الأيام دول.. 2- في البحث عن الفواصل بين الدولة والحكام


سامر سليمان
2007 / 1 / 14 - 13:51     

في المقالة السابقة تعرضت لخطاب تردي المجتمع، ذلك الذي يؤكد أن المجتمع المصري ككل يسير من سيء إلى أسوأ، وهو خطاب غير علمي وتشاؤمي، فيه الكثير من الرومانسية التي تجعله يمجد الماضي على حساب الحاضر. لو علم كثير من الناطقين به أنه يوطد دعائم الاستبداد، لفكروا ألف مرة قبل أن يدفعوا بأحكام مطلقة عن تدهور المجتمع المصري على كل المستويات. إذا كان المجتمع يواصل تدهوره، كيف لهذا المجتمع إذن أن يزحف لكي يحكم قبضته على مؤسسات الدولة؟ كيف يستطيع تحرير المؤسسات العامة لكي تعمل في خدمة المجتمع عوضاً عن توظيفها للتسلط عليه، وعن مسخها لخدمة المسيطرين عليها؟ إذا كان المجتمع المصري بهذا السوء – كما ينطق خطاب التردي الشامل – فليس علينا إلا أن نقبل النظام الحاكم، وأن نردد عبارة "الشعوب تستحق حكامها".
ولكن في نفس الوقت الذي يجب فيه الحذر من إطلاق أحكام مطلقة عن تردي المجتمع، يجب اتخاذ الحيطة أمام أحكام أخرى مطلقة عن تردي الدولة (مقصود بها هنا مجموع المؤسسات العامة)، خاصة عندما تكون تلك الأحكام مقدمة للدعوة لإحلال مؤسسات خاصة مكان المؤسسات العامة إلى أقصى مدى، وتصل الدعاوي إلى درجة الفكاهة عندما يطالب البعض بجعل مصر خالية من الضرائب التي تعول هذه الدولة (كما فعل أحد أعضاء مجلس الشعب السابق)، أو بإحلال قضاء قطاع خاص مكان قضاء الدولة، الخ. والحقيقة أن خطاب تردي الدولة في كل القطاعات وعلى كل المستويات يفترض أن الدولة كانت عظيمة في مرحلة ما، وبدأت في التردي بعد انقضاء هذه المرحلة. ويختلف تأريخ تلك المرحلة العظيمة تبعاً للهوى الإيديولوجي للمرء: فهي 1922-52 بالنسبة للبراليين العهد القديم، و1952-71 للناصريين وبعض اليسار، و1971-1981 للساداتيين وبعض اللبراليين الجدد. تقوم هذه المقولات كلها على تمجيد الماضي الجميل على حساب الواقع البائس، وهي تدفع غالباً للوقوع في صراعات عقيمة عن الماضي. لكن إذا نحينا الماضي جانباً وأصبحنا أولاد وبنات اليوم، سيتفق أغلبنا على أن حالة المؤسسات العامة لا تسر العدو والحبيب على السواء. والأسباب كثيرة، لكن بما أننا اليوم في مرحلة المطالبة بالتغيير السياسي، فسنركز على واحدة من أهم عوامل سوء حالة مؤسسات الدولة، وهو غياب فواصل واضحة بين الدولة والنظام.
يُُستخدم مصطلح "النظام" عادة للدلالة على السلطة الحاكمة وهي ترجمة للمصطلح الفرنسي régime الذي تبنته اللغة الانجليزية. ولكن مصطلح "النظام" يثير اللبس لأننا نستخدمه أحياناً بمعنى النظام السياسي political system، أي تلك المنظومة التي تحتوى على كل المؤسسات الرسمية وغير الرسمية المنتمية للمجال السياسي، سواء في السلطة أو خارجها. لذلك قد يكون المصطلح الأوفر دقة للتعبير عن هؤلاء المسيطرين على سياسة بلد ما هو "المجموعة الحاكمة" أو ببساطة "الحكام". وربما يكون استخدام كلمة "السلطة" أكثر توفيقاً من كلمة النظام، خاصة أن هذه الكلمة كانت متداولة في الخطاب الشعبي، ألم يقل سيد درويش: "يا عزيز عيني وأنا نفسي أروح بلدي، بلدي يا بلدي والسلطة خدت ولدي".
إذا كانت حالة الدولة المصرية اليوم سيئة، فذلك يعود إلى حقيقة أن المجموعة الحاكمة ملتصقة بالدولة بدرجة تجعل من العسير رؤية الفواصل بينهما. فعندما تثور الناس على السلطة فتقوم بتدمير عربات الإسعاف والمطافئ كما يحدث أحياناً، هنا نكون أمام حالة من المزج التام بين الحكام والدولة، وهو الأمر الذي لا يصب في عملية التغيير، لأن الهدف هو تحرير الدولة من قبضة المجموعة الحاكمة وليس تدمير هذه الدولة. والناس معذورين في ذلك الخلط بين الاثنين لأن هذا الخلط موجود في الواقع وليس في أفكارهم المشوشة. فلنأخذ على سبيل المثال تعاطي المجموعة الحاكمة مع جهاز مباحث أمن الدولة. فالدولة بمؤسساتها تحتاج فعلاً إلى جهاز لتأمينها من السرقة، من النهب ومن التدمير. المشكلة أنه يُطلب من جهاز أمن الدولة ملاحقة بعض المعارضين للمجموعة الحاكمة، بالرغم من أن هؤلاء لم يضعوا نصب أعينهم أبداً الاعتداء على مؤسسات الدولة، بل هم في كثير من الأحيان مستعدين لفدائها بأرواحهم. لذلك فملاحقة هؤلاء الناس يخرج بالجهاز عن وظيفته الأصلية بل ويجعله مقصراً في أدائها. مما يجعل تسمية "البوليس السياسي" التي كانت سائدة قبل 1952 أقرب إلى توصيف معظم نشاطات هذا الجهاز. الأمر نفسه ينطبق على حالة الصحافة "القومية". فهذه الصحافة من المفترض أن تكون متحررة من قيود رأس المال، لأنها تنتمي للملكية العامة، لكن عدم وجود فواصل بين هذه المؤسسات والمجموعة الحاكمة مسخ معظم هذه الصحف إلى أبواق للسلطة وأدى بمعظمها للمستوى الذي نعاينه جميعاً بكل أسف.
لكي نعيد وضع الفواصل بين الدولة والمجموعة الحاكمة في الواقع المعاش، سيكون علينا باديء ذي بدء أن نضعها في أذهاننا. فالمجموعة الحاكمة زائلة، أما الدولة فهي باقية. بدون هذا تحديد هذه الفواصل سنسقط في التشوش الذي سيجعلنا نقذف سيارات الإسعاف والمطافئ والشرطة بالطوب، بدلاً من العمل على أن يقوم الجالسون في مقاعد قيادة هذه السيارات بوظائفهم الأصلية.