الرأسمالية المصرية.. هل هي طبقة منتجة للديمقراطية


سامر سليمان
2007 / 1 / 16 - 13:17     

هل يسهل نمو الرأسمالية المصرية وتوجهها نحو السياسية من التطور الديمقراطي في مصر؟ نعم ولا. الأمر مركب ويتوقف على عدة عوامل منها علاقة الرأسمالية بالطبقة البيروقراطية الحاكمة, والطبقة الوسطى الحديثة.

وصل الضباط الأحرار إلى السلطة في يوليو 1952، وبوصولهم رحل النظام الليبرالي المحدود الذي كانت مصر تعيش تحت سقفه، وبعد فترة قليلة لحقت به الرأسمالية الكبيرة التي رحلت فصائلها تباعاً، اليهود ثم الأجانب ثم الكل في عام 1961، ومن ثم أصبحت رأسمالية الدولة هي النمط السائد في الصناعة والتجارة الكبيرة. وأخيراً عادت الرأسمالية منذ عام 1974 حين تبنى نظام السادات سياسة الانفتاح الاقتصادي. ولكن الليبرالية لم تأت معها، رغم وعود السادات، ورغم تأكيدات بعض المحللين بأن الرأسمالية لابد وأن تأتي بالديمقراطية مهما طال الزمن. ولكن الزمن طال وطال.. أكثر من 30 سنة مرت الآن على عودة الرأسمالية ولازلنا ننتظر أن تقوم الرأسمالية ب"ثورة" ديمقراطية.
لماذا يُنتظر أحيانا من الرأسمالية أن تأتي بالديمقراطية. أليست الرأسمالية تنتمي إلى عالم الاقتصاد، والديمقراطية تنتمي إلى عالم السياسة؟ يُنتظر من الرأسمالية أن تأتي بالديمقراطية لأن البعض يعتقد أن الاقتصاد يخلق السياسة، وهذه الفكرة أتت وسادت في الفكر السياسي/الاجتماعي بواسطة الماركسيين. فعندما درس هؤلاء التطور الديمقراطي، أحالوا أسبابه إلى صعود البورجوازية، واعتقدوا أنه بما أن الرأسمالية قد سبقت الديمقراطية وهي النمط السائد في الإنتاج يمكن القول بأن الرأسمالية خلقت الديمقراطية البرلمانية، حتى أنهم سموها في بعض الأحيان "الديمقراطية البورجوازية". اخترقت هذه القطعية في تفسير الديمقراطية بالرأسمالية تيارات ليبرالية راديكالية، فنجدها لدى ما يسمى تبسيطاً باللبرالية الجديدة. فمن يريد أن يأتي بالديمقراطية، عليه باديء ذي بدء إرساء قواعد نظام اقتصادي رأسمالي. لماذا؟ لأن سيطرة الدولة على وسائل الإنتاج تخلق منها كائن متوحش ومستبد. انتقل التفسير الاقتصادي للديمقراطية من الماركسيين إلى الليبراليين سواء بالتأثير أو بانتقال الماركسيين أنفسهم إلى النيولبرالية. والمثال الأكثر شهرة في ذلك هو فرناندو كاردوسو، الذي يُقرأ له باعتباره من أهم الماركسيين في أمريكا اللاتينية، وهو في نفس الوقت الرئيس السابق للبرازيل الذي نفذ برنامج ليبرالي. غرابة الأمر لا يجب أن تخفى أن الماركسي الكلاسيكي واللبرالي الجديد يشتركان في نفس طريق الرؤية. فبقليل من التجاوز يمكن القول أن اللبرالية الجديدة هي مقلوب الماركسية الكلاسيكية.
هذه الرؤية المتطرفة في إحالة السياسة إلى الاقتصاد، تم تجاوزها بدرجات مختلفة سواء من التيارات التي استعانت بماكس فيبر لإعطاء أهمية فائقة للفكر في تشكيل المجتمعات (البروتستانتية تخلق الرأسمالية) سواء من التيارات اليسارية التي أعطت للسياسة وللوعي دوراً هاماً (جورج لوكاش على سبيل المثال)، سواء من التيارات التي تبنت فكرة المجالات المتعددة والمترابطة (المجال الاقتصادي، المجال السياسي، الفكري، الخ) وهو ما نجده عند بيير بورديو على سبيل المثال.
وعلى ذلك فإن الرأسمالية لا تأتي بالضرورة بالديمقراطية، فهي أحيانا تساهم فيها، لكن في أحيان أخرى توطد دعائم الاستبداد. فليس هناك طبقة ديمقراطية أو استبدادية بالطبيعة، الأمر يتوقف على سياقات كثيرة سياسية وفكرية تؤثر في تغليب خيار على أخر. والأمر شديد التعقيد كما تشير الحالة المصرية.

هل تزعزع الرأسمالية النظام الاستبدادي في مصر؟
نعم السياسية تؤثر عليها عوامل أخرى غير الاقتصاد، لكن يظل أن الاقتصاد مؤثر، حتى لو اختلفنا حول درجة تأثيره. فكيف تؤثر التغيرات التي تلحق بالاقتصاد المصري على إمكانيات التطور الديمقراطي في مصر. أهم ما يتغير في الاقتصاد المصري، هو تقلص حجم الموارد الاقتصادية الذي تسيطر عليه الدولة، ومن ثم زيادة نصيب الرأسمالية من موارد المجتمع.
هل يخلخل ذلك من قوة النظام المصري؟ نعم. الفكرة بسيطة: نظام استبدادي يقيم استبداده ليس فقط على العنف ولكن أيضاً على توزيع العطايا والمنافع لفئة تصبح هي قاعدته الاجتماعية. وبتقلص الموارد، يخسر النظام قواعد كان يضمن ولائها بالمال، مما يفتح الطريق أمام إزاحته. لكن الأمر ليس بهذه البساطة، لأن هذا النظام لا يظل يشاهد ذلك في سلبية لكي يواجه حتفه. كلا، هو يجاهد من أجل التكيف مع تراخي أحد أهم أدواته في السيطرة، لذلك فهو ارتفع بمستوى العنف تجاه المجتمع، كما ترك قاعدته الاجتماعية البيروقراطية تنقض كالمماليك أو كالانكشارية على المجتمع لكي تفرض عليه الإتاوات. كل مملوك وقدراته، من أول من يبتز رجال الأعمال إلى من يبتز الباعة الجائلين. هؤلاء لهم مصلحة أساسية في استمرار النظام.
وبهذا تصبح البيروقراطية الحاكمة في مواجهة كل فئات المجتمع، بما فيها الرأسمالية. لكن هنا أيضاً الأمر ليس بهذه البساطة، فالرأسمالية جماعات وطوائف وأفراد، وهي تتصارع مع بعضها البعض، وفي صراعها يستخدم البعض علاقاته بالنظام من أجل الحصول على موارد (النظام المصرفي) أو للحصول على مميزات لا يحصل عليها منافسوه. الكل تقريباً يحاول ممارسة ذلك، البعض ينجح تماماً والبعض ينجح أقل، والبعض الأخر يفشل فينزوي في ركن بعيد. بعبارة أخرى كثير من رجال الأعمال متورطتين مع النظام ومع الدولة، حتى ولو كانوا يقضون الليل والنهار في الدعاء عليهما. هناك حالة من التعايش إذن بين البيروقراطية والرأسمالية.
هذا بالإضافة إلى أن تفسخ وتردي الدولة، والانحطاط غير العادي للمجتمع. يضغط على الرأسمالية، التي لابد وأن تراقب بقلق زحف المهمشين والفقراء، فأصبحت القاهرة مجرد جزر منعزلة من الغنى في محيط كبير من الفقر والحرمان، يكون دور النظام هنا حماية من يملك ممن لا يملك، وبذلك يصبح الملاك أسيري البيروقراطية الحاكمة التي لو تركتهم لثورة "الرعاع" لأكلوا الأخضر واليابس. يحضرنا هنا مشهد هؤلاء "الرعاع" في بغداد عندما احتلتها القوات الأمريكية فعاثت قطعان منهم في المدينة سلباً ونهباً. تسيطر البيروقراطية على الرأسمالية بفزاعة ثورة "الرعاع". ولكن هذه الفزاعة تخفف من توتر العلاقة بين الطبقتين ولكنها لا تحلها، لأن الرأسمالية تدرك مدى التردي الذي وصلت إليه البلاد، وهذا التردي ينعكس على أشياء كثيرة منها قدرة الدولة على التوائم مع مقتضيات النمو الرأسمالي. هذا بالإضافة إلى أن تجربة أسيا أدارت رؤؤس العديد من الرأسماليين الذين دخلوا في علاقات تبادل وشراكة مع الأسيويين ولمسوا بشكل مباشر كيف يمكن لرأسمالية متخلفة أن تنمو وتتوسع عالمياً في عقود قليلة. الحلم الأسيوي يداعب الرأسمالية المصرية حينما تتفاءل. وهذه الاعتبارات تمثل ضغوط تدفع الرأسماليين للاهتمام بقضية السياسية والدولة.

تسييس الرأسمالية المصرية
اجتذبت الحركة الديمقراطية في السنة الماضية بعض الرأسماليين، ملاك لمشروعات متوسطة أو صغيرة، يعمل لديهم المئات أو العشرات. من هؤلاء محمد فريد حسانين، هاني عنان، عادل المشد. الأول انضم لكفاية ثم تركها وقرر ترشيح نفسه لرئاسة الجمهورية، وهو ينطق بخطاب ليبرالي تصل راديكاليته في بعض الأحيان للمطالبة بإسقاط مبارك، قبل أن يتراجع أخيراً ويسلم ببقاء الرئيس. الثاني انضم لكفاية وبات أحد أبرز كوادرها، الثالث شارك في تأسيسي الحملة الشعبية من أجل التغيير التي يعمل من خلالها اليسار والتي ترفع شعار الحرية الآن. هل يسقط انخراط مثل هؤلاء الثلاثة في محاولات التغيير السياسي نظرية رأس المال الجبان، الذي لا يملك إلا أن ينحني للسلطة لأنها قابضة على روحه، وتستطيع في أي لحظة تدمير مشروعه الخاص؟
الحقيقة أن الثلاث شخصيات المذكورة أعلاه تظل حالات خاصة في أوساط الرأسمالية، فالثلاثة ينتمون بدرجة أو بأخرى لجيل السبعينات الذي اصطدم بالسلطة وخرج من الجامعة إلى الشارع في أوائل السبعينات في محاولة لاقتناص بعض المطالب مثل تجذير وتصعيد المعركة مع إسرائيل، وفتح الباب أمام الحريات الديمقراطية. يحمل هذا الجيل صبغة يسارية لا تخطئها عين، كما يحمل اعتزازاً بالحركة الطلابية التي أعقبت هزيمة 1967 والتي حركت الماء السياسي الآسن الذي عاشت فيه مصر طوال المرحلة الناصرية. هناك حالة "سبعينية" داخل بعض أوساط رجال الأعمال المنتمين لهذا الجيل. أنظر لنموذج نجيب ساويرس وهو الرأسمالي رقم واحد في مصر اليوم من حيث الحجم: إنه يُعرف نفسه سياسياً بأنه يساري. وهو ليس الوحيد في ذلك، لقد رآها كاتب هذه السطور أكثر من مرة في مؤتمرات تضم رجال أعمال. بغض النظر عن الجانب الفكاهي في تعريف ساويرس لنفسه بأنه يساري، لماذا يعرف رأسمالي نفسه بذلك التيار؟ ولماذا ينشط بعض رجال الأعمال في حركة التغيير؟ لابد أن نسلم بأن المصلحة المادية، برغم محوريتها الفائقة، ليست هي الحاكم الأوحد لسلوك الرأسماليين السياسي.
