن مجبرين تجاه قضية ما أن نحكم إما بصوابها أو خطأها. وتكون
القضية
نفسها إما موضوعية أو ذاتية. وهى كذلك إما أن تكون مطلقة وكلية أي
دوغمائية أو
نسبية تنتسب إلى فرد ما وسياقه الثقافي. التفكير الثنائي يمكن أن يكون
صحيحاً
في بعض الحالات كقولنا إن المصباح إما أن يكون مضاءً أو منطفئاً. ولكن في
أغلب
الأحيان فإن هذه الثنائيات ليست صحيحة فهي لا تعطينا كل الاحتمالات
الممكنة.



وينبني موقف التفكير الثنائي من الحقيقة على نظرية التطابق the
correspondence
theory of truth فالقضية تكون حقيقية وصحيحة عندما تنطبق تماماً مع
موضوعها في
الواقع وتكون كاذبة وخاطئة عندما لا تنطبق مع موضوعها في الواقع. فالتطابق
يكون
بين موضوع (واقع خارجي) وصورة (وصف أو تمثيل). وإذا كان لدينا عدد من
الحقائق
متعلقة بذات الموضوع فإن واحد فقط من هذه الحقائق يكون صحيحاً لأن واحداً
منها
فقط ينطبق على الموضوع الخارجي. وبالتالي فإن التفكير الثنائي لا يقبل
تعدد
الحقائق فالادعاءات المختلفة حول موضوع واحد لا بد أن تكون خاطئة ما عدا
واحداً
منها. وهذا يعنى أن هذا التفكير إطلاقي (دوغمائى) يعبر عن المطلق وبالنسبة
له
فإن الحقيقة واحدة بالنسبة لموضوع محدد وإذا عرفناها فإننا نكون على يقين
من
خطأ وكذب بقية الحقائق.



الحقيقة بالنسبة لهذا التفكير إما أن تكون مطلقة وكلية وواحدة وغير متغيرة
كالقيم الأخلاقية والسياسية التي تكون صالحة لكل الناس في كل الأوقات وفى
كل
الظروف والأمكنة أو تكون ليست هناك قيم كلية مطلقاً بحيث تكون اختيارات
الفرد
الأخلاقية والسياسية قائمة على المزاج الشخصي أو نماذج مفروضة اجتماعياً.
وهذا
يعنى أن الشخص إما أن ينسجم مع الحقائق الكلية والمطلقة (بما فيها القيم
السياسية والأخلاقية) الصالحة كل زمان ومكان أو يكون دائماً على خطأ
وينتهي
الأمر بالمعرفة إما أن تكون موضوعية أو تكون ذاتية.



المعرفة الموضوعية معرفة كلية وضرورية لأن الطبيعة والواقع الخارجي تفرضها
علينا وهى أيضاً مطلقة بمعنى أنها صالحة لكل الكائنات العاقلة ولكل زمان
ومكان
بغض النظر عن الثقافة والسياق. والنموذج الأعلى لهذه المعرفة هو الرياضيات
والعلوم الطبيعية وهى معرفة لدينا اعتقاد جازم بأنه يمكننا التحقق منها
تجريبياً وبالتالي فهي قابلة للإثبات ويقينية. وهى معرفة لها معايير واحدة
للتأكد من صحتها الكلية ولذلك فإن القضايا المتعددة الاختلاف حول الذات
الموضوع
هي بالضرورة قضايا خاطئة.



أما المعرفة الذاتية فهي معرفة فردية واعتباطية وليست مفروضة من الخارج.
وهى
معرفة نسبية تنسب إلى الأفراد والثقافات المختلفة وتكون صحيحة بالنسبة
للفرد
الذي يعتقد فيها أو بالنسبة لمجموعة من الأفراد الذين ينتمون إلى سياق
ثقافي
واحد. هذه المعرفة ولأنها تفتقر إلى المعايير الموضوعية فإن معيارها هو
الذوق
ولذلك فإن أحكامها هي أحكام ذوق جمالي وهى ذاتية بهذا المعنى (وطبعاً هذه
فكرة
خاطئة فالأحكام الجمالية ليست ذاتية) وهى أحكام ليست لها أسباب وعلل لأن
لكل
شخص ذوقه. والمعرفة الذاتية معرفة نسبية تقبل أية أحكام فليست لها معايير
أو
خصائص تميز الصادق من الكاذب أو الصحيح من الخاطئ.



هذه الثنائية بين الموضوعي والذاتي تعود إلى القرن السابع عشر، إلى مادية
نيوتن
التي تقرر أن العالم المادي هو العالم الحقيقي وهو عالم نعرفه عن طريق
الحواس
وبمناهج العلوم الطبيعية، وهو مفهوم ما زال سائداً في الوضعية Positivism.



هذه هي أزمة المنطق والتفكير الثنائي التي أوقعت الحداثة وما بعدها في أسر
الدوغمائية وطبعت الحياة الإنسانية المعاصرة وممارستها السياسية
والأخلاقية
والمعرفية بالإقصاء المتبادل وبالنفي والنفي المضاد. ولمواجهة هذه الأزمة
تم
تأسيس موقف جديد يسمح بإعادة بناء الحداثة وعقلانية التنوير وديمقراطيته
وعدالته ويشكل أساساً نظرياً لهذا المشروع. هذا الموقف النظري الجديد تمت
تسميته بالتعددية العقلانية النقدية. وهو موقف يفترض أن الاستخدام الحذر
للعقل
دائماً ما يتجاوز الدوغمائية والنسبية معاً مكتشفاً ما يمكن تسميته بشبه
الكلى
quasi-universal أو المطلق النسبي من القيم التي يمكن أن نطبقها ونؤولها
ونفهمها بطرق متعددة طبقاً للسياق الفردي والثقافي.



التعددية العقلانية النقدية:

تتبنى التعددية العقلانية النقدية النظرية التخطيطية في الحقيقة
figurative
theory of truth وهى ترى أن الحقيقة تتكون في القدرة التي يمتلكها تخطيط
ما
ليمنحنا على الأقل تمثيل جزئي لموضوع ما بحيث نستطيع استناداً عليه
التعامل
بنجاح مع العالم الخارجي. وهذا يعنى أن الحقائق المتعددة والمختلفة
والجزئية
يمكن أن تكون كلها صحيحة في ذات الوقت بالنسبة لذات الموضوع، بل إن هذه
الحقائق
تكون مكملة لبعضها البعض وتعطينا صورة أكثر كمالاً عن الموضوع بحيث أن كل
منها
يمثل معلومات لا توجد في الأخرى. إن التعددية العقلانية النقدية هي تفكير
تعددي
وليس نسبى لأن بعض الحقائق ما زال يمكن أن يكون خاطئاً وكاذباً وهى كذلك
لا
تستبعد احتمال أن تنطبق حقيقة ما انطباقاً تاماً مع موضوعها.



