مقدمة كتاب -المشاركة السياسية في الانتخابات البرلمانية-.. مصر 2005


سامر سليمان
2007 / 1 / 19 - 11:25     

مقدمة الكتاب
منذ مجيء نظام 23 يوليو إلى الحكم كفت الانتخابات البرلمانية في مصر عن أن تكون آلية لتغيير الحكومات. في العهد الملكي كان عمود النظام – المؤسسة الملكية – محمياً من التصويت، سواء بحكم الدستور أو بحكم الدبابات البريطانية التي كانت ترابط على أطراف القاهرة. ولكن الانتخابات كانت تأتي بحكومات على غير هوى الملك. بالطبع كان يحاول إعاقتها بالتزوير أو بالحصار أو بالإقالة، لكن يظل أنه كان في مصر حكومات تأتي إلى السلطة رغم أنف الملك. وهذا ما لم تعرفه مصر في عهد نظام يوليو، التي جاءت كل حكوماته باختيار رئيس الجمهورية، المعادل الموضوعي للملك في العهد السابق. وذلك يرجع لسببين. أولاً: نظام دستوري وقانوني يعطي لرئيس الجمهورية صلاحيات هائلة في مواجهة البرلمان، من أهمها اختيار رئيس مجلس الوزراء والوزراء، مع منح مجلس الشعب الحق فقط في انتقادهم. ثانيا:ً آليات قانونية وغير قانونية تعطي لرئيس الجمهورية القدرة على التحكم في اختيار معظم الشاغلين لمقاعد مجلس الشعب مع ترك هامش محدود للمعارضة. من ضمن آليات السيطرة على عملية اختيار من يشغل المقاعد تبرز عمليات شطب المرشحين، التزوير، واستخدام العنف، والبلطجة والحث على عدم المشاركة برفع تكلفة المشاركة نفسها. في أول انتخابات أجريت في عهد يوليو، سنة 1957, لجأ النظام إلى شطب المرشحين لدرجة أنه اضطر لفتح باب الترشح من جديد في بعض الدوائر لأن القائمين على الشطب كانوا قد أجهزوا على كل من ترشح.
من 1957 إلى 2006 جرت مياه كثيرة في نهر السياسة المصرية جعلت من استقرار نظام الحكم وسيطرة الرئيس على البرلمان تتم بدون شطب مرشحين. لقد تغيرت آليات الحد من المشاركة الانتخابية من الخمسينات وحتى الآن، ولكن ظلت هذه المشاركة هاجساً أساسياً بالنسبة للنظام، يستدعيها لوقت قصير، ثم يغلق الباب عليها عندما يجد نتائجها غير مواتية له. لقد استدعى النظام الناس للمشاركة في انتخابات 2005، و تسامح مع المشاركة السياسية في الجولة الأولى، ولكن التسامح قل في الجولة الثانية، حتى تحول في المرحلة الثالثة إلى ارتكاب أعمال عنف ضد المواطنين، من قبل الأمن أو من قبل عصابات عملت بتواطؤ مع الأمن، لا لشيء إلا لمنعهم من المشاركة الانتخابية. مشاهد العنف هذه التي رآها الناس في الصحف أو في الفضائيات لم تكن إلا اللمسة الأخيرة في إستراتيجية هادفة إلى الحد من مشاركة قطاعات من المواطنين في الانتخابات.
في هذه الدراسة سنتعرض لقضية المشاركة في انتخابات مجلس شعب 2005، مع وضعها في سياقها السياسي والمجتمعي العام. فهي تعالج مجموعة من الإشكاليات والقضايا المهمة التي تؤثر على قضية المشاركة السياسية في هذه المرحلة. ولكننا سنبدأ أولاً بتبرير الاهتمام بالمشاركة في انتخابات البرلمان وإجراء دراسة عنها بالرغم من هامشية هذه المؤسسة في النظام السياسي المصري.