بخلاف أمثلة معدودة، ذكرنا بعضها أعلاه، والتي انضمت للحركات الاحتجاجية، يظل الحزب الحاكم والبرلمان هما الساحة الأساسية لنشاط الرأسماليين السياسي. يبدو أن رجال الأعمال هم الفئة التي تشهد أعلى معدل للتسييس في المجتمع المصري الآن. ففي الوقت الذي تستمر فئات اجتماعية واسعة في الانسحاب التام من السياسة، مثل العمال والفلاحين، الخ، في ذات الوقت ينشط الرأسماليون في الالتحاق بالحزب الوطني، والاستحواذ على مناصب فيه، هذا بالإضافة بالطبع إلى خوض معارك شرسة من أجل انتزاع مقاعد في البرلمان. أنظر لانتخابات 2000 والتي أسفرت عن استحواذ 77 رجل أعمال على مقاعد في مجلس الشعب، مقابل 37 فقط عام 1995. وتسييس الرأسمالية لا يقتصر فقط على زيادة أعداد رجال الأعمال في مجلس الشعب، ولكن على احتلالهم ولأول مرة مناصب هامة فيه، مثل رئاسة لجان كلجنة التعليم (حسام بدراوي) ولجنة الخطة والموازنة (أحمد عز). هذا بالإضافة إلى تولي رجال أعمال مناصب وزارية، في حكومة نظيف الأخيرة، التي تعد بالفعل حكومة صديقة لرجال الأعمال، وهي استطاعت استماله العديد منهم. لقد لخص رجل الأعمال والعضو القيادي في حزب الغد منير فخري عبد النور المسألة حين قال أنه يعاني من شيزوفرينيا (انفصام) حيث أنه يؤيد الحكومة كرجل أعمال، ولكنه يعارضها باعتباره من قيادات حزب الوفد المعارض.
ما الجديد في إقبال رجال الأعمال على الحزب الوطني؟ ألم يكن الحزب الحاكم دائماً مفتوحاً أمامهم؟ ألم يكن الحزب الحاكم دائماً هو الجسر الذي يعبر عليه رجل الأعمال إلى جنة العلاقات الحميمة بالسلطة، وبالتالي جنة الربح؟ الجديد في الموضوع أن بعض رجال الأعمال لا يدخلون الحزب الوطني اليوم من أجل تحقيق مصالح شخصية فحسب، إنهم يريدون التأثير على السياسات العامة بغرض تكييفها لمقتضيات نمو الرأسمالية. هذا هو الجديد.. أنظر إلى أداء عبد الوهاب قوطة، (نائب بورسعيدي)، في مجلس الشعب، وأنظر إلى أداء أحمد عز، إمبراطور الحديد. نحن أمام بوادر ظهور فصيل من الرأسماليين، حديث ومتأمرك يدخل السياسة لينمي من مصلحته الشخصية، ولكن يضيف إليها مصلحة الطبقة التي ينتمي لها. وهذا الميل إن كان يعبر عن شيء فهو يعبر عن عملية "نضج" تبدأ ملامحها في الظهور الآن بعد مرور حوالي ثلاثين سنة على عودة الرأسمالية لمصر.

الرأسمالية العائدة تتغير..
عادت الرأسمالية الكبيرة إلى مصر بعد الانفتاح، ولكنها عادت بصورة مختلفة عن تلك التي رحلت بها عن مصر. عادت وهي تحمل على ظهرها ختم الجهل والهمجية. كان هناك شبه إجماع في أوساط المثقفين على أن الرأسمالية العائدة إلى مصر في السبعينات رثة، أو طفيلية كما سماها البعض. أين هؤلاء "الطفيليين" من الرأسماليين العظام مثل طلعت حرب؟ هكذا كان البعض ينعى. وأخيراً اتفق الكل، المحب للرأسمالية والكاره لها، على أن هذه الرأسمالية لا تشبه في شيء تلك الطبقة التي عرفتها مصر قبل انقلاب يوليو 1952. هكذا استراح البعض لهذا الحكم وانصرف إلى طريقه. لكننا ننتبه الآن إلى أن الرأسمالية في مصر تتغير، والتغير إذا لم يظهر على جيل الآباء فهو يظهر على الجيل الثاني والثالث.
