البترول في السودان: مورد وطني أم (مؤتمر وطني)-5


مجدي الجزولي
2006 / 12 / 13 - 11:26     

ما كانت الأنظمة الحاكمة للسودان عبر تاريخنا ما بعد الاستعمار رغم ما أوتيت من جبروت الدولة ومؤسساتها وريعها بقادرة أن تستقل بنفسها عن تأثير وفاعلية قاعدة المجتمع وتياراته وقواه الحية، وذلك في المقام الأول لاعتماد بقاءها الاقتصادي على الإنتاج الاجتماعي في قطاعات الاقتصاد الوطني عامة وخاصة، نقدية ومعيشية. بخلاف هذا الشرط أتاح البترول، كسلعة ريعية تباع في السوق العالمي، لجهاز الدولة وفئات الحكم القابضة عليه، تحرراً شبه كامل من نفوذ القوى المدنية ومحاسبتها، فكأنما انحل قيد الدولة الذي يربطها والمجتمع.

المورد الناضب
من البديهي أن صناعة البترول تحتاج قدرات تكنولوجية ورأسمالية تفوق استطاعة الهامش الاقتصادي الكوني، والسودان جزء منه، لذا كان من المنطقي أن تعرض الدولة السودانية متاعها على السوق الرأسمالي العالمي لتجد من يعينها على استثماره، أو بالأصح يتولى استثماره. في هذه العلاقة واضح من هو الطرف الأقوى، فرغم أن المورد مكنون في الأرض السودانية إلا أنه دون التكنولوجيا المناسبة والرأسمال الكافي يظل زيتاً تحت تراب، لا يغني حامله شيئاً. من ناحية أخرى يظل التساؤل مطروحاً، أنه ما من شركة ذات اعتبار في السوق العالمي من حيث الدربة والخبرة والدراية كان لها ضلع في استثمار البترول السوداني سوى شركة شