من -الدين لله والوطن للجميع- إلى -الدين لله والدولة للجميع، الحركة الديمقراطية في مواجهة المسألة الطائفية-


سامر سليمان
2007 / 1 / 9 - 12:19     

من "الدين لله والوطن للجميع" إلى "الدين لله والدولة للجميع"
الحركة الديمقراطية في مواجهة المسألة الطائفية
يتطلب تأسيس "توافق وطني" حول إنجاز مهام التحول الديمقراطي في مصر، من ضمن ما يتطلب، التوصل إلى تسوية للقضية الطائفية، أي إعادة صياغة ما يسمى "بالوحدة الوطنية" بين المسلمين والمسيحيين، التي أرستها ثورة 1919 والتي تجاوزتها الظروف والأحداث فيما بعد.

هناك مؤشرات لا يمكن أن تخطئها عين المراقب المنصف تؤكد أن العلاقات الطائفية في مصر وصلت في السنوات الأخيرة إلى أقصى درجات التردي، ذلك التردي الذي بدأ منذ الثلاثينات، وظهر على السطح منذ السبعينات، ولا يزال يتفاقم حتى هذه اللحظة. فمن صدامات مباشرة سقط ضحيتها المئات من القتلى والجرحى، ومن حروب كلامية طائفية ساعد على ظهورها نهاية احتكار الدولة لوسائل الإعلام، وتشكل وسائط اتصال جديدة، مثل الفضائيات ومواقع الانترنت، كان لها أن تخرج المكبوت الطائفي الذي يحاول النظام أن يخفيه بمقولات جوفاء عن صلابة "الوحدة الوطنية" التي ستصمد أمام كل محاولات بث الفرقة المدسوسة من قوى خارجية تحاول من خلالها زعزعة وحدة الأمة. وللمتشكك في مدى هذا التردي في العلاقات الطائفية أن يراجع تقارير المنظمة المصرية لحقوق الإنسان عن المسألة، أو أن يتجول على شبكة الانترنت، في المواقع الإسلامية والمسيحية لكي يلمس بنفسه مستوى الخطاب الطائفي. والنزاع الطائفي في مصر لا يقتصر فقط على "مطالب قبطية" يطرحها بعض النشطين "الأقباط" تدور حول حقوق مهضومة للأقلية المسيحية، لكي يتلقفها نشطون إسلاميون فيرفضونها جملة وتفصيلاً باعتبار أن المسيحيين هنا يتمتعون بحقوق لا يحصل عليها المسلمون، ولكن الأمر يصل إلى حرب مستعرة حول قراءة تاريخ البلاد، بين من يرى أن الاستقلال الوطني لم يتحقق بعد لأن مصر لا زالت تعاني من "استعمار عربي إسلامي" بدأ في القرن السابع الميلادي، وبين من يرى أن تاريخ مصر بدأ فقط بدخول العرب المسلمين إليها وأن جماعة الأقباط ظلوا منذ ذلك التاريخ مجموعة من الخونة يشكلون شوكة في ظهر المسلمين. هذه الصياغات الأشد راديكالية وتطرفاً لا تحظى بقبول قطاعات واسعة على الجانب المسلم والمسيحي، لكن يظل التعرف عليها مهماً، لأنها استطاعت بالفعل أن تخترق الوعي الطائفي العام، حتى أن أصدائها تتردد في الخطاب الطائفي الأقل تطرفاً.
المناخ الطائفي في مصر ملوث، لا شك في هذا. ولكن هذا التلوث لم يمنع قوى سياسية تنشط حالياً من أجل التغيير السياسي، أن تحاول إعطاء انطباع ما بأنها قادرة على تجاوز الانقسامات والاحتقانات الطائفية. والأمثلة كثيرة: حينما قررت حركة كفاية اختيار شخصيتين كواجهة لها أمام الإعلام، كان جورج إسحاق، العضو السابق في حزب العمل، هو أحدي هاتين الشخصيتين، وذلك حين قدمته الحركة كمنسق عام لها. وحينما تأسس حزب الغد، تقرر أن تشغل منى مكرم عبيد منصب نائب رئيس الحزب، وهي تنتمي إلى أسرة مسيحية قدمت الكثير من الكوادر السياسية الهامة، يأتي على رأسها بالطبع مكرم عبيد. ولم يتخلف الإخوان المسلمون عن الركب، فحينما أسسوا، في يونيو الماضي، التحالف الوطني للإصلاح والتغيير تحت قيادتهم ، كان أحد أهم الوجوه التي قاموا بإبرازها ابن الرئيس الراحل للطائفة الإنجيلية الكاتب رفيق حبيب، الذي يعمل بنشاط في صفوف التيار الإسلامي منذ حوالي عشر سنوات. أما الحملة الشعبية للتغيير وحركة شباب من أجل التغيير، والتي يعمل من خلالها اليسار، فبالرغم من أنها لم تقم بإبراز أية وجوه "قبطية"، وهي على أية حال لم تقم حتى الآن بتقديم قيادات ذات حضور إعلامي، فحركتها في الشهور الماضية تكشف عن تقاطع ما مع المسألة الطائفية. فبعد أن شاركت الحملة في تنظيم مظاهرة "كنس السيدة" أمام مسجد السيدة زينب، ذهبت في المرة التي تلتها إلى حي الزيتون ذو الثقل السكاني المسيحي ونظمت مظاهرة أمام كنيسة العذراء، كان من الشعارات التي رفعت فيها "محاكمة مجرمي الكشح"، أي محاكمة رجال الشرطة الذين قاموا بتعذيب مئات من سكان قرية الكشح التي تقطنها أغلبية مسيحية، ومحاكمة السكان الذين ارتكبوا جرائم اعتداء على مسيحيين في هذه القرية في الأحداث الطائفية الشهيرة التي نشبت هناك، وهو المطلب الذي رفعته مظاهرات المسيحيين في السنوات الأخيرة.
يبدو أن الحركات السياسية التي تنشط الآن في التعبئة السياسية تدرك أو على الأقل تشعر بالفطرة أن بناء توافق وطني حول مطالب التغيير السياسي يتطلب العديد من الأشياء، من أهمها تقديم إجابة ما على المسألة الطائفية. فقوى التغيير لن تستقيم في مصر إلا إذا استطاعت جذب أفراد وجماعات من الأقلية المسيحية. ليس هذا بالأمر الغريب أو الجديد. أنظر إلى ثورة 1919 وكيف صاغت التوافق حول مطالب الاستقلال الوطني. المجتمع المصري كان منقسماً في تلك الفترة إلى فئات وجماعات اجتماعية عديدة، من ملاك زراعيين كبار وفلاحين فقراء، من أرستقراطية مدينية وأفندية، من رأسماليين وعمال، من متعلمين وأميين، من رجال ونساء، الخ. لم تؤسس ثورة 1919 التوافق الوطني على الاتحاد بين الفئات الاجتماعية السالفة الذكر, ولكنها صاغته فقط على الانقسام الطائفي بين مسلمين ومسيحيين. هكذا أصبحت أهم شعارات الثورة "يحيا الهلال مع الصليب" و"الدين لله والوطن للجميع". وهو الأمر الذي يحتاج لتفسير، لأن المسيحيين في مصر لا يشكلوا إلا حوالي 10% من السكان. فلماذا تكون مشاركتهم في "الإجماع الوطني" لها كل هذه الأهمية؟ الإجابة الأقرب للمنطق هي أن ثورة 1919 قامت على مجتمع طائفي، كان لا يزال يٌعرف المواطن في السياسة وفي الشأن العام عموماً تبعاً لانتماءاته الطائفية. ووصف مجتمع ما بأنه مجتمع طائفي لا يعني بالضرورة أن طوائفه تصارع بعضها البعض، لأن الطائفية قد تقوم على التسامح والتعاون بين الطوائف. المقصود بالطائفية هنا هو أن تكون الهوية الدينية/الطائفية هي المدخل الأساسي لمشاركة الناس في الشأن العام، وأن يكون لانتماء الفرد إلى طائفة ما علاقة مباشرة بسلوكه السياسي أو برؤية المجتمع لدوره في الحياة العامة.
تميزت السنوات التي سبقت ثورة 1919 بدرجة مرتفعة من المشاحنات الطائفية، وصلت إلى أوجها بانعقاد "المؤتمر القبطي الأول" سنة 1911 والذي تلاه انعقاد "المؤتمر المصري" الذي دعا إليه بعض المسلمين للرد على مطالب "الأقباط". كانت شكاوى الحركة "القبطية" في تلك المرحلة تدور حول حرمان المسيحيين من حقوق أساسية أهمها حرمانهم من تولي المناصب الكبرى في الدولة مثل حكام المديريات (المحافظين)، تلك المناصب التي كانوا يتولونها قبل الاحتلال البريطاني، وعدم إنفاق الدولة على مؤسساتهم الدينية، في الوقت الذي تنفق على المؤسسات الإسلامية. والحقيقة أن الحركة التي كانت رفع مطالب "الأقباط" كان يشوبها توتر وانقسام ما بين تيار يريد تكريس الطائفية السياسية بمجموعة من السياسات مثل توزيع المناصب في الدولة على الطوائف تبعاً لنسبتها في السكان، وتيار أخر يريد تجاوز الطائفية بتوزيع وظائف ومناصب الدولة تبعاً لمعيار الكفاءة، ليس إلا.
وقد تراوحت ردود الفعل "الإسلامية" في المؤتمر المصري على هذه المطالب بالحدة تارة وباللين تارة أخرى. ولكن كان هناك إجماع على رفض مطالب المؤتمر القبطي. وكان من ضمن الأطروحات أن المسيحيين في مصر يحصلون على أكثر من حقوقهم، فنسبتهم في الوظائف العامة تفوق نسبتهم في السكان، كما أن نصيبهم في ثروة البلاد أيضاً يفوق نسبتهم العددية. ولكن كان من ضمن الأطروحات أيضاً أنه لا يجوز الكلام عن توزيع طائفي للمناصب. هكذا احتوى هذا المؤتمر، هو أيضاً، على من يريد تكريس الطائفية، ومن يريد تجاوزها.

الطائفية وتأسيس الدولة الحديثة على يد محمد على
كانت هذه الاحتكاكات الطائفية التي ظهرت في أوائل القرن العشرين النتيجة الطبيعية للتطور الاقتصادي والسياسي الذي شهدته مصر منذ تأسيس الدولة الحديثة على يد محمد على باشا. لقد بدأ محمد على في تمصير مؤسسات الدولة. وكان حصول المصريين لأول مرة منذ ألاف السنين على حق دخول الجيش علامة بارزة في عملية التمصير تلك. والحقيقة أن محمد على لم يكن له أي مخطط لتمصير الدولة، لقد فعل ذلك لأسباب براجماتية بحتة. هو كان يريد فقط تمصير الدولة في مصر بقدر ما سوف توفر له الأداة الأساسية لتشكيل إمبراطورية في المنطقة. وقد قام بذلك برغم من احتقاره للمصريين باعتبارهم شعباً من الفلاحين، هو الأمر الذي من الطبيعي أن تحمله كل النخب العسكرية المحاربة التي حكمت مصر منذ الغزو الإغريقي. فالتراتبية التي تتبناها النخب العسكرية لسكان البلاد التي يحكمونها تقوم على تمجيد القتال باعتباره مقترن بالقوة والشجاعة بل قل بالرجولة، كما تقوم على تحقير الفلاحة باعتبارها مقترنة بالضعف والخنوع، بل قل بالأنوثة. وبتطور عملية تمصير الدولة بدأ المصريون، أبناء الفلاحين، في التسلل إلى مراكز قيادية فيها، وأصبحوا يتطلعون إلى مراكز أعلى وأعلى. وكان على أسرة محمد على أن تدفع ثمن قرارها بتمصير الدولة، فتمصير الدولة أدى تدريجياً إلى تمصير النظام. لنا أن تخيل كيف كان الخديوي توفيق يتفاعل نفسياً مع فكرة أن ابن الفلاح أحمد عرابي قد جرؤ على التمرد أمام حكم نخبته التركية/الشركسية. وكان هذا الحدث فارقاً في تاريخ مصر. أنظر إلى صورة عرابي التي رسمها الفنانون المصريون من خيالهم، وهو يعتلي حصان كبير أمام الخديوي توفيق الذي يبدو مسحوقاً أمامه. كأنهم أعادوا رسوم أجدادهم لصورة القديس المصري ماري جرجس وهو يسحق التنين (رمز الشر) من على حصانه، ولكن مع تغيير الشخوص.
وكان من ضمن المصريين الذين تسربوا إلى الدولة، بفعل عملية التمصير، مسيحيين. والحقيقة أن المسيحيين لم ينقطعوا عن العمل بالدولة حتى في ظل حكم الإمبراطوريات التي دانت بالإسلام، والتي مالت في بعض الأحيان إلى النزول بهم إلى أقل مراتب السلم الاجتماعي عن طريق إجراءات تمييزية تصل إلى حد إجبارهم على عدم ارتداء ملابس المسلمين وحرمانهم من ركوب الخيول. بالرغم من ذلك استعانت الإمبراطوريات المتعاقبة بهم لأنها كانت تحتاج لمصريين من أجل إدارة الجهاز البيروقراطي الذي يشتغل كوسيط بينها وبين سكان البلاد. وظل المسيحيون يلعبون دوراً أساسياً في هذا الجهاز البيروقراطي، خاصة في مجال جباية الضرائب والمكوس. فأحد الصور الشعبية الرائجة عن المسيحي هو أنه جامع الضرائب. وجامع الضرائب مكروه في كل العصور وفي كل البلاد. لماذا قررت النخب الإسلامية/العربية التي حكمت مصر الاستعانة بالمسيحيين بكثافة في جباية الضرائب؟ وما علاقة المسيحية بجباية الضرائب؟ لا يعرف كاتب هذه السطور الإجابة، ربما يكون باحثينا في التاريخ قد أجابوا على هذا السؤال.
عندما بدأت أسرة محمد على عملية تمصير الدولة كان عليها أن تواجه اتهامات من بعض الطوائف بأنها تفضل طوائف على طوائف أخرى. فطائفة المسلمين المصريين كانت محرومة لعدة ألاف من السنين من الوصول إلى المناصب القيادية في الدولة أو من الالتحاق بالمؤسسة المحورية الحاكمة وهي الجيش. وقد فتحت لها عملية التمصير الباب لكي تصعد في جهاز الدولة، ولكنها كانت تواجه العديد من النخب والطوائف الأخرى التي كانت تسود، من خبراء أجانب أوروبيين ومن نخب تركية وشركسية ومن أقليات شامية، أو كانت تواجه الأقلية المسيحية المصرية التي فتحت لها علمية التمصير الباب لكي تلتحق هي أيضاً بالدولة. هكذا ظهرت اتهامات من المسلمين المصريين للسلطة بأنها تحابي الطوائف الأخرى، كأن تحابي "النصارى"، حتى أطلق البعض على محمد على بأنه باشا النصارى. المشكلة كلها تكمن في أن فئة "النصارى" هي فئة قادمة من الدين ولا تتطابق مع التقسيمات الواقعية للأمور، فما الذي يجمع بين الفرنسي كلوت بك، مع المصري المسيحي المعلم جرجس؟ لا شيء تقريباً. وعلى الجانب الأخر، كان قطاع من المسيحيين يصر على أن المؤسسات والمناصب التي فتحت أبوابها للمصريين قد فضلت المسلمين منهم، وواربت الأبواب أمام المسيحيين. وكانوا هنا ينظرون إلى الجيش بالذات وإلى المناصب القيادية في الدولة. وهنا كانوا ينظرون للسلطة باعتبارها مسلمة، لأن من يقوم بإدارتها مسلمون. ولكن شأنها شأن فئة "النصارى" كانت فئة "المسلمين" في مصر إشكالية، لأنها تضع في نفس الخانة المسلمين المصريين أبناء الفلاحين مع النخب التركية الشركسية الحاكمة. ولكن في الحقيقة لا الباشا كان باشا النصارى، ولا السلطة كانت مسلمة. فالنخبة الأجنبية الحاكمة كانت تنظر للمصريين المسلمين من أعلى باعتبارهم طائفة خاضعة، شأنهم شأن المصريين المسيحيين، وهي تتعامل مع هذه الطوائف غالباً بمعايير احتياجات السلطة في الاستقرار والتجدد، فديانة الحاكم لمصر لا تحدد إلا جزئياً طريقة إدارته للعلاقات الطائفية. وأحد أهم الدلائل على ذلك هو سلوك المحتل البريطاني نفسه الذي فضل إقصاء المسيحيين من بعض المناصب كانوا يتولونها من قبل مثل حكام المديريات. وقد برر اللورد كرومر ذلك بأن حاكم المديرية سينفذ مهامه بنجاح إذا كان ينتمي لديانة الأغلبية.

الطائفية البيروقراطية: فتش عن الوظيفة الميري:
عندما بدأت المطالب "المسيحية" في التبلور ابتداء من أواخر القرن التاسع، مالت إلى التركيز على فتح المجال أمام المسيحيين لشغل وظائف الدولة. وهو الأمر الذي يمكن تفهمه إذا تذكرنا أن المصريين المسلمين كانوا هم أيضاً يخوضون معارك ضروس من أجل تولي الوظائف القيادية في بعض المؤسسات، خاصة الجيش، في مواجهة نخبة تركية شركسية تدعي التفوق العنصري على المصريين. الكل كان يتصارع على الالتحاق بالدولة. وإذا كان ذلك كذلك فلأن تجربة محمد على في التحديث قامت على التحديث من أعلى: جهاز دولة بيروقراطي متطور يقوم بإصلاح وتنمية مجتمع متخلف. الكل كان ينظر للدولة و"يتمرغ في ترابها". هكذا تمحورت المطالب الطائفية في مصر حول عدد الوظائف التي تحصل عليها كل طائفة. وهذه المحورية تجلت في المشاحنات الطائفية في مصر في أوائل القرن العشرين، ولا تزال مستمرة حتى هذه اللحظة. والمنطق المستخدم لا يزال هو نفس المنطق: مسيحيون يشتكون من ضعف نسبتهم العددية في مناصب الدولة، ومسلمون يردون عليهم بأنهم يحصلون على أكثر من حقوقهم، والدليل على ذلك هو سيطرتهم على نصيب من الثروة القومية يفوق نسبتهم العددية، فليتركوا الدولة إذن للمسلمين الأقل حظاً في الثروة. والحقيقة أن الإشارة لقضية توزيع الثروة هنا ليست إلا حجة في النقاش. فالمنطق الطائفي ذاته يعوق طرح قضية توزيع الثروة بشكل يفضي إلى أي تسوية لها. فالحقيقة الساطعة للعيان هي أن الأغنياء يتوزعون بين المسلمين والمسيحيين، حتى ولو افترضنا جدلاً (ليس هناك إحصائيات) أن نسبة المسيحيين في الأغنياء تفوق نسبتهم العددية، كما أن الفقراء في مصر يتوزعون بين المسلمين والمسيحيين، حتى ولو افترضنا جدلاً أن نسبة المسلمين في الفقراء أكبر من نسبتهم العددية. والحقيقة التي يجب على "المناضلين" الطائفيين في كلا الجانبين أن يدركوها هي أن قضية توزيع الدخل في مصر لا تشغلهم كثيراً، وأن كل ما يهمهم هو الحصول على وظائف كبرى في الدولة، لأن لا إعادة توزيع الدخل في مصر ولا النقاش حول العدالة الاجتماعية سيقفان على أرضية طائفية.
تظل وظائف التي توفرها الدولة المصرية هي المحور الأساسي للصراع الطائفي في مصر. لا يسير عكس ذلك الميل إلا نمو الرأسمالية ونمو الطبقات الوسطى الحديثة المستقلة عن الدولة والتي لا تريد العمل بها، لأنها تفضل العمل الحر. هذه الطبقات مشكلتها مع الدولة مختلفة، هي تنتظر من الدولة خدمات ووظائف على أساسها تحدد موقفها من هذه الدولة، معها أم ضدها. هكذا يتسرب مبدأ الكفاءة في النقاش الطائفي الدائر حول مناصب الدولة. فديانة الشخص ليس من المفترض أن يكون لها أي علاقة بتوليه المناصب العامة. هذا ما دفع به مسلمون ومسيحيون عندما أستعر الجدل الطائفي قبل ثورة 1919. ولكن الثورة ارتفعت بفكرة المواطنة إلى السماء بفعل الزخم الوطني ضد الاحتلال، وبفضل الخدمة الجليلة التي أداها اللورد كرومر إلى الحركة الوطنية، دون أن يدري، حين أجهض أحلام طالبي الوظائف من المسيحيين في أن تلعب ديانة المحتل المسيحية دوراً في فتح الطرق أمامهم لتولي المناصب. هكذا خمدت أصواتهم والتحق معظم المسيحيين بالحركة الوطنية الديمقراطية وشاركوا في بناء حزب الوفد.
لكن حزب الوفد لم يستطع حل المشكلة الطائفية حلاً جذرياً. فالشعارات التي قامت عليها "الوحدة الوطنية" كانت غامضة. فشعار "الدين لله والوطن للجميع" لم يحدد ما هو المقصود بهذا الوطن، هل هو الأرض، أم الزرع، أم الوظائف في الدولة، أم حق المصري في الشعور بالكرامة بغض النظر عن الديانة. كان الشعار جميلاً وملهماً، ولكن لم تكن وراءه مذكرات تفسيرية تقوم بتعريف هذا الوطن. لماذا؟ ربما لأن مهام تعريف الوطن ستثير البلبلة، لأنها ستثير مسألة عدالة توزيع الثروة والحقوق في هذا البلد الذي ابتليت أغلبية شعبه بأقصى صنوف الاستغلال طوال ألاف السنين. لأن إثارة مسألة توزيع الثروة بين المسلمين والمسيحيين بغرض حلها سيؤدي حتما إلى الاصطدام بالحقيقة التي يتهرب منها زعماء الطوائف وهي أن عنصري الأمة منقسمين داخلهم إلى فئات وطبقات وجماعات، وأن مصالحهم ليست متحدة، وأنه لكي يحقق هؤلاء مصالحهم يجب أن يخرجوا من الوعي الطائفي الضيق الذي يحول دون تكوين رؤية واضحة لمصالحهم وللفئات التي يمكن أن يتحالفوا معها. كان في إثارة هذه المسائل هدم شامل "للوحدة الوطنية" التي قامت على فكرة "عنصري الأمة".
لقد فشلت ثورة 1919 في تأسيس وحدة وطنية اجتماعية، ونجحت فقط في إرساء دعائم وحدة وطنية دينية، قامت على فكرة انقسام الشعب إلى عنصرين: المسلمون والأقباط. وهذين العنصرين يجب أن يعيشا في تسامح وإخاء. ولكن ما لبثت هذه الوحدة أن تهاوت في الثلاثينات. وكان من علامات ذلك لظهور ونمو قوى سياسية تلعب على الأوتار الطائفية من أجل التعبئة السياسية. تراجعت الليبرالية أمام زحف الإخوان المسلمين ومصر الفتاة الذين أمسكوا بالمعاول لهدم "الوحدة الوطنية" التي أقامها حزب الوفد، لأن طريقتهم في التجنيد السياسي تقوم ليس فقط على المشاعر الطائفية ولكن على تأجيج هذه المشاعر. وبخروج مكرم عبيد ومن وراءه العديد من المسيحيين من حزب الوفد، أصبحت طاقات المسيحيين السياسية موجهة في اتجاهات أكثر راديكالية، سواء في اليمين الديني (جماعة الأمة القبطية)، أو أقصى اليسار في التنظيمات الشيوعية. وكلاهما هزم أمام الضباط الأحرار فيما بعد. لم تستطع جماعة الأمة القبطية إنجاز أي شيء بحكم راديكاليتها الطائفية، كما لم تستطع الأحزاب الشيوعية أن تتجاوز الحل الوفدي للمسألة الطائفية والذي صاغه شعار "الدين لله والوطن للجميع". فالشيوعيون لجأوا إلى حل عملي بحت للمشكلة الطائفية، هو عدم الاعتراف بوجودها على الإطلاق وتجاوزها إلي الشعور بالانتماء الحر لما يمسى بالإنسانية، وبالمساواة تامة بين الرفاق في التنظيمات بغض النظر عن ديانتهم. هكذا اغترفت الحركة الشيوعية المصرية من الأقليات اليهودية والمسيحية التي كانت تعاني من أفول الوحدة الوطنية الوفدية وصعود التيارات الأصولية والفاشية، وفتحت لهم الطريق للمساهمة في بناء المشروع السياسي الاشتراكي. ولكن هذا الحل العملي بدأ في التصدع بعد تأسيس دولة إسرائيل التي أجبرت الأحزاب الشيوعية على الخضوع لابتزاز الحركات الأصولية والقومية التي أرجمتها بالحجارة لأن الكثير من قياداتها كانت تدين باليهودية. وقد تخلى العديد من اليهود الشيوعيين عن مناصبهم القيادية عن طيب خاطر، وتخلى البعض الأخر عن ديانته لكي يظل يعمل بنشاط في الحركة، ولكن هذا لم ينقذ الأحزاب الشيوعية من تهمة العمالة التي رفعتها في مواجهتهم التيارات القومية/الإسلامية. لكن بالرغم من ذلك، يظل أن الحركة اليسارية نجحت في تجاوز الطائفية في داخلها إلى حد كبير، لكنها لم تقدم للمجتمع أية برنامج سياسي واضح يتجاوز الحل الذي صاغته ثورة 1919 للمشكلة الطائفية. فالانتماء الإنساني الحر الذي تجاوزت به الانقسامات الطائفية بين أعضاءها لم تستطع أن تصدره للمجتمع.

الناصرية تكرس الطائفية
وصل الضباط الأحرار إلى السلطة عام 1952 ووجدوا في انتظارهم ملفاً طائفياً حساسا ًينتظر الحل. ولكن، وكما هو معروف، لم يصل هؤلاء الضباط إلى السلطة بأي برنامج سياسي. وهكذا قام هؤلاء الضباط بإدارة المسألة الطائفية في حدود قدراتهم، وغلب على هذه الإدارة الطابع العملي الأمني المحض. لقد نبذ نظام يوليو تدريجياً شعار "الدين لله والوطن للجميع" بحكم لجوءه المتزايد للدين الإسلامي لتدعيم شرعيته، ولم يقدم أية صياغة تتجاوز الطرح الوفدي. ولكنه كان مضطراً لمواجهة مشكلة حادة تتمثل في كونه نظام قادم من الجيش، ذلك الجيش التي كانت كل قياداته من غير المسيحيين. وبما أن الجيش المصري كان يشكل العمود الفقري للنخبة الحاكمة، فقد شعر معظم المسيحيين أنه قد تم إقصائهم من النظام السياسي. ولحل تلك المعضلة لجأ عبد الناصر إلى تعيين عشرة من الأعضاء بمجلس الشعب يختارهم من بين المسيحيين، كما لجأ إلى تعيين بعض المسئولين من التكنوقراط المسيحيين في وظائفه الكبيرة، بالإضافة إلى تحديد نسبة للمسيحيين في الكليات العسكرية وفي كلية الشرطة. وبهذا يكون النظام الناصري قد أرسي دعائم الطائفية السياسية غير الدستورية التي لا نزال نعيش فيها حتى الآن والتي تصل عبثيتها في توزيع المناصب على الطوائف إلى درجة تخصيص بعض الوزارات للمسيحيين مثل وزارة الهجرة أو وزارة البيئة.
أرسى عبد الناصر دعائم الدولة الطائفية من حيث لا يدري. فحزب الوفد كان يصوغ الوحدة الوطنية من خلال تشكيلات الحزب القاعدية والقيادية، أما نظام عبد الناصر، فهو لم يمتلك أي حزب حقيقي يستطيع أن ينجز به هذه المهمة، لذلك كان يلجأ إلى التعيين الفوقي لمسيحيين في بعض المناصب القيادية غير السيادية. وكان هذا الاختيار يتم عادة بقبول ومباركة ما من الكنيسة. وبهذا قوى النظام من شوكة تلك المؤسسة، خاصة أنه كان قد أحال إلى التقاعد النخب الليبرالية المسيحية التي كانت توازن من نفوذ الكنيسة في النصف الأول من القرن العشرين.
تعامل نظام يوليو مع المسيحيين كطائفة، والحق أنه كان ولازال يتعامل مع الفئات الاجتماعية عموماً بوصفها طوائف يجب ضمان تأييدها بإعطاء "ممثليها" مناصب كبرى في الدولة. إنه نظام للطوائف أو كوربوراتي بتعبير العلوم السياسية. هذا النظام الكورباراتي يقوم على توحيد كل جماعة اجتماعية في منظمة واحدة "تمثلها" وتكون خاضعة لسيطرة الدولة. فالعمال يجب أن ينضووا في الاتحاد العام لنقابات عمال مصر، والمهندسين في نقابة المهندسين، والأطباء في نقابة الأطباء، الخ. وفي مقابل انضواءهم في هذه النقابات التي تسيطر عليها الدولة بدرجة أو بأخرى، يعطي النظام لبعضهم مناصب في الدولة: فللعمال وزارة العمل، وللمهندسين وزارة الإسكان، وللأطباء وزارة الصحة، الخ. وهكذا فمن الطبيعي أن يكون للمسيحيين مناصب محددة. الدولة الطائفية هي إذن أحد أوجه الدولة الكوربوراتية الناصرية.
يمكن القول بكل أمانة وإنصاف أن الصيغة التي طرحتها ثورة يوليو "للوحدة الوطنية" لم تنجح أبداً في الوصول بالعلاقات الطائفية في مصر لذلك المستوى المبهر من التسامح الذي وصلت إليه في ثورة 1919 وما بعدها. لقد استمر التسامح الطائفي فترة في العهد الناصري بقوة الدفع التي أطلقتها ثورة 1919 وتجربة حزب الوفد. ولكن ما لبثت تلك الذكريات أن توارت وتركت الساحة لطائفية متوحشة وبغيضة لا زالت تنهش في عظام المجتمع المصري، طائفية زادت في عهد السادات ومبارك. ولم يأخذ نظامي هذين الرئيسين أية إجراءات عملية من أجل القضاء عليها أو على الأقل احتواءها، ناهيك عن قيام السلطة باستخدامها في بعض الأحيان، خاصة نظام الرئيس السادات الذي وصل به الأمر إلى محاولة كسب بعض الشعبية المفقودة بتأكيده على أنه "رئيس مسلم لدولة مسلمة"، وهو بذلك قد أعلن بكل وضوح أنه ليس رئيساً لكل المصريين. ولا غرابة إذن في أن أغلبية للمسيحيين في مصر لم تنظر أبداً لرؤساء نظام يوليو باعتبارهم زعماء للأمة أو زعماء لهم، وهي الزعامة التي أعطوها بإخلاص وحب لقيادات الحركة الوطنية سعد زغلول ومصطفي النحاس.

ما العمل؟ "الدين لله والدولة للجميع"
ما أشبه اليوم بالأمس. الحالة الطائفية المحتقنة في مصر اليوم تشبه إلى حد كبير تلك الحالة التي سادت في أوائل القرن العشرين، قبل اندلاع ثورة 1919. والمطالب "القبطية" الآن هي تقريباً نفس المطالب المرفوعة قبل 1919. ماذا يحمل الغد؟ هل تأتي ثورة ديمقراطية على الحكم الاستبدادي لكي تجتذب جموع من المسيحيين؟ وكيف لها أن تنجز هذه المهمة؟ وكيف لها أن تتجاوز الحل العملي غير الشامل الذي أتت به ثورة 1919؟
مصر تشهد اليوم البوادر الأولي لتيار ديمقراطي يريد إنجاز عملية بناء الدولة الوطنية الديمقراطية، تلك العملية التي انطلقت في 1919 ولكنها لم تكتمل حتى الآن. فلنفترض جدلاً أن هذه الحركة نمت ووصلت إلى الزخم الذي وصلت إليه الحركة الوطنية ضد الاستعمار، كيف ستحل تلك الحركة موضوع مشاركة المسيحيين بها؟ لم يعد شعار "الدين لله والوطن للجميع" صالحاً لذلك. فبالرغم من أن هذا الشعار يثير الحنين لماضي جميل سادت فيه قيم التسامح والحب بين أصحاب الديانات المختلفة، فإنه لا يمكن أن يقيم أية "وحدة وطنية" لأن هذا الشعار قد تمت تجربته بالفعل في 1919 ولم يثبت صلاحية تتجاوز سنوات محدودة. لقد كان موضوع الخلاف الطائفي المسيحي/الإسلامي قبل 1919 يتعلق بالدولة المصرية، مدى تمثيلها لكل المصريين ومدى علاقتها بالدين الإسلامي. ولكن الحركة الوطنية وفرت على نفسها مخاطر الشقاق والفرقة بأن أجلت حسم مسألة الدولة الوطنية الديمقراطية لأجيال مقبلة، وها نحن نتلقفها من جديد. ولكي ننجز ما تهربوا هم من إنجازه علينا باديء ذي بدء أن نتكلم عن الدولة وليس عن "الوطن". فالحديث عن الوطن يساوي التهرب من مواجهة المشكلة الطائفية وتركها لأجيال مقبلة لكي تصلى من نارها، كما اصطلينا نحن بها.
الدولة المصرية تعاني من تناقض مرير، فدستورها يقول أن الدولة تدين بالإسلام، ولكنه في نفس الوقت يؤكد أنها دولة كل المصريين. كيف لغير المسلمين أن يشعروا أن هذه الدولة دولتهم في الوقت الذي ترفع فيه هذه الدولة ديانة مغايرة لديانتهم، بل قل منافسة لها في تصور البعض؟ مستحيل. الحل الوحيد لتلطيف هذا التناقض، هو أن تعطي هذه الدولة الإسلامية لغير المسلمين تمثيلاُ ما بها يقنعهم بأن إسلامية الدولة لا تعني أن أبوابها مغلقة أمامهم. هذا ما أدركه العديد من المثقفين والسياسيين العلمانيين مثل محمود عزمي وتوفيق دوس الذين اشتركوا في المناقشات التي مهدت لدستور 1923. فالتمثيل الطائفي هو الوجه الأخر لعملة الدولة الطائفية. وبالرغم من إيمانهما المطلق بالدولة العلمانية غير الطائفية، فقد انتهى عزمي ودوس إلى الدفاع عن مبدأ التمثيل الطائفي. فقال عزمي مثلاً أنه "لابد من تمثيل الأقليات ما دام الدستور لا يهدم العتيق من المبادئ الاجتماعية التي تبقي الهوة بين الطوائف [يقصد النص على ديانة للدولة]، ولا قول بأكثرية وأقليات إذا قامت الوحدة على أساس من التشريع المدني، وإلى أن يقوم الأساس، يجب احترام الواقع، وحذار من إهمال اعتباراته." مما كان يحذر عزمي؟ من خطر الصدامات الطائفية التي وصلت إلى ذبح مصريين لإخوانهم في عز النهار بداية من السبعينات؟ هذه البصيرة التي امتلكها محمود عزمي تجبرنا على الاستماع إليه حينما يؤكد أنه لا يمكن قبول إسلامية الدولة المصرية بدون إعطاء تمثيل ما للأقليات. إما أن نقبل بتجرع الطائفية حتى نهايتها، إما أن نقيم دولة مدنية من الألف للياء، لا تدعي الحكم باسم الدين، ولكن تستمد شرعيتها من رضاء الناس عنها. لقد اختار عزمي تجرع الطائفية حتى الثمالة بسبب خيبة أمله في النخبة المصرية، التي انتقدها بقوله: "الواقع المصري هو أن جماعة من خير مفكري البلد لم يستطع أحدهم أن يعارض في لجنة الدستور اقتراح النص على دين رسمي للدولة، برغم أنهم لا يطمئنون إلى هذا الاقتراح" (البشري، ص 215).
وإذا كان عزمي قد اختار تحمل النتائج الطبيعية المريرة للطائفية والأصولية التي لم يشارك هو في تأسيسها، فإننا اليوم وبعد أن اكتوينا طوال العقود الماضية بنتائج عدم حسم النخبة المصرية لفصل الدين عن الدولة، ليس بوسعنا إلا أن نحسم أمرنا بكل وضوح: مع الدولة المدنية حتى النهاية. إما ذلك وإما قبول تمثيل الطوائف والأقليات كما انتهى محمود عزمي وتوفيق دوس. والحقيقة أنه فيما يخص المسألة الطائفية الخيارات هي كالأتي:
1) دولة طائفية تدين بالإسلام، لا تنص وثائقها على الاعتراف بتمثيل للأقليات، ولكنها تمارس ذلك عملياً، وهي الدولة القائمة بالفعل.
2) دولة طائفية تدين بالإسلام، تنص وثائقها على الاضطهاد المنظم للأقليات، يصل إلى حد فرض الجزية عليهم وإقصائهم من الجيش ومن المناصب العامة.
3) دولة طائفية تدين بالإسلام، تعطي حقوق طائفية للأقليات.
4) دولة مدنية تتعامل مع المواطنين بغض النظر عن ديانتهم، لذلك فهي ليست مضطرة إلي إعطاء أية امتيازات لأبناء دين معين، أغلبية كانوا أم أقلية.

نحن في الدولة رقم 1، تلك الدولة المحتقنة والتي زكمت رائحتها الطائفية الأنوف، وبالرغم من ذلك هناك من لا يزال يتمسك بها، من الجانب المسلم والمسيحي. هناك قوى تريد الدفع بالدولة رقم 2، وهي الجماعات الإسلامية الراديكالية وبدرجة أقل الإخوان المسلمين. لكن تظل فرصة هذا الخيار ضئيلة، وقد بدأ حاملوه بالفعل في القيام بمراجعات له، بعد أن مالوا إلى الواقعية بسبب الهزائم التي تعرضوا لها في مواجهة الدولة، وبسبب المواجهة الشديدة التي يلاقونها من جانب مثقفين وسياسيين عندما يتقدمون بأطروحات تدفع في قيام دولة الاضطهاد المنظم. أنظر إلى رد الفعل القوي ضد تصريحات المرشد العام السابق للإخوان المسلمين بوجوب إقصاء المسيحيين من الجيش. إذا كان للتيار الإسلامي أن يتطور، فلابد وأن يصل إلى تبني نموذج 3 للدولة الأصولية، وهو النموذج السائد في إيران، الذي يعطي تمثيلاً سياسياً للأقليات. وهناك بعض المؤشرات تقول أنه يميل إلى التفكير الجدي في ذلك، منها تأكيد الإخوان على حق المسيحيين في تكوين أحزاب خاصة بهم. تلك التحية التي تلقفها وكيل حزب مسيحي تحت التأسيس، ممدوح نخلة، لكي يرد بأحسن منها ويوافق هو الأخر على حق الإخوان المسلمين في تشكيل حزب سياسي.
النموذج رقم 4 للدولة المدنية هو ذلك الذي تدافع عنه القوى الديمقراطية، اليسارية والليبرالية، وهو النموذج الوحيد الذي يقدم حلاً شاملاً وجذرياً للقضية الطائفية. ليس بوسع هذه القوى إلا مناهضة النماذج المتنوعة للدولة الطائفية، الموجود منها بالفعل، أو النماذج المطورة والمحسنة منها والتي ستصوغها بعض القوى السياسية. ومن المرجح أن يكون النموذج الثالث هو التحدي الأكبر الذي يواجه الطرح الديمقراطي للدولة المدنية. فالنموذج الثاني السائد حالياً لا يحظى بأي تأييد إيجابي، هو فقط يحصل على توافق ما من العديد من القوى لأن النظام الحاكم قد أجبرها على هذا الخيار باستخدامه فزاعة الوقوع في نظام أكثر وطأة. فالنظام يدفع التيارات المسيحية الطائفية إلى القبول بالأمر الواقع بدعوى أن البديل هو نموذج الدولة الإسلامية التي سوف تمارس الاضطهاد المنظم عليهم. وهو يدفع التيارات الإسلامية إلى القبول بالأمر الواقع بدعوى أن أي تعرض لعلاقة الدين بالدولة سيؤدي إلى ضغوط خارجية، يلعب "أقباط المهجر" فيها دور مخلب القط، ستحاول المساس بالمادة الثانية من الدستور والتي تنص على الديانة الإسلامية للدولة. الكل يخالف من الكل، وبهذا تصبح الفكرة "المبدعة" التي تستطيع بها تيارات أصولية أن تقيم تحالفاً بين الفرقاء تناهض به النظام القائم ونموذجه في الدولة، هو إعطاء كل ذي حق حقه: للإسلاميين حق توثيق الروابط بين الدين والمؤسسات الدينية من جانب والدولة من جانب أخر، وللمسيحيين حق التمثيل النسبي في الدولة الإسلامية وحق إدارة شئونهم بدون تدخل من الدولة. وبهذا تكتمل دعائم الدولة الطائفية "المتوازنة" التي سيدعي البعض أنها ستحقق قدراً ما من الانفراج في العلاقات الطائفية المتردية. ولاشك أن تكريس الطائفية في الدولة لن يؤدي إلا إلى تكريس الطائفية في المجتمع. وإذا استطاع زخم الحركة الديمقراطية التي نحلم بها أن يلطف من المشاعر الطائفية العدائية، وأن يقيم نوعاً من "الوحدة الوطنية" فإن التربة ستكون صالحة لانفجار المشكلة من جديد، لأن الطائفية المتسامحة والمسالمة، يمكن لها أن تتحول في مرحلة مقبلة إلى طائفية عدوانية شرسة. وهذا ما حدث في مصر وهذا ما حدث في لبنان. بالإضافة إلي أن هذا النموذج لا يؤدي إلى أي نوع من التحرر، لأن من سيتحرر من سيطرة وقهر الطوائف الأخرى سيقع تحت سيطرة أمراء طائفته هو، الذين سيكون موكولاً تمثيل طوائفهم، ناهيك عن الصراعات الداخلية التي ستنشب داخل كل طائفة من أجل الفوز بحق تمثيلها أمام الدولة.
سيناريو الدولة الطائفية لابد وأن يؤخذ بجدية. لقد نجحت الحركة الوطنية المصرية في العشرينات في الانتصار على مطالب تمثيل الأقليات سياسياً، على الرغم من هزيمتها أمام مطالب التأكيد على ديانة رسمية للدولة. ولكن الظروف الموضوعية الآن أكثر ملائمة لطرح التمثيل الطائفي. فالتيار الإسلامي هو أكثر التيارات حضوراً في النخبة السياسية المصرية، وهو منظم في جماعات وتنظيمات من أهمها جماعة الإخوان المسلمين، بخلاف الوضع سنة 1919 وما بعدها حينما كانت الليبرالية تياراً جارفاً في الساحة السياسية. والظرف الآن يشير إلى تبلور التيارات الأصولية/الطائفية المسيحية، فأصبح لها تنظيم جيد وحضور نشيط في وسائل الإعلام الموازية مثل بعض القنوات الفضائية ومواقع على شبكة الانترنت.
معركتنا اليوم ضد تكريس الطائفية بإعطاء الأقليات حق التمثيل السياسي ستكون أقسى وأشد من تلك التي خاضها أجدادنا في العشرينات من القرن الماضي. لأن فشل الحركة الوطنية الليبرالية في تأسيسي نظام سياسي مناهض للطائفية لابد وأن يقوي من حجج أولئك الذين سيحاولون الإدعاء بأن حقوق الأقليات يحفظها ويحميها التمثيل الطائفي السياسي لهم، وأنهم لن يلدغوا من نفس الجحر مرتين. لقد راهن العديد من كوادر الحركة الوطنية على تطور المجتمع من أجل تجاوز الطائفية. أنظر إلى ما قاله عبد الحميد بدوي سنة 1922 في معرض نقده للتمثيل السياسي الطائفي: "إن الناس تحيا بالتفاهم والتسامح، وكان الخلاف دائماً موقفاً استثنائياً. وإذا كانت الأقلية تذكر أحداث الماضي البعيد، فقد عانت الأكثرية من حكومة الاستبداد فيه بقدر ما عانت الأقلية. والفارق الديني يضعف في مصر الآن، ولن يطول الزمن حتى يمحى من علاقاتنا الاجتماعية وتعفي تماماً جميع آثاره" (البشري، ص 210). لقد راهنت الحركة الوطنية على المجتمع لكي يهزم الطائفية، ولكن تطور الأمور في مصر منذ الثلاثينات عاد بالمجتمع خطوات إلى الوراء. والدرس الذي نخرج به من هذه التجربة هو أن الفكر الحداثي الذي يراهن على التطور التلقائي للمجتمع بفعل التحولات الاقتصادية والاجتماعية هو فكر مغرق في التفاؤل غير المبرر. فالرأسمالية التي تميل إلى تحطيم الأطر القبلية والطائفية الضيقة من أجل تسييد مبدأ التراكم الرأسمالي والربح، تنزع في الكثير من الأحيان إلى التوائم مع الطائفية والأصولية بل وتقوم تأجيجها. والحالة المصرية خير شاهد على ذلك. هل ننسى أن هناك قوى اقتصادية تؤسس تنافسيتها في الأسواق على استخدام الرموز والمشاعر الدينية؟ هل ننسى تجربة البنوك الإسلامية وشركات توظيف الأموال الإسلامية؟
وإذا كان تطور المجتمع وظهور فئات اجتماعية جديدة غير ميالة للطائفية بحكم موقعها لا يضمن خروج المجتمع من الطائفية، فإنه على الأقل يوفر التربة الصالحة لتأسيس مشروع سياسي تحرري ديمقراطي. قلنا فيما سبق أن أحد العوامل التي أدت إلى تكريس الطائفية في مصر كانت قضاء النظام الناصري على النخبة الليبرالية، بما فيها من مسيحيين، الأمر الذي رفع إلى السماء من نفوذ الكنيسة، وأجلس على عرش زعامة الطائفة المسيحية البابا شنودة الثالث باعتباره "الممثل الشرعي والوحيد للمسيحيين". لذلك فإن أفول نظام ثورة يوليو وتداعي سيطرة الدولة على المجتمع، ومن ثم بزوغ فئات جديدة من الطبقات الوسطى والعاملة متحرر من سيطرة النظام لابد وأن تعطي النخب المسيحية الجديدة التربة الصالحة لكي توازن من نفوذ الكنيسة التي مارست سيطرة شبه مطلقة على "الطائفة المسيحية" منذ الستينات، تلك السيطرة التي شجعها النظام إلى أقصى مدى، باعتباره نظام كوربوراتي طائفي لا تستقيم سيطرته على المجتمع إلا من خلال مؤسسات قوية تؤطر وتحتوي الطوائف. والمؤشرات عديدة اليوم على أنه مثلما تتداعي قدرة المنظمات الكوربوراتية (كمنظمات الأعمال) على احتواء الفئات الاجتماعية المنضوية فيها، فإن قدرة الكنيسة على احتواء المسيحيين سياسياً بدأت في التراخي. فمن أصوات ترفض قرار الكنيسة الأرثوذكسية بتأييد ترشح حسني مبارك لفترة رئاسية جديدة، ومن أصوات أخرى ترفض بكل وضوح الاعتراف بتمثيل الكنيسة للأقباط سياسياً سواء في المسائل الداخلية أو في السياسة الخارجية مثل الموقف من العلاقات مع إسرائيل. والحق يقال أن النظام ليس الطرف الوحيد الذي يريد منح الكنيسة حق التمثيل السياسي للمسيحيين، بل أن هناك قوى سياسية أيضاً (خاصة التيار القومي بل وحتى بعض اليساريين!) تتعامل مع الموضوع بشكل ذرائعي، فهي تقبل بتمثيل الكنيسة للمسيحيين سياسياً إذا اتفق موقفها مع مواقفها، مثلما هو الحال في قضية التطبيع مع إسرائيل.
نحن الآن في مفترق طرق، لم يطرح النظام السياسي الحالي أية تصور أو أي مشروع لتجاوز الطائفية التي تنخر عظام الدولة والمجتمع في مصر، بل هو لا يعترف أساساً بوجود أية مشكلة، ويؤكد أن الحوادث الطائفية عارضة ودخيلة على المجتمع المصري، بل وربما تكون من فعل أيادي خارجية تريد شق صف الأمة. والساحة بذلك تكون مفتوحة تماماً أمام مشروعات سياسية جديدة للتعامل مع الطائفية، أما بالاعتراف بها من أجل تكريسها من خلال دستور وقوانين ومؤسسات، أو الاعتراف بها من أجل تجاوزها أيضاً من خلال دستور وقوانين ومؤسسات. لذلك فمن مهام الحركة الديمقراطية الآن صياغة تصور عام لدولة مدنية ديمقراطية تكون أحد بنوده معالجة المسألة الطائفية. والمعضلة الأساسية أمام هذا الطرح ستكون: كيف يمكن تأسيس دولة ديمقراطية غير طائفية في مجتمع طائفي؟ فأي طرح ديمقراطي يتجاهل بخفة الطائفية الضاربة في المجتمع المصري لن يكون أكثر من طرحاً طوباوياً لن يقبله حتى أكثر المتضررين من الطائفية السائدة. الطرح المدني الديمقراطي للدولة في مصر يجب أن يقوم على الاعتراف بتغلغل الطائفية المتسامحة أو العدوانية في المجتمع، وبأن هذا التغلغل يفرض على القوى الديمقراطية خوض معركة داخل المجتمع والدولة ضد الطائفية. وهذه المعركة تتطلب كسب حلفاء من المعسكر الطائفي ذاته. وهنا قد يكون من الهام التفرقة بين الطائفية العدوانية والطائفية "المتسامحة". النوع الأول يحتاج من الحركة الوطنية الديمقراطية أن تنازلها وأن تنتصر عليها، في كل الساحات والفعاليات. النوع الثاني يحتاج من الحركة إلى حوار ونقد مستمر (لا يصل إلى القطيعة) لبيان حدود قدراته في حل ما ينجم من مشاكل ومصائب جراء الطائفية. حينما نتحدث عن نوعين من الطائفية، لا نقصد أشخاص بعينها، فذوي النزعات الطائفية يميلون أحياناً إلى التسامح وأحيان أخرى للعدوانية تبعاً للمزاج الطائفي العام في المجتمع، وتبعاً لتطورهم الشخصي. نحن نتحدث عن مواجهة ميول: للميل العدواني النزال وللميل المتسامح الحوار النقدي. المهم في كل الأحوال ألا يكون تعامل الحركة الديمقراطية مع المسألة الطائفية تطهرياً، بمعنى أن تنأى بنفسها عن الطائفية وعن تلوث أياديها القادمة من العالم الحديث غير الطائفي بواسطة الانعزال عن المجتمع الطائفي، أي عن معظم المجتمع، خوفاً من الخسارة. فالقوى التي ستخوض معارك ضد الطائفية ستخسر في بعض الأحيان معارك، بل وستخسر كوادر ستقوم الطائفية بشفطها من الحركة. لا مشكلة في هذا، المشكلة تظهر حينما تخسر القوى الديمقراطية كل أو جل المعارك، أو تخسر كوادر كثيرة تلتحق بالطائفية. المهم أن تخوض الحركة الديمقراطية المعركة تلو الأخرى، ولا تؤجلها إلى مستقبل وردي سيقوم فيه الشعب لكي يدوس بأقدامه على كل القيود، ومنها الطائفية.

خاتمة
هناك علاقة جدلية بين تطور الحركة الديمقراطية وحل المشكلة الطائفية. فكل تجاوز للطائفية يدفع بالحركة الديمقراطية للأمام، وكل مكسب تقتنصه القوى الديمقراطية يساعد في التخفيف من وطأة الطائفية. فلا ديمقراطية بدون مشاركة أقليات، ولا انعتاق للأقليات إلا بالاشتراك في المعركة الديمقراطية لكل المجتمع.
علنا نشرع فوراً في نقاش سياسي حول موقف الحركة الديمقراطية من المسألة الطائفية. ربما ينتهي ذلك النقاش إلى كتيب يتوافق عليه المئات وربما الآلاف من الديمقراطيين، كتيب يشرح مثالب الطائفية، يدافع عن الدولة الديمقراطية العلمانية، ويبين جدواها لكل المجتمع، بكل أفراده سواء انتموا دينياً للإسلام، أو للمسيحية، أو للتشيع، أو لليهودية أو لأي شيء. ثم ينتقل هذا الكتيب إلى طرح تصور دستوري يترجم برنامج الحركة الديمقراطية في المسألة الطائفية. وبهذا الكتيب نستطيع الدخول في نقاش جدي مع القوى الطائفية، ونستطيع أن نواجه المجتمع بهذا البرنامج المتكامل. ربما يتسنى لنا إقناع بعضهم أن تجاوز الطائفية السياسية والمجتمعية سيفتح للمصريين أفاق غير محدودة من التطور الإنساني. وسيتمثل التجسيد العملي لذلك البرنامج في الجماعة الديمقراطية نفسها، بتسامحها وبإنسانيتها وباحترامها لكل إنسان بعض النظر عن عقيدته. فلنتعاهد على أن نصيب المجتمع "بعدوى" انتمائنا الإنساني الواسع الذي يفتح لنا أفاق غير محدودة من التطور الشخصي ومن التلاقح الإنساني. ولنتعاهد على أن نقاتل بلا هوادة كل من يريد الفرقة بين المصريين بسبب الجنس أو الدين أو اللون أو الانتماء الإقليمي، أو أي شيء ليس للإنسان حيلة فيه.