لماذا انتخابات 2005؟
باستثناء دول قليلة في العالم – مثل المملكة العربية السعودية في منطقتنا – تكاد كل النظم السياسية المعاصرة تعتمد على آلية الانتخابات في حكم بلادها. لا يهم هنا الطبيعة السياسية للنظام: ديمقراطي أم استبدادي، فالكل يعتمد على الانتخابات. في النظم الديمقراطية تكون الانتخابات هي الآلية التي من خلالها يختار الناس الحكام ويقررون السياسات العامة. صحيح أن هناك مؤسسات فاعلة في النظام السياسي تظل خارج التصويت، مثل المؤسسة الملكية في بريطانيا، لكن تظل هناك مساحة كبيرة يقرر فيها الناخبون التوجهات العامة للدولة. يختلف الأمر في النظم الاستبدادية وشبه الاستبدادية. فالانتخابات هنا لا تقوم بهذا الدور. فهي لا تقرر من يحتل مقعد السلطة. لماذا إذن تلجأ النظم الاستبدادية إلى تبني آلية الانتخابات كشكل ولو صوري للحكم؟ يمكن تفسير ذلك بعدة أسباب: أولاً: تحاول النظم الاستبدادية إضفاء مسحة ديمقراطية لتجميل صورتها في الخارج كما في الداخل. ثانياً: تلعب الانتخابات في هذه النظم دوراً أساسياً في تجديد النخبة وتدويرها. فعبر الانتخابات يمكن للنظام الحاكم تجنيد عناصر سياسية جديدة وتدريبها في معترك فعلي، كما أنه عبر الانتخابات يمكنه التخلص من عناصر انتهت صلاحيتها. ثالثاً: يلعب البرلمان دوراً هاماً بالنظم الاستبدادية في احتواء المعارضة، بإدماجها في النظام السياسي الرسمي، كما يلعب دوراً في خلق مساحة "حرة" نسبياً من النقد الحاد للحكومة مما يساعد على تنفيس حالة السخط ومن ثم استقرار النظام الحاكم.
لا تأتي الانتخابات في النظم السلطوية بمفاجآت كبيرة. فهناك مساحة مقررة سلفاً لا يمكن اللعب فيها. فانتخابات مجلس الشعب المصري - على سبيل المثال - يمكن الرهان فيها على كل شيء وأي شيء إلا أغلبية ثلثي مقاعد المجلس. فالكل يدخل الانتخابات المصرية انطلاقاً من هذه البديهية. الكل خارج السلطة يتناحر على أقل من ثلث مقاعد المجلس، ويظل ثلثا المقاعد محسوماً من البداية لحزب الرئيس، وذلك لسبب بسيط وهو أن مجلس الشعب يقرر شخص رئيس الجمهورية، سواء بالنظام القديم (الاستفتاء) أو بالنظام الجديد (الانتخاب المباشر). مجلس الشعب هو الذي يقرر – بأغلبية ثلثيه – صياغة النصوص الدستورية بشكل عام والنصوص الدستورية التي يختار على أساسها رئيس الجمهورية بشكل خاص. لذلك تظل أغلبية ثلثي مقاعد البرلمان المصري خطاً أحمر لا يمكن أن يتنازل عنه النظام الحاكم.
تكمن أهمية البرلمان المصري إذن في حقيقة أن الدستور يعطيه سلطة إقرار الدستور والتعديلات الدستورية، كما سلطة إقرار القوانين. وعندما نقول هنا "إقرار" فالمقصود أن مجلس الشعب يلعب دور المُصدق على القوانين والسياسات، مع الاحتفاظ بحقه في إدخال بعض التعديلات الطفيفة عليها. ولكنه لا يبادر بطرح قوانين وسياسات، كما لا يستطيع فرضها على السلطة التنفيذية. وإذا أخذنا تعديل المادة 76 الذي تم في مارس 2005 كمثال، سنرى أن الرئيس مبارك هنا قرر تعديل هذه المادة، ثم قام مستشاروه بصياغتها، ثم أرسلها إلى مجلس الشعب لإقرارها. والواقع أن الخطاب السياسي الرسمي في مصر لا يخفي حقيقة أن "السلطة" التشريعية خاضعة للسلطة التنفيذية. ففي بداية كل دورة برلمانية يذهب رئيس الجمهورية لمجلس الشعب ويلقي خطاباً يحدد فيه الخطوط العامة لسياسات الحكم, ويكلف مجلس الشعب بالعمل فيها. بل يصل الأمر في بعض الأحيان إلى درجة أن يطالب الرئيس مجلس الشعب بالعمل بهمة ونشاط في إنجاز التعديلات القانونية التي تتقدم بها الحكومة. وبناءً على هذه الحقيقة يمكن القول إن البرلمان المصري له دور محدود جداً في صنع السياسات وفي تحديد الاتجاهات الإستراتيجية لنظام الحكم، ناهيك عن مراقبة السلطة التنفيذية والحد من تجاوزاتها. وإذا كان البرلمان يقتصر دوره في السياسات الداخلية على مناقشة هذه السياسات وإقرار القوانين والقرارات التي تتقدم بها الحكومة، فهو يظل غائباً تماماً عن مجال السياسة الخارجية وسياسة الدفاع، فهو لا يستطيع مجرد مناقشتها، فتظل هذه المواضيع حكراً على رئيس الجمهورية. كما يظل دور البرلمان محدوداً في عملية المفاوضات والتسويات بين السلطة وجماعات المعارضة. فعلى سبيل المثال عندما انطلقت موجة عنف الحركة الإسلامية المسلحة في بداية التسعينيات وبدا أنها قادرة على زلزلة أركان النظام الحاكم بعد قيامها بحملة اغتيالات لرموز فيه، كان على المجموعة الحاكمة أن تسارع بعمل "حوار وطني" من أجل تثبيت تماسك جبهة مناهضة الإرهاب وإدخال أقسام أساسية من المعارضة فيها. ولكن هذا الحوار الوطني لم يأخذ من البرلمان ساحة له. أي أن ساحات التفاوض والتسويات لا تتم داخل البرلمان، لأن النخبة الحاكمة في البرلمان ليست هي العمود الفقري للنظام الحاكم، ولأن البرلمان لم تتم صياغته كساحة للتفاوض وللحلول الوسط، ولكن كمنتدى للنقاش ولتوجيه النقد إلى الحكومة.
إذا كان دور مجلس الشعب في النظام السياسي المصري يتميز بهذه المحدودية، وإذا كانت الأغلبية المطلقة في البرلمان محجوزة سلفاً لحزب المجموعة الحاكمة، لماذا إذن الاهتمام بدراسة الانتخابات التي تحدد شخصية الجالسين على مقاعده؟ الحقيقة أن البحث في سياسة البلاد التي تسيطر عليها الأنظمة الاستبدادية لا يمكن أن يتجاهل دراسة انتخاباتها البرلمانية لسببين.

أولاً: لكي تحكم النظم الاستبدادية سيطرتها على المجتمعات التي تقوم فيها، تنتهج هذه النظم آلية خنق المشاركة السياسية للسكان عن طريق تضييق المجال السياسي والمساحات التي يمكن للناس من خلالها أن يعبرا فيها عن أراء أو مطالب سياسية: فالأحزاب ممنوعة إلا بتصريح من جهات سيادية، والجمعيات ممنوعة إلا بتصريح من جهات أمنية، والمظاهرات ممنوعة بشكل شبه مطلق، والتجمعات ممنوعة إلا ما رأت الجهات الأمنية أنها لا تهدد الاستقرار، وهكذا. لذلك تكون لحظة الانتخابات هي لحظة إفراج نسبي مؤقت عن المواطنين لكي يشاركوا بشكل ما في السياسة. صحيح أن تدابير كثيرة تتخذ للحد من المشاركة السياسية إلى أقصى مدى ممكن، لكن يظل أن لحظة الانتخابات في البلاد التي تحكمها نظم استبدادية هي لحظة استثنائية لا يمكن أن تفوت المهتمين بالشأن العام، لأنها لحظة تتميز بمستوى أعلى من المشاركة السياسية من كل اللحظات الأخرى في عمر البلاد التي تعيش تحت حكم النظم الاستبدادية وشبه الاستبدادية.
ثانياً: إن إقرارنا بالدور الهامشي الذي يلعبه البرلمان في النظام السياسي المصري، بالمقارنة بدور رئيس الجمهورية والأجهزة الأمنية، لا يعنى إغفال أن هذا النظام السياسي في مرحلة ضعف وأفول، وأن هناك ضغوطاً كثيرة على المجموعة الحاكمة لكي تُعيد صياغة القواعد الحاكمة للعملية السياسية. والحقيقة أن أي تحول ديمقراطي أو شبه ديمقراطي في مصر لابد وأن يُعطي دوراً أكبر للبرلمان، لأن أحد أهم مؤشرات وخصائص الاستبداد الذي يتصف به النظام السياسي هنا هو الدور الفائق والمحوري الذي يلعبه رئيس الجمهورية والأجهزة الأمنية في تقرير السياسات العامة. لذلك فإن أية درجة من الديمقراطية أعلى في مصر سترتبط حتماً بإعطاء البرلمان دوراً أكبر في تقرير السياسات وفي الرقابة على الأجهزة التنفيذية للدولة. وإذا نظرنا للمسألة في المنطقة العربية، سنجد أن كل الدول التي شهدت زيادة في المشاركة السياسية وفي التحول الديمقراطي كانت في نفس الوقت تشهد تحولاً في مكانة البرلمانات بها وتمددها لكي تلعب أدوراً في ملفات كانت مستبعدة منها في الماضي. نجد ذلك في الكويت التي أصبح للبرلمان فيها سلطة الرقابة على العائلة الحاكمة بل والتدخل في اختيار أمير البلاد، ونراها في الأردن التي أصبحت فيها العلاقات مع إسرائيل موضوعاً للنقاش والمداولات داخل البرلمان، كما نراها في المغرب والتي أصبح البرلمانها ضالعاً في تقرير ملامح سياسات حقوق الإنسان والتعامل مع الخارجين عليها.
إذا كانت الديمقراطية تعني بالضرورة إعطاء دوراً أهم للمجلس النيابي، فإن النظم الحاكمة التي تحاول امتصاص الضغوط عليها لتخفيف قبضتها على المجال السياسي ليس لديها أي خيار آخر سوى فتح البرلمان لمستوى من المشاركة والمعارضة أعلى، بحيث يعكس البرلمان بشكل أفضل الخريطة السياسية القائمة. وهذا ما يفسر حصول الحزب الوطني على أغلبية أقل في مجلس 2005 بالمقارنة بالمجالس السابقة، كما سنرى فيما بعد. بعبارة أخرى، تنشيط البرلمان هو الدواء المر الذي يجب أن تتجرعه النظم الاستبدادية، وهي في تجرعها له تحاول أن تجعله تحت السيطرة للوصول إلى المعادلة السحرية الآتية: أن يساهم تنشيط البرلمان في احتواء القوى السياسية البازغة وإدماجها في النظام السياسي الرسمي، مع العمل على ألا يصبح هذا البرلمان منصة للمعارضة الصاعدة في الشارع وفي المجتمع المدني، منصة تستطيع من خلالها خلخلة أسس النظام الاستبدادي.
***

في هذه الدراسة سنتتبع أحوال المشاركة السياسية في الانتخابات الماضية، من أول مرحلة تكوين الهيئة الانتخابية، أي تكوين الجداول التي يُسجَل فيها من له الحق في التصويت، ومروراً بمرحلة الترشح لمقاعد مجلس الشعب، ومرحلة التصويت في صناديق الانتخاب. سنعالج أيضاً مشاركة القوى السياسية المختلفة، خاصة جماعة "الإخوان المسلمون" التي حققت نصراً انتخابياً كبيراً. سنعرض أيضاً لمشاركة بعض الفئات الاجتماعية التي زاد دورها مثل رجال الأعمال. سندرس علاوة على ذلك مشاركة بعض الفئات المهمشة سياسياً مثل العمال والنساء والأقباط. وسنختم الدراسة بملاحظات عامة عن عوائق ومتطلبات المشاركة الانتخابية في مصر.

***

تعتمد هذه الدراسة على مصادر عديدة منها بيانات وتقارير أعمال المراقبة على الانتخابات التي قامت بها "الجمعية المصرية للنهوض بالمشاركة المجتمعية" في 25 دائرة انتخابية. كما تعتمد على الملاحظات والنقاشات التي دارت بين القائمين على هذه الدراسة من ناحية والقائمين على عمليات المراقبة من جهة أخرى. كما تعتمد أيضاً على التغطية الصحفية والإخبارية للانتخابات، كما على العديد من البيانات والمعلومات والدراسات الآخرى. والقارئ سيجد إحالات للمعلومات المذكورة في الدراسة.