والحقيقة في التعددية العقلانية النقدية هي نتيجة لتلاقى عدد من العناصر:
الذاتية (وجهات النظر والاعتقادات والإطارات المعرفية التي تستقبل تجاربنا
الحسية الخارجية) وكذلك الموضوعية (موضوعات الحس الخارجي ...الخ) وهى شبه
كلية
ولا تنكر أن هنالك بعض الحقائق الضرورية ليس فقط لأنها مفروضة علينا من
الوقائع
الخارجية بل لأنها أيضاً مفروضة علينا بوقائع داخلية ولكن معظم الحقائق هي
شبه
كلية بمعنى أنها عبارة عن بنيات معرفية مشتركة (مثل إطار المكان والزمان)
والنظريات العلمية الآن تضع في اعتبارها موقف المراقب في صياغة ادعاءاتها
(النظرية النسبية، وميكانيكا الكوانتم) أما في الفلسفة فيمكن أن نصل إلى
معايير
شبه كلية عن طريق الحوار والاهتمام البالغ بالأدلة والحجج ...الخ. أما في
المعتقدات الدينية فإن الأدلة والعلل ذات طابع نسبى وفردي وعلى النقيض من
أي
ادعاءات لأصولية القرن التاسع عشر أو القرن العشرين حول الأيمان الديني
فإن في
التاريخ الديني ما يقر بالشك باعتباره مفهوماً مركزياً للأيمان الديني
ويقر
التاريخ الديني أيضاً بالتعدد، أي الاعتراف بوجود أكثر من وجهة نظر واحدة
عن
الحقائق الهامة، وأن فهم الحقيقة يتم بصورة أفضل بالبحث في وجهات النظر
المتعددة عن الحقيقة أكثر من الإصرار على وجهة نظر واحدة يتم التأكيد على
يقينيتها وصحتها المطلقة. هذه التعددية ثابتة في التاريخ الإسلامي
والمسيحي
واليهودي وفى كل الأديان وفى كل مرة تتم محاولة لنفيها تنزل بالناس
النكبات
والمحن.



إن التعددية العقلانية النقدية تعنى أن هنالك حقائق متعددة ومختلفة وكلها
يمكن
أن تكون صحيحة عن ذات الموضوع، تأويلات مختلفة وتطبيقات مختلفة وفهم مختلف
للمجموعة شبه الكلية للحقائق والقيم. ولكن هذا لا يعنى أنها تتبنى موقفاً
نسبياً، أي أنها لا تدعى أن كل ما يقال صحيحاً أو أن كل الادعاءات
المختلفة حول
قضية ما هي كلها ادعاءات صحيحة. فالموقف التعددى العقلاني النقدي يقول
بصحة بعض
الحقائق وليس كلها، بينما النسبية هي التي تقول بصحة أية حقيقة أو حكم أو
قول
ولذلك فهي لا تصل إلى أية معرفة. أما المعرفة الموضوعية فهي تدعى الوصول
إلى
المعرفة الكاملة (أو على الأقل إن هذا الوصول – منطقياً- أمراً ممكناً
بحسب
تعريف المعرفة الموضوعية). التعددية العقلانية النقدية تمكننا من رفض
الأخطاء
وفى ذات الوقت الاختبار والتمييز بين الحجج الجيدة والحجج السيئة مما
يجعلنا
نحقق أحكاماً إجماعية مفتوحة لمزيد من المراجعة والفهم الجديد في ضوء دليل
جديد
أو سياق جديد.



ألا نستطيع القول، الآن، أن التعددية العقلانية النقدية هي أول تأسيس نظري
للديمقراطية؟ مع التعددية العقلانية النقدية لم تعد الديمقراطية مجرد
التزام
أخلاقي وإنما هي موقف نظري عميق. وإذا قرأنا هذا التأسيس النظري
للديمقراطية مع
انهيار دول شرق أوروبا والاتحاد السوفيتي مع التحولات الديمقراطية في
العالم
وصعود قضايا حقوق الإنسان الأساسية إلى قمة أولويات المجتمع الدولي فإننا
نستطيع الاستنتاج أن التناقض السياسي هو التناقض المسيطر على التطور البنى
الاجتماعية وأن المعرفة هي التي تحدد هذه البنى بكل مستوياتها بما في ذلك
المستوى السياسي والاقتصادي (صحيح أن التناقض الاقتصادي يحدد البنية
الاجتماعية
من جهة قواها وطبقاتها الاجتماعية ولكن الذي لم يعد فيه شك أن التناقض
الاقتصادي يتحدد كلياً بالمعرفة). واستناداً على ذلك نستطيع القول أن
الديمقراطية أصبحت العامل الحاسم في تطور المجتمعات وبفضلها تتطور المعارف
مما
يعنى تطور الاقتصاد والسياسة وبالتالي المزيد من الديمقراطية يؤدى إلى
تعميق
تطور المعرفة وهكذا. وهذا ما يفسر لنا انتصار الرأسمالية في مباراتها مع
الاشتراكية (بالإضافة إلى جملة عوامل أخرى ليس هنا مجال تناولها). ولذلك
فإن
قوى التغيير في العالم الآن مدعوة لتبنى موقف نظري يسمح بتأسيس أهم عوامل
تطور
البناء الاجتماعي ألا وهو الديمقراطية ومن ثم إعادة بناء كل مفاهيم
الحداثة:
العقلانية، الأخلاق، العدالة ...الخ على ضوء هذا الموقف النظري. هذا
الموقف
النظري نعتقد أنه: التعددية العقلانية النقدية والقوى التي تتبنى هذا
الموقف هي
قوى اليسار الجديد.



