العمل في الأحياء الشعبية تقييم وآفاق

حسن الصعيب
2003 / 7 / 12 - 08:24     


 
لئن كان إنجاز التقييم المركزي يعد ضرورة ملحة في الظرف الراهن, لانه سيسعف المناضلين وأطر المنظمة في إدراك واستيعاب معطيات التجربة السابقة بكل سلبياتها وإيجابياتها واستخلاص الدروس الأساسية منها النظرية والعملية, الفكرية والسياسية, من أجل استكمال إعادة البناء التنظيمي والسياسي على أسس صلبة ومبادئ واضحة مستلهمة من روح الماركسية – اللينينية. فإنه بات ضروريا أيضا بالنسبة لكل المناضلين والأطر التي عاشت التجربة, وتفاعلت مع ملابساتها سواء انطلاقا من مواقعهم النضالية وسط الجماهير الشعبية أو من خلال مسؤولياتها السياسية والتنظيمية التي كانوا يتبوؤونها, أن ينطلقوا وبموازاة إنجاز حسن المعيب مهامهم النضالية والسياسية, في وضع تقييمات أخرى جزئية وتفصيلية, تمس قطاعا ما أو قضية بعينها.  ذلك أن مثل هذه التقييمات من شأنها إضاءة جوانب كثيرة في التقييم المركزي, بتوضيح أكبر وتدقيق أكثر للإشكالات الأساسية التي تطرق إليها التقييم المركزي بصفة عامة, لكن دون تفصيل فيها, حتى تأخذ كامل حقها في النقد والتقويم. انطلاقا من ذلك, ستكون المحاولة هاته مركزة بشكل أساسي على العمل الذي قامت به في قطاع الأحياء الشعبية.
-I النضال في الأحياء الشعبية إفراز نوعي لتطور الصراع الطبقي في عقد الثمانينات عند البدء في عملية إعادة البناء في أواخر السبعينات صاغت المنظمة شعارها المركزي:
" من أجل منظمة ماركسية-لينينية طليعية صلبة ومتجذرة في الطبقة العاملة والفلاحين". كان يفترض لإنجاز هذا الشعار وترجمته على أرض الواقع, البحث في كل السبل التي تؤدي إلى ذلك, واستغلال كل الشروط والإمكانيات النضالة المتوفرة التي تفسح المجال وتفتح آفاق العمل للالتصاق بالطبقات الأساسية الكادحة, فبحكم الموقع الطبقي المتميز الذي تحتله الأحياء الشعبية حيث تقطنه جماهير غفيرة من الكادحين والمهمشين واحتياطيا هائلا لجيش العاطلين عن العمل وأشباه البروليتاريا, ونظرا للتواجد المكثف للفئات العمالية والبروليتارية العاملة بالمصانع الكبري والمتوسطة والصغيرة وورشات الإنتاج الأساسية والموانئ, ارتأت المنظمة في إطار خطتها التكتيكية من أجل الالتصاق بهذه الفئات, تسهيلا لمهمة التجذر وسط الطبقة العاملة, أن يرتبط أطر ومناضلي المنظمة بهذه الجماهير في الأحياء الشعبية والعمل على إفراز طلائع عمالية من خلال الالتحام بهم في صيرورة النضال الطبقي واليومي.
فكانت مهمة العمل في الأحياء الشعبية مهمة مساعدة أو مكملة لمهمة التجذر وسط الطبقة العاملة, أو بعبارة أخرى كتاكتيك غير مباشر للارتباط بها. ولم يحصل التحول النوعي في التوجه للعمل في الأحياء الشعبية برؤية سياسية واستراتيجية جديدتين إلا مع الانتفاضة الشعبية بالبيضاء في يونيو 1981 حيث أبانت هذه الانتفاضة المجيدة عن طاقات نضالية زاخرة وكبيرة في الأحياء الشعبية, كشكل من أشكال العنف الثوري الجماهيري المنظم.
إن التحليل السياسي لسنة 1981 الذي أنجز عقب الإنتفاضة المجيدة سجل بوضوح فائق هذه الأهمية النضالية والإستراتيجية التي أصبحت تكتسيها الأحياء الشعبية كإحدى الحلقات الأساسية لتعميق مسلسل الثورة الوطنية الديمقراطية الشعبية وتم استخلاص الدرس الأساسي من هذا الحدث النوعي بالتأكيد على الدور الذي ستضطلع به الأحياء الشعبية في النضال الجماهيري الثوري.
ذلك أن مهمة تحقيق أهداف ديمقراطية مرحلية وارتقاء بمضمون الانتفاضة كشكل من أشكال العنف الثوري الجماهيري المنظم على المدى البعيد, يقتضي من المنظمة بناء الأنوية التنظيمية والسياسية بهذه الأحياء. منذ هذه الفترة بالذات أصبحت مهمة العمل في الأحياء الشعبية مهمة مركزية لا تقل أهمية من مهمة التجذر وسط الطبقة العاملة والفلاحين غير أن الإدراك الموضوعي لأهمية العمل في الأحياء  الشعبية لم يكن يوازيه بالضرورة أو يتطابق مع الإمكانيات السياسية والتنظيمية للمنظمة آنذاك, حتى يتم إنجاز هذه المهمة على كامل الوجه, في الوقت الذي تدعو إليه وتؤكد عليه الشروط العامة للنضال الطبقي, فقد شهدت سنتي 79-1980 حركة جماهيرية نضالية عارمة متقدمة على سابقاتها ومتجاوزة لها في نفس الوقت. تمثل ذلك على الخصوص في الإضرابات الطويلة التي قامت بها الطبقة العاملة وفي قطاعات ومواقع إنتاجية أساسية مثل الفوسفاط, السكك الحديدية والبترولية والغذائية. وقد تميزت هذه الحركة النضالية باتساع التحول في الزمان والمكان كما أنضمت إليها فئات واسعة من البرجوازية الصغيرة كرجال التعليم والصحة والشبيبة المدرسية والجامعية والتجار الصغار كما ساهم الفلاحون في حركات احتجاج ضد حرمانهم من استغلالهم للأرض, التي اتخذت أحيانا طابعا دمويا من خلال المواجهة مع القواد والدركيين وأعوان السلطة. (فلاحو قرية حد كورت, فلاحو جماعة أولاد سعيد الواد, فلاحو قبائل الاوداية) . وقد عزز من طول نفسها النضالي ميلاد الكونفدرالية الديمقراطية للشغل (ك.د.ش) التي حاولت تبرير شرعية ميلادها بتكثيف النضال في ضوء انتقادها للسياسة الانتظارية للنقابة المركزية الاتحاد المغربي للشغل (ا.م.ش) حتى تتمكن من التميز والتجذر  وبالتالي العمل على تقوية وتوسيع  نفوذها السياسي والنقابي في أوساط العمال وباقي الفئات الكادحة الأخرى.
لكن إضرابات 20/18 يونيو جاءت نوعية, فالدعوة للإضراب العام حول مطلب جوهري ذي طابع سياسي محدد وواضح : الإلغاء الفوري والكلي والضروري لكل الزيادات التي عرفتها المواد الاستهلاكية الأساسية , ساهم بشكل كبير في إثارة الحماس الشعبي وتفجيره وضم إليه فئات واسعة من أشباه البروليتارية. وبرز الدور المتعاظم للتجار الصغار والمتوسطين في عملية اختراق الإضراب للأحياء الشعبية ومساهمة أوسع فئاته في الإضراب العام الذي تحول بفضل الحماس الثوري للشباب إلى انتفاضة شعبية عارمة عمت اغلب مناطق الدار البيضاء وكادت تتسع لتشمل المحمدية وباقي المدن الأخرى لولا إخمادها بقوة رصاص النظام الهمجي وقمعه الرهيب والوحشي.