أهم ما يتغير الآن علاقة التبعية والخضوع للبيروقراطية التي ميزت الرأسمالية العائدة إلى مصر في السبعينات. فجانب أساسي من رجال الأعمال أتى من صفوف بيروقراطية القطاع العام والدولة، حيث نجح أن يراكم هناك رأس مال استطاع به أن يبدأ العمل الخاص، وهو يحتفظ عادة بعلاقات وثيقة مع زملائه السابقين العاملين في الدولة ومن ثم نجح في "تسهيل" أعماله. ومن لم يأت من رحم البيروقراطية كان عليه أن يحتفظ بعلاقات قوية معها. فالرأسمالية العائدة في السبعينات وجدت في انتظارها دولة شديدة التضخم، تسيطر على جانب هام من الاقتصاد، لم تفلح كل شعارات السادات الليبرالية في إخفائه. وهي دولة لا يتأتى لكثير من رجال الأعمال النمو والازدهار إلا بالتجارة والعمل معها.
ولكن كما أن الرأسمالية تتغير، الدولة أيضاً تتغير، فهي لم تعد نفس الدولة التي كانت موجودة في السبعينات وأوائل الثمانينات. صحيح أنها لازالت تسيطر على قطاع كبير من الاقتصاد (غير معروف حجمه الحقيقي)، لكنها لم تعد تملك الموارد التي سيطرت عليها حتى الثمانينات، هذا في الوقت الذي نمى فيه القطاع الخاص وتوسعت نشاطاته. وصعود الرأسمالية لا يجب فقط قراءته في الحسابات القومية التي تعطى لهذه الطبقة نصيباً متزايداً من الناتج القوميـ ولكن يجب أيضاً البحث عن دعائمه في الفكر الاقتصادي والسياسي المهيمن على المستوى العالمي والذي شهد منذ السبعينات وخاصة في التسعينات هيمنة غير مسبوقة للتيار اليميني ولأيديولوجيا السوق. وبعد أن كابر النظام طوال الثمانينات أمام هذه الإيديولوجية لم يجد مفراً في التسعينات من الانحناء أمامها، وأصبحت إيديولوجيا السوق هي العقيدة الاقتصادية المعتمدة للنظام الحاكم.
على أن النظام لم يكن يبد حماسة كبيرة في تحويل خطاب السوق إلى سياسيات مطبقة. وعندما كانت المؤسسات الدولية تضغط عليه من أجل الإسراع في "التحرير" كان يماطل ويناور ويتهرب، تارة بحجة "البعد الاجتماعي" وتارة بحجة مقتضيات الأمن القومي، التي غالباً ما تعني في الحقيقة أمن النظام. وهذه المقاومة الشرسة لعملية "تحرير" الاقتصاد تنبع في الواقع من حقيقة أن برامج التحرير تلك صممها خبراء في الاقتصاد لم يراعوا تأثيرها على أمن النظم السياسية التي سوف تطبقها. فعندما تطالب نظام استبدادي بخصخصة القطاع المصرفي دون أن تشرح له كيف يمكن له بدون ذلك أن يسيطر على مفاصل الاقتصاد، فإنك تطالبه بحفر قبره بيده. هكذا أصبحت المؤسسات المالية الدولية تستعين أكثر فأكثر بخبراء في السياسة حتى يكيفوا برامج التحرير مع احتياجات النظم الاستبدادية التي ستطبقها في البقاء والتجدد.

"الباشاوات" سيأتون ب"الأفندية"
هناك حالة من التسييس تلحق بالطبقة الرأسمالية. وهذه الرأسمالية تصل إلى السياسة مسلحة بأقوى النقابات الفئوية في مصر (منظمات الأعمال)، وبموارد مادية هائلة، وبإدراك متنامي لمصالحها. هذه النزعة السياسية المتنامية للرأسمالية يتم حالياً احتوائها في مشروع رسملة الدولة والمجتمع بشكل تدريجي وبما لا يتعارض مع المصالح الكبرى للبيروقراطية العليا، وهو المشروع "الإصلاحي" الذي تصدى له جمال مبارك، وإن كان غيره قادر أيضاً على طرح نفسه كمنفذ جيد لذات المشروع. المشروع يتضمن تسوية بين البيروقراطية العليا والرأسمالية على اقتسام النفوذ والثروة، تسوية تتنازل بمقتضاها البيروقراطية عن بعض المواقع. وهي الصيغة التي أتت بحكومة نظيف التي تعد بمعنى ما، حكومة صديقة لرجال الأعمال، وهي نفس الصيغة التي دفعت مبارك للتعهد بتفعيل دور مجلس الوزراء في صياغة سياسات الدولة.
كلما مالت الرأسمالية للتسييس، كلما تطلب منها ذلك الدفع في إدماج قطاعات من الطبقة الوسطى الحديثة في المجال السياسي. أنظر كيف دفع جمال مبارك بعناصر وسطى حديثة لكي تدير الحملة الانتخابية لمبارك على "أساس علمي". عندما يدخل الباشوات إلى السياسة يحتاجون معهم أفندية. فبدون أفندية في السياسة لن يكون هناك أية باشوات. هذه هي الصيغة التي سادت في مصر شبه الليبرالية قبل 1952. ولكن الإقبال الرأسمالي على الطبقة الوسطى الحديثة يجب أن تقاومه البيروقراطية بكل قوة حتى يظل الباشوات دون أفندية، ناهيك عن أن الطبقة الوسطى الحديثة في مصر هي أكثر ناقم على حكم هذه البيروقراطية. كيف ستطيع البيروقراطية تحقيق ذلك؟ عن طريق تنمية النزعة الإسلامية لدى الطبقة الوسطى الحديثة ومن ثم إحالة ملفها إلى الإشكالية الكبرى والفزاعة العظمى في السياسة المصرية، التيار الإسلامي الفتاك. دخول الإسلام السياسي لمعادلة التحالف بين الرأسمالية والطبقة الوسطى الحديثة يعطل هذا التحالف. فمن جهة هناك قطاعات رأسمالية كبيرة تخشى التيار الإسلامي سواء لأسباب دينية أو لتفضيلها نمط أخر من الحياة، هذا بالإضافة إلى أن إدخال الإسلام السياسي في المعادلة يشق صف الطبقة الوسطى الحديثة. لا ننسى أن هذه الطبقة تحتوي على نسبة غير قليلة من المسيحيين، ونسبة غير قليلة أيضاً ممن لن يتقبلوا من الإسلام السياسي أكثر من الحجاب.
لكن إذا كانت إضافة التيار الإسلامي إلى المعادلة بوسعها أن تعطل من تحالف الرأسمالية مع الطبقة وسطى، فهي لا تستطيع أن تجهضه تماماً. الرأسمالية المسيسة والطبقة الوسطى الحديثة يحتاجان لبعضهما البعض. حتى التيار الإسلامي الذي تم إدخاله في المعادلة لكي يعطبها بدأ هو نفسه في الاستجابة للضغوط الموضوعية وبدأ أولى بشائر انقسامه على أسس اجتماعية/طبقية. هناك تيار بدأ يستجيب لمقتضيات قيام حلف رأسمالي/طبقة وسطى حديثة ببلورة فكر إسلامي جديد متأثر بالبروتستانتية، يتبنى تماماً فكر "الحرية" الاقتصادية. هذا في الوقت الذي تميل أقلية من المثقفين الإسلاميين إلى الاتجاه نحو اليسار، وغالباً ما يأتي ذلك عبر باب يسار مناهضة العولمة. بعبارة أخرى التيار الإسلامي نفسه يحتوى على بذرة انقسام بين يمين كبير وأقلية من اليسار. وإذا ما تأتى لهذه البذرة أن تنمو وإذا ما تبلور تيار إسلامي يميني متحالف مع اليمين والرأسمالية وتيار إسلامي اجتماعي يتقارب مع اليسار والطبقات الشعبية فسوف يشارك التيار الإسلامي في تدعيم الاستقطاب اليميني/اليساري، ذلك الاستقطاب الذي أتى ذلك التيار في البداية لوأده في المهد.
والأمر لا يتوقف عند الطبقة الوسطى، فعندما تدخل الرأسمالية المجال السياسي تجر ورائها قطاعات من الطبقة العاملة، شاءت أم أبت. فالرأسمالية عندما تتبلور في مشروع سياسي، يمهد ذلك الطريق لبلورة مشروع مغاير، لمن هم يعملون في الطرف الأخر في العملية الإنتاجية. والمسألة بسيطة، فكما أن الإسلام السياسي يساعد على بلورة وتغذية الطائفية المسيحية، فإن تبلور الرأسمالية في قطب سياسي لابد وأن يساعد على بلورة الطبقات العاملة في قطب سياسي أخر. ناهيك عن أن كل نمو للطبقة الرأسمالية يؤدي إلى نمو مماثل في العمال لديهم.

خاتمة
يساهم تسييس الرأسمالية في حد ذاته في تسييس فئات أخرى في المجتمع، ومن ثم فهو قد يدفع التطور الديمقراطي المصري للأمام. المشكلة كلها تكمن في أن النظام يسعى لاحتواء هذا التسييس، في إطار تحالف بيروقراطي رأسمالي، وهو المشروع الذي تصدى له جمال مبارك. إذن فمشكلة الحركة الديمقراطية مع جمال مبارك لا تكمن فقط في أنه ابن رئيس نظام استبدادي يحاول وراثة موقع أبيه في الحكم. المشكلة في المشروع في حد ذاته، لأنه مشروع يقوم على تحالف بيروقراطي رأسمالي من باستبعاد الفئات الاجتماعية الأخرى، أو بإعطائها بعض الفتات، وأنه مشروع غير سياسي يقوم أساساً على إصلاح الدولة من خلال الضخ بعناصر فنية حديثة من أجل تطويرها. وحقيقة الأمر، إنه ليس مشروعاً لإصلاح دولة، بقدر ما هو أساساً مشروع لإصلاح قطاع منها، ذلك القطاع الذي يتعامل مع الرأسماليين. أنظر إلى "الإصلاحات" التي يطبقها يوسف بطرس غالي في وزارة المالية. الوزارة تريد من الرأسماليين أن يزيدوا من مدفوعاتهم للدولة (عدم التهرب من الضرائب)، وفي مقابل ذلك ستقوم بتخفيض أسعار الضرائب على رجال الأعمال، وتأسيس جهاز ضريبي جديد، حديث، كفء مخصص للتعامل مع الممولين الكبار، أي رجال الأعمال. وهذا المنهج في "الإصلاح" يطبق على نطاق واسع الآن: خلق بعض البؤر الحديثة والفعالة، وترك جهاز الدولة المتداعي يواصل سقوطه.
لقد عملت الحركة الديمقراطية في الفترة الماضية على مناهضة توريث الحكم، وهو الشيء الجيد. ولكن الأمر الآن يتطلب أبعد من ذلك، يتطلب أن نراقب بتمعن التناقض/التحالف البيروقراطي الرأسمالي، ألا نهول أو نهون من تناقضات ذلك المعسكر. وعندما تختلف الرأسمالية مع البيروقراطية سيكون علينا أن نقيس المسألة بتأثيرها على التطور الديمقراطي في مصر. فإذا كانت بعض قطاعات الرأسمالية تضغط على البيروقراطية من أجل حرية تنظيم نفسها في منظمات مستقلة عن النظام والدولة، فليس بوسع الحركة الديمقراطية إلا أن تؤازرها، في مقابل أن تتبنى الرأسمالية برنامج أوسع للحريات. ولكنها إذا كانت تضغط على البيروقراطية من أجل التحلل من الحقوق النقابية أو الاجتماعية للعاملين بأجر لديها، فهنا لن يكون بوسع الحركة الديمقراطية إلا مناهضتها.

ملحوظة: هذا المقال منشور في مجلة "البوصلة"، العدد الثاني، أكتوبر 2005