الحداثة السلفية والحداثة الجديدة:

إن عقلانية الحداثة السلفية بتصوراتها الدوغمائية أدت إلى هيمنة العقل
الأداتى
instrumental reason في المجتمعات الصناعية وهو عقل يتعامل فقط مع العلاقة
بين
الوسائل والغايات ويترك الغايات ذاتها خارج إطار اهتمامه كما حصر اهتمام
الفلسفة في العلاقة بين الذات والموضوع ولوقت طويل كان هذا هو العقل
الوحيد
الممكن للكثير من الفلاسفة. ولذلك فإن عقلانية الحداثة السلفية جعلت
نموذجها
الأعلى في المعرفة هو العلوم الطبيعية والرياضيات. وفى اعتقادي أن هذا هو
السبب
الذي جعل الماركسية تجعل من التناقض الاقتصادي الأساسي المحدد للبناء
الاجتماعي
إذ أن ذلك يتيح لها فهماً للمجتمع يقترب كثيراً من نموذج العلاقة بين
الذات
والموضوع وبالتالي يتيح قراءة تتشبه بقراءة العلوم الطبيعية بحيث تتحرر من
إرادة الناس وخياراتهم وتكون بذلك معرفة موضوعية، أي علمية.



إن عقلانية الحداثة الجديدة – كما هي عند هابرماس- تميز بين شكلين من
الفعل
يقوم عليهما البناء الاجتماعي: العمل (الفعل الأداتى) instrumental action
والتفاعل الاجتماعي (الفعل الاتصالى) communicative action ، الأول يؤسس
العقل
الأداتى الذي يشتغل في البحث التجريبي- التحليلي ويهدف إلى التنبؤ
والسيطرة على
العمليات الموضوعية والطبيعية بينما الثاني يؤسس للعقل الاتصالى الذي
يشتغل في
البحث التأويلى والنقدي ويهدف إلى فهم الآخرين والكشف عن الإكراه والقسر
اللاشعوري الذي ينشأ من فعل الاتصال وهو ما لا يمكن رده كما هو واضح إلى
البحث
التجريبي- التحليلي.



إن هنالك ضرورة للتمييز كما هو واضح بين مناهج العلوم الطبيعية ومناهج
العلوم
الإنسانية وهو ما صار أمراً بديهياً بعد التطور الهائل في العلوم الطبيعية
الذي
أدى إلى إنتاج مناهج مختلفة حتى بين فروع العلم الواحد من العلوم الطبيعية
فما
بالك بالعلوم الإنسانية. غياب هذا التمييز هو الذي أدى بالماركسية إلى
سلفيتها
وحضوره هو الذي يجعلنا نقترح التعددية العقلانية النقدية كأساس نظري جديد
لقوى
التغيير في العالم بما فيها السودان، وهو أساس يسمح بالتعدد في المواقف
النظرية
حتى بين قوى اليسار الجديد نفسها.