كانت حركة النضال الجماهيرية- كما تم تسجيل ذلك أعلاه – تتقدم بوثيرة متسارعة, في الوقت ذاته كانت المنظمة تبذل قصارى جهدها للالتحاق بهذه الحركة وتأطيرها نحو المزيد من النضال والصمود... وهي التي تمر بفترة انتقالية معقدة وشائكة, فعلى الرغم من الحسم النظري والسياسي مع اعتماد الشبيبة المدرسية كطليعة تاكتيكية وكذا تصفية الحساب مع النزعات العفوية والفوضوية التي تدعو إلى حل التنظيمات الماركسية-اللينينية... ظل الواقع التنظيمي والسياسي للمنظمة مثقلا بآثار الماضي, فقد بقي بعض أطرها ومناضليها بالقطاع الطلابي ولم يتم تصفية وضعيتهم النهائية إلا مع صيف 82, وتحول البعض الآخر إلى أطر متوسطة وعليا تعمل بأجهزة الدولة كمهندسين وأساتذة وموظفين كما أن بعض الأطر انسحبت إما بسبب يأسها وصعوبة تجذرها وسط الطبقة العاملة أو لعدم قدرتها على الاستمرار في ظل تعتر المنظمة في إنجاز مهامها. أضف إلى ذلك العوائق الموضوعية التي كانت تعترض المناضلين للتحول كعمال أو كادحين مرتبطين بالطبقة العاملة والأحياء الشعبية. إذ اتسمت هذه الإنطلاقة بتعتر كبير منذ صيف 81 حتى صيف 82, لم يسجل في رصيد المنظمة الكفاحي والسياسي إلا عملا واحدا وكان كبيرا بالمقارنة مع الضعف الذي كانت تتسم به المنظمة. بحيث أن الغزو الإسرائيلي للبنان سنة 82 أثر بشكل كبير على وعينا وقناعاتنا كما بدا لنا حجم الكارثة أكبر بكثير أمام تنظيم مظاهرة شعبية للوقوف بجانب الشعبين الفلسطيني واللبناني والتضامن معهما.
فكانت المنظمة سباقة للمبادرة بتنظيم مظاهرة شعبية كبيرة بالدار البيضاء, وجندت كل مناضليها وأطرها للدعوة لذلك وشكلت الأحياء الشعبية المكان الرئيسي لدعايتها وتعبئتها فحصل تجاوب كبير مع المبادرة. فكانت أول مظاهرة جماهيرية شعبية تقوم بتنظيمها   منذ بدء عملية البناء. وقد نجحت في ذلك أيما نجاح حتى أن المغرب ذكر في الأخبار العالمية كأحد البلدان القلائل التي شهدت مظاهرات للتنديد بالغزو الإسرائيلي للبنان سنة 82 كان لهذه المظاهرة صدى طيب لدى المناضلين والمتعاطفين مع المنظمة. مما زرع روحا جديدة في نشاط المنظمة السياسي والتنظيمي وبدا أن الطريق الأسلم والأنجع للخروج من التقوقع هو المزيد من الاهتمام بحركة النضال الجماهيرية  وتزويد المنظمة بدماء جديدة من المناضلين المكافحين في طليعة خندق النضال الجماهيري الثوري. تجدر الإشارة أن أية مبادرة سياسية تنجح عندما تأخذ بعين الاعتبار الأجواء المحيطة وتعرف كيف تستغل الإمكانيات القائمة وتتفاعل مع الطاقات النضالية الكامنة وما تريده الجماهير ذات المصلحة الأساسية في التغيير, وهذا يؤكد حقيقة موضوعية وهو أن التراكمات النضالية مع السعي لتطويرها شكلا ومضمونا, وبنفس طويل وصبور هي الكفيلة بخلق الحدث النوعي. ذلك أن مسلسل النضال في الأحياء الشعبية بدأت بوادره الأولى ومع تطور النمو الديمغرافي نتيجة الأزمة الاقتصادية والهجرة من البادية إلى المدينة, مع انطلاقة "المسلسل الديمقراطي" المزعوم خلال سنوات (76-77-78) وهو المسلسل الذي أراد منه النظام توسيع قاعدته الاجتماعية وفك العزلة السياسية عنه نتيجة الانقلابين (71-72) والانفتاح على البرجوازية المتوسطة خاصة الشرائح التكنوقراطية