التيار الإسلامي ومشكلة التراكم الرأسمالي


سامر سليمان
2007 / 1 / 12 - 12:14     

في كتابه "الأخلاق البروتستانتية وروح الرأسمالية" قال عالم الاجتماعي الألماني ماكس فيبر أن الرأسمالية نتاج لتطور وانتشار المذهب البروتستانتي. فقد صالحت البروتستانتية بين المسيحية والثروة. لقد حملت المسيحية الأولى ميلاً معادياً للثروة. وكما يقول النص المقدس "لا يستطيع العبد أن يخدم سيدين معاً، الرب والمال". كانت خدمة الرب هي الخيار المفضل للمسيحيين الأوائل. ولكن بارتباط الكاثوليكية بالسلطة وبتبني الدولة الرومانية للمسيحية، أجتهد الكثير من رجال الدين للتوفيق بين خدمة الرب والمال معاًً. وعندما كان بعضهم يفشل كان يقتصر في النهاية على خدمة سيد واحد وهو المال، الأمر الذي أحدث شرخاً كبيراً بين الخطاب الرسمي للكنيسة الكاثوليكية وممارستها الفعلية. لقد صالحت البروتستانتية بين الثروة والإيمان، بل وذهبت إلى تمجيد الثروة باعتبارها من علامات رضا الرب الذي يرزق عبده الصالح بالثروة الوفيرة. هكذا يرى فيبر أن البروتستانتية فتحت الطريق للتطور الرأسمالي، لأنها رفعت من على كاهل الرأسماليين عذاب الضمير من مراكمة الثروة، ولأنها وضعت العمل من أجل تراكم الثروة في قلب حياة المؤمن. فالنموذج المثالي لهذا المؤمن هو من يعمل بدأب من أجل الثروة. وحينما تأتي لا ينفقها، بل يقطر على نفسه أشد التقطير من أجل إعادة استثماراها من جديد، ودواليك. لماذا وضعت البروتستانتية العمل في قلب حياة المؤمن؟ يجيب فيبر لأن الذوبان في العمل هو الدواء الشافي للقلق والشك الذي يدخل منه الشيطان. وبهذا المعنى لعبت البروتستانتية دوراً تقدمياً في المجتمعات الأوروبية، لأنها ساعدت على خلق مجتمع العمل والادخار والاستثمار الذي قامت عليه الديمقراطية فيما بعد.
لا شك أن البروتستانتية ساهمت في تطور الرأسمالية، هذا برغم تشدد الكثير من تياراتها، خاصة الكالفينية، ومحاربتها لمتع الحياة، وإصرارها على فرض نمط صارم ومتقشف في الدنيا. لذلك فإن المستشرقين المهمومين برصد انتقال المجتمعات الإسلامية إلى الرأسمالية يفتشون دوماً عن إسلام بروتستانتي. ولكن يبدو أن مسار تطور الفكر الإسلامي يختلف. فالإسلام لم يكن من الأصل ضد الثروة من حيث المبدأ، لذلك لم يكن "المصلحون" هنا معنيين بالتأليف بين قلب المؤمن والتراكم الرأسمالي، فالممارسة الإسلامية تقوم في الأصل على التوازن بين المادة والروح. لا شك أن محاولات التشبيه بين البروتستانتية وما يسمى بظاهرة "الإحياء الإسلامي" يشوبها الكثير من التعسف. نرى ذلك في كتابات الباحث الأمريكي هنري كلمنت المحتفي بتجربة البنوك الإسلامية باعتبارها خطوة هامة على طريق التأليف بين الرأسمالية والممارسة الإسلامية. لم تؤد "الصحوة الإسلامية" إلى خلق رأسمالية صناعية صاعدة. فالتيار الإسلامي الواسع لم يضع قيمة العمل في قلب اهتماماته. بل أنه في الممارسة العملية أزاح مفاهيم دينية شعبية تضع العمل في مرتبة تقديس لا تقل عن العبادة: "العمل عبادة". فدرجة التدين التي ارتفعت بشكل ملحوظ ترافقت مع انهيار قيم العمل، وبالذات العمل الجماعي، وعن مستوى غير مقبول من اللامبالاة تجاه الشأن العام. إن قبول حقيقة تواجد التيار الإسلامي وتقبل حقه في العمل السلمي لا يتعارض مع ضرورة مصارحته بالحقيقة المجردة، وهي أن كشف حساب مجمل تأثيره على المجتمع لم يكن ايجابياً، مهما خلصت نوايا معظم أعضاءه. فحينما تضرب انفلوانزا الطيور مصر، وحين تصبح البلاد على شفا وباء يهدد بحصد الآلاف بل والملايين، هذا في الوقت الذي تنخرط فيه قطاعات واسعة من الطبقة الوسطى في الصراع ضد أعداء وهميين مثل رسام عنصري تافه في الدانمرك، هنا يجب أن نتوقف للمراجعة.
أتذكر جملة مأثورة سمعتها في أوائل التسعينات للمستشار الراحل مأمون الهضيبي، ما معناه أن المهمة الأساسية للإخوان المسلمين هو قيادة الناس للجنة. وهو الأمر الذي أتذكر أنه أحدث ارتباكاً وسط الندوة التي كان يحاضر بها الهضيبي. لأن الحاضرين لم يكن بمقدورهم تقييم أداء الإخوان في هذا الصدد. لقد تطور خطاب الإخوان كثيراً الأمر الذي يسهل التعامل معه. ففي مواجهة اتهامهم بتوظيف الدين في السياسة قال العديد منهم، "ولماذا لا تستخدمون أنتم أيضاً الدين؟" وهي إجابة غريبة، لأنها بمثابة "ورونا شطارتكم بقى". الإجابة الأخرى التي يقدمها العديد من الإخوان هي أنه لا تغيير اجتماعي بدون استخدام القوة الجبارة للدين كدافع معنوي، سواء ضد الفساد أو ضد الإدمان أو ضد الظلم، الخ. وهنا لا يسعنا إلا أن ندعو الإخوان أن ينزلوا بأنفسهم إلى الشوارع وأماكن العمل والأسواق، لكي يقيسوا بأنفسهم التأثير الحي لدعوتهم، ولكي يلمسوا إلى أي مدى تجسدت في تفاني في الإنتاج، وفي حس بالتضامن مع الفئات المحرومة. مشكلة التيار الإسلامي لا تكمن فقط في أنه يصدر للمجتمع فهماً متشدداً للدين يوسع من دائرة المحرمات، فهذا ما فعلته الكالفينية في أوروبا وأمريكا. لكنها على الأقل ساهمت في عملية التراكم الرأسمالي التي انتشلتهم من العصور الوسطى. التيار الإسلامي يحتاج إلى ثورة في داخله تنتصر لتأويل تحرري وتقدمي للدين. فهل من بشائر لهذه الثورة؟