والبيروقراطية والفئات الصناعية والتجارية المتوسطة, وخلق إجماع وطني جديد يستهدف السلم الاجتماعي لفترة أو فترات زمنية محددة, تحت يافطة "من أجل استكمال الوحدة الترابية والدود عن الصحراء المغربية " وعلى الرغم من "ديمقراطيته" المزعومة وتفريخ أحزاب جديدة لهذا الغرض ومساومة الأحزاب الإصلاحية, فإن الجماهير الشعبية خاضت نضالا لا هوادة فيه رغم بعض السلبيات والمعوقات, من أجل تحسين أوضاعها المعاشية وإطلاق الحريات الديمقراطية وكانت فترة الانتخابات البلدية وكذلك البرلمانية لسنوات (76-77) مناسبة لتسييس الجماهير الكادحة بالأحياء الشعبية وإدراك إنسداد أفق ما يسمى "بالمسلسل الديمقراطي" المزعوم, الذي كان في الحقيقة الغطاء السياسي للنظام, من أجل المزيد من الاستغلال والقمع ورهن بلادنا بمصالح الامبريالية. ولم تنقض سنتان عن هذا المسلسل حتى انفجرت النضالات الجماهيرية لتؤكد هذه الحقيقة وستتبعها حملة اعتقال واسعة للمناضلين وتوقيف وتسريح المناضلين النقابيين بمختلف القطاعات وفرض الرقابة على الصحف وحرية التعبير والرأي وإقامة محاكمات سياسية صورية تستهدف عزل هؤلاء المناضلين عن تأطير الجماهير الشعبية وتعطيل وتفشيل المنظمات الجماهيرية التي كانوا يناضلون فيها. وإذا كان قمع الحركة الماركسية- اللينينية خلال هذه السنوات, قد ساهم بشكل كبير في تعطيل تطور هذه الحركة النضالية وأحدثت  شللا في المنظمات الجماهيرية التي كانت تتواجد بها خاصة في قطاع الشبيبة الجامعية والمدرسية من خلال الاتحاد الوطني لطلبة المغرب والنقابة الوطنية للتلاميذ, هذه المنظمات التي تم حظرها, فإنه في ذات الوقت فرض موضوعيا انتقال فئات عريضة من المناضلين الديمقراطيين والثوريين للعمل في واجهات أخرى للتعبير عن طموحاتهم السياسية وقناعتهم الفكرية, فكان تشكيل الجمعيات والأندية الثقافية بالأحياء الشعبية نوعا من استبدال مواقع النضال ولكنه استبدال مؤقت إذا ما أخذنا بعين الاعتبار شروط القمع القاسية وصعوبة النضال الديمقراطي في حدوده الدنيا وأجواء الإنتظارية المقيتة التي أعقبت ضربة الحركة الماركسية-اللينينية.
يمكن أن نضيف أن تأسيس جمعيات ثقافية كان بمثابة متنفس للمناضلين ومحاولة منهم للخروج  من العزلة والتقوقع والحلقية, ونستطيع أن نشيد بالدور الكبير الذي قاموا به وبحماس منقطع النظير في الدفاع عن شعار "الثقافة الوطنية الديمقراطية الشعبية" وتثقيف فئات عريضة من الشعب في الأحياء الشعبية بالتركيز على قضايا أساسية منها اعتبار القضية الفلسطينية قضية وطنية وإبراز التناقض الأساسي بين الأمة العربية  والإمبريالية والصهيونية والرجعية ومصلحة الشعوب العربية في التحرر من التبعية والاستقلال والوحدة وتحرير فلسطين وحق الشعب الفلسطيني في تقرير مصيره وإقامة دولته الوطنية المستقلة... وقضية المرأة التي استأثرت باهتمام النساء المثقفات والكادحات على حد السواء, ومكونات الثقافة المغربية العربية والأمازيغية, مسألة التراث العربي الإسلامي وقضية الطفولة والشباب والهجرة. وهي كلها قضايا تم مناقشتها والتدقيق في مضامينها والدعاية لها من خلال الأسابيع الثقافية والمحاضرات والندوات وحلقات النقاش والمجلات الحائطية والنشرات الدورية والأفلام السينمائية الجادة وعروض  مسرح الهواة الجاد. وقد ساعد على إثارة مثل هذه القضايا مجموعة من المثقفين الملتزمين بهموم الشعب وطموحاته في الحرية والتقدم, من خلال الكتابة في منابر تقدمية مستقلة. هذه الحركية الجديدة وهذا المناخ العام هما اللذان وفرا الأرضية السياسية وعبدا الطريق لولوج المنظمة جبهة النضال في الأحياء الشعبية بالارتكاز على نقطة انطلاقها من التراكمات النضالية التي حققتها الجماهير عبر سيرورة نضالية طويلة, ومن خلال أشكال التنظيم والتجمع والتضامن القائمة في إطار الوعي الطبقي الذي اكتسبته من جراء الصراع المباشر والحاد مع رموز السلطة وممثليها في الحي من مقدمين وشيوخ وقواد. هكذا اعتمدت المنظمة في خطتها التاكتيكية لخلق الأنوية التنظيمية بالأحياء الشعبية على الديمقراطية في التعامل مع المناضلين واتخاذ القرار بشكل مستقل من طرف مجلس المناضلين... إلخ من جهة أخرى وبموازاة هذا النشاط الثقافي العام, وعلى إثر النتائج البالغة الأثر على كون الجماهير الكادحة من خلال تطبيق البرنامج التقشفي لمخطط 1981-1985 حيث عرفت أسعار الاستهلاك تصاعدا سريعا في الوقت الذي تقلصت فيه الأجور, فساهمت المنظمة في تحسيس جماهير الأحياء الشعبية بضرورة النضال من أجل توقيف هذا الهجوم الجديد بتنظيم مظاهرات شعبية في عدة أحياء آهلة بالسكان بالدار البيضاء والرباط والقنيطرة, تحت يافظاتتندد بالزيادة في أسعار المواد الغذائية وتدعو الجماهير للنضال من أجل تحسين أوضاعها المعيشية وتربط هذا النضال بإطلاق الحريات الديمقراطية.
وبالرغم من محدودية هذه المظاهرات في الزمان والمكان ونسبة المشاركة التي لم تكن كبيرة فإنها حققت تجاوبا مع مطامح الجماهير الشعبية وشكلت الإرهاصات الأولى من أجل ترسيخ تقاليد نضالية بالأحياء الشعبية. على أساس هذا النضال المزدوج: الثقافي والسياسي ستستقطب المنظمة مناضلين جدد مكافحين يكتنزون طاقات نضالية ثورية هائلة وملتحمين بشكل مباشر بالجماهير الكادحة في الأحياء الشعبية, هؤلاء المناضلين سيشكلون لنشاط المنظمة التنظيمي والسياسي بالأحياء الشعبية.
-II سيرورة بناء اللجان الشعبية: المحصلة والنتائج
إن حصيلة عملية المنظمة خلال سنة وخاصة قبيل انعقاد الندوة الوطنية الأولى سمح بالحديث عن بداية تأسيس الأنوية رغم بعض التعثرات التنظيمية والسياسية المشروطة بضعف المنظمة كما سمحت بتلمس المشاكل المباشرة أثناء الممارسة العينية واليومية والوضوح النسبي في كيفية الاشتغال في ساحة النضال. ولما انعقدت الندوة الوطنية خرجت بتوصية للعمل في الأحياء الشعبية ترتكز علة مضمون سياسي عام قابل للتحديد والتعيين على ضوء شروط تطور الصراع الطبقي ومدى تقدم المنظمة في إنجاز مهامها؛ يقول تاكتيكيا بضرورة "النضال من أجل خلق حركة عريضة وعارمة, مناهضة للنظام ومتجاوزة للإصلاح" واستراتيجية بضرورة تطور "مضمون الانتفاضة الشعبية عند اندلاعها بالأحياء الشعبية باعتبارها تشكل أحد الأشكال الملموسة والخاصة لمفهوم العنف الثوري الجماهيري المنظم, وخلق أدواته الأساسية"...وتوقفت عند الجوانب التنظيمية بناء من جهة على البنية التنظيمية الجديدة من خلال تحديد الموقع الأساسي الذي ينبغي أن تحتله الطبقة العاملة والفلاحين والجماهير الكادحة في هذا الهرم التنظيمي وهو هرم عمودي على مستوى الخلايا وأفقي على مستوى التنسيق والقادة وهو كذلك قطاعي بحسب خصوصية النشاط ومناطقي للتنسيق والقيادة بين مختلف القطاعات من نفس المنطقة. [عمودي –قطاعي وأفقي- مناطقي] وهي بنية تنظيمية بسيطة ولكن قابلة للتوسع والتطور حسب التطور النوعي السياسي والتنظيمي للمنظمة. ومن جهة أخرى بناء على ما أفرزته الأحياء الشعبية عبر صيرورتها النضالية من أشكال التنظيم والتجمع, بحيث أصبحت الجمعيات الثقافية والأندية السينمائية والرياضية لها امتداد داخل الأحياء الشعبية, وترسخت أشكال الاحتجاج الجماعية حول مشاكل الحي من إصلاح الواد الحار وتجهيز الكهرباء واحترام كرامة المواطن, وكتابة العرائض للسلطات, وازدادت حلقات النقاش الساخن في زوايا الدرب بين الشباب حول أهم القضايا الحساسة في البلاد: الديمقراطية, الشغل, التعليم, الأمية, المرأة, فلسطين المغتصبة... وتنامي الوعي بالتضامن والتآزر بين السكان عند حدوث مصاب أو مكروه. لقد تزامن تثبيت العمل التنظيمي والسياسي بالأحياء الشعبية مع استمرار سياسة التقشف التي نهجها النظام منذ سنة 1981 بحيث فتح الأبواب على مصارعها للاستثمارات الأجنبية وتعزيز موقع القطاع الخاص على حساب القطاع العام رافق ذلك بولسة النظام الإداري لمدينة الدار البيضاء وتقسيمها إلى خمس عمالات بغاية السيطرة على انفجار اجتماعي يحدث مستقبلا على غرار انتفاضة 81. وتنظيم حملات الاعتقال الدورية لكل من اشتبه فيهم والهضم المستمر لأبسط  حقوق المواطنة. كما تزامن أيضا مع وضعية الشلل التي تعرفها الأحزاب الإصلاحية والإنقسامات السياسية التي تحدث داخلها وتراجع ثقتها بين المتعاطفين والجماهير الشعبية بصفة عامة, وتصاعد المد الإسلامي الذي بدأ يتقوى بسبب الفراغ السياسي وتقاعس نضال الحركة التقدمية وضعف القوى الثورية. بسبب هذه العوامل الموضوعية ترسخت لدى المنظمة والقيادة بشكل خاص, القناعة السياسية المتمثلة في ضرورة الإسراع بتأطير الحركة الجماهيرية واستقطاب مناضلين جدد مقتنعين بالخط السياسي ومواف المنظمة ويتوفر فيهم عنصر الكفاحية. حتى تستطيع من جهة الخروج من تقوقعها وضعفها وتكون بحق منظمة ثورية جماهيرية وليست منظمة أطر. ومن جهة أخرى تتمكن من تبوأ مكانة أساسية في إطار موازين القوى بحيث تضع حدا لزحف "الإسلاميين" وتجيب عن أزمة الأحزاب الإصلاحية في ارتباطها بالجماهير الشعبية. وجارة ورائها حركة جماهيرية عارمة مناهضة للنظام ومتجاوزة لأطروحات الإصلاح. كان يبدو التوسع في الأحياء الشعبية جوابا شافيا على هذه الإشكالية. من هنا نستطيع أن نتتبع المسيرة النضالية ونترصدها بشكل موضوعي في عملية تشكل اللجان الشعبية بالأحياء الشعبية في إطار حركة نضالية فريدة من نوعها. فأشكال الاحتجاج والتحريض جاهزة طالما هناك حدث يفرضها كالزيادة في أسعار المواد الاستهلاكية  مثلا. والمناضلون مرشحون للانضمام إلى اللجان الشعبية إذا أبانوا عن استعدادهم التام في المشاركة في مظاهرة شعبية أو توزيع منشور, أما نقاش الخط السياسي ووثائق المنظمة فتأتي في المرتبة الثانية. وفي ظل شروط السرية الأساسية وقلة تداول وثائق المنظمة يكون محظوظا جدا من استطاع أن يطلع على وثيقة ما. لكن حماس المناضلين وإدارة المنظمة كان يحتاج إلى المزيد من النضال والكفاح وكانت كل العقبات والتعترات الصغيرة النضالية والمشاكل المستعصية والخوض في العلاقات التنظيمية, يتصور حلها في إطار التقدم في إنجاز المهام. وكان هذا التصور البرغماتي يقود كل خطواتنا ويتحكم كخلفية في نشاطنا... ومع ذلك تمكنت المنظمة من التوسع في الأحياء الشعبية خاصة بمدينة الدار البيضاء والرباط والقنيطرة, بحيث أصبح أغلب أحياءها مؤطرين بمناضلين وأطر مرتبطين بالمنظمة وينشطون تحت قيادتها. فكان ميلاد اللجان الشعبية بكل زخمها النضالي, تجربة نوعية وجديدة في تاريخ المنظمة... والتي انضم إليها عاطلون ومتعلمون وكادحون همهم الأساسي وهاجسهم الأول والأخير هو تأطير الحركة الجماهيرية بالأحياء الشعبية وفق ما حددته  المنظمة من أهداف ومواقف. إن الفترة الفاصلة بين فبراير 1983 ويناير 1984 كانت فترة بالغة الأهمية في تاريخ المنظمة, إذ شهدت ميلاد اللجان الشعبية في الأحياء الشعبية التي يتمحور نشاطها حول المشاكل الملموسة للحي وتنظيم وتعبئة وتحريض سكانه للنضال من أجل تحسين أوضاعها المعاشية وإطلاق الحريات الديمقراطية وعلى رأسها إطلاق سراح المعتقلين السياسيين. وحرية التعبير والتنظيم والتظاهر والتجمع وإقرار الحقوق الاجتماعية والنقابية والسياسية واحترام حقوق الإنسان ومناهضة السيطرة الإمبريالية على منتجات واقتصاد بلادنا ومساندة كفاح الشعب الفلسطيني في العودة وتقرير مصيره وبناء دولته الوطنية المستقلة. كان هذا البرنامج الديمقراطي هو الإطار المحرك للمناضلين لترجمة تاكتيك المنظمة:   النضال من أجل حركة جماهيرية عريضة مناهضة للنظام ومتجاوزة "الأطروحات الإصلاحية". وحوله قامت اللجان الشعبية تعبئة السكان من خلال أنشطة متعددة ومتفاوتة في القيمة والمردودية. فعن طريق المظاهرات الشعبية أبرزت قضية التقشفية المعيشة والزيادة في أسعار المواد الاستهلاكية وارتباط ذلك بسياسة النظام التقشفية وتحكم الإمبريالية من خلال أدواتها كصندوق النقد الدولي والبنك العالمي, في اقتصادنا الوطني وإخضاعه لمصالحها في النهب والاستغلال. وعن طريق الكتابة في العرائض للسلطات أثارت المشاكل الملموسة للحي كالواد الحار والكهرباء وأزمة الكراء وتعبيد الطريق وتوفير التجهيزات وعلاقة السلطة بالمواطن مؤكدة على الفشل الذريع للمجالس البلدية وعدم تمثيلها للسكان وحل مشاكلهم اليومية. وعن طريق محو الأمية وتقوية الدروس بالنسبة لتلاميذ الابتدائي والثانوي, يتم إبراز أهمية التعليم بالنسبة للشعب المغربي كحق من حقوقه المشروعة وحاجة النظام للحفاظ على التمايز الطبقي  وحصة الأسد في قسمة الثروة في البلاد لصالح الطبقات السائدة. ومن خلال التضامن الاجتماعي بين سكان الحي يتم إبراز المصالح المترابطة لسكان الحي ومصلحتهم في تغيير الواقع من أجل غد افضل. كما أن النشاط الجمعوي الذي يعبر عن ثقافة الشعب كان يشكل أداة لتوعيتها وتطوير وعيها الطبقي. وعن طريق تشكيل فرق لكرة القدم وتنظيم مباريات تحت أسماء ورموز من الحركة الوطنية والمقاومة تربط تاريخ الحاضر بالماضي وتبرز استمرار نضال الحركة الوطنية ورجالاتها والمقاومة وجيش التحرير.
كانت هذه اللجان تزاوج في عملها بين شكل العمل العلني الذي يقوم بين مناضلين من نفس الحي وهم في الغالب يعرفون بعضهم البعض ويجتمعون في سرية إذ يتعاطون مع مشاكل الحي وهم في الغالب يعرفون بعضهم البعض ويجتمعون في سرية إذ يتعاطون مع مشاكل الحي ويناقشون قضاياه ويحددون لأنفسهم المهام اليومية. تم نشاط آخر يتخذ شكلا سريا يقوم بين مختلف ممثلي الأحياء على صعيد المدينة ككل إذ يجتمعون في سرية ويقدمون تقارير عن نشاط لجانهم ويحددون المهام على ضوء ما ترسمه لهم المنظمة من أهداف ومهمات.
ولعل التوسع الكبير للمنظمة في الأحياء الشعبية سيتأتى عقب الانتفاضة الشعبية المجيدة لسنة 84. فمحاولة منها للحاق بالمد الجماهيري المتصاعد كانت تسعى لخلق التفاف جماهيري واسع حولها واستقطاب مناضلين جدد يعزز من  ذلك المبدأ القائل: " من قلب النضال والكفاح مع الجماهير ولأجلها بتأسيس التنظيم وتتجدد دمائه وروحه وتتقوى إيديولوجيته وخطه السياسي". فنشأ وضع جديد مستنفر لكل الطاقات والأطر المسؤولة والقيادية داخل المنظمة حيث نشطت اللقاءات بدرجة كبيرة وتنامت الحركية بشكل كبير في الدعاية والتعبئة والاستقطاب وغدا النشاط الوحيد الذي يستأثر باهتمام كبير لدى أعضاء المنظمة هو التحريض بشتى الوسائل والأساليب التي تشجع على ذلك. وفي هذا الإطار تم إشراك الطلبة القاعديين في المظاهرات التي تنظمها المنظمة وفي توزيع المناشير المنددة بغلاء المعيشة أو التي تدعم الانتفاضة وتدعو توسيعها في المدن التي لم تشملها الانتفاضة كالدار البيضاء مثلا وباقي المدن الأخرى. وقد نشأ عن هذا الوضع انكشاف المناضلين المنظمين والعاطفين لبعضهم البعض وتمييع العلاقات التنظيمية ولم تعد قيادة المنظمة قادرة على خلق الانضباط التنظيمي والحفاظ على تماسك التنظيم ووحدته.
وقد تم تدارك هذه المخاطر في صيف 84 لما دعت قيادة المنظمة إلى ضرورة التهيء لعقد المؤتمر الوطني الأول من اجل حل كافة الإشكاليات التنظيمية والسياسية القائمة حتى يتسنى لها التقدم أكثر في إنجاز المهام المطروحة. وشرعت فعلا خلايا وإطارات المنظمة في تهيء الشروط الأساسية لإنجاح عقد المؤتمر الأول. وبعد ثلاث سنوات من الحركية والتحريض ستحين أول فرصة للاهتمام بترتيب البيت الداخلي واستعادة النفس التي كانت تلهث وراء هاته الأحداث وقياس الخطوات المزمع القيام بها بتأني. ونعزو سبب هذا التحول في الحذر البالغ الذي أبدته المنظمة اتجاه الحملة القمعية المسعورة التي قام بها النظام بعيد الانتفاضة والتي كانت تستهدف البحث عن المنظمة واستئصال وجودها. فتم تحديد المهمة الرئيسية في التهيء لإنجاح المؤتمر الوطني الأول وكان مدخله الرئيسي هو الحرص على حماية التنظيم من أجل أي قمع محتمل وتكوين أطر جديدة محنكة تكون مرشحة لقيادة المنظمة تحت شعار: "من أجل منظمة ماركسية-لينينية طليعية صلبة ومتجذرة في الطبقة العاملة والفلاحين".
 
                                                                                              1987 – سجن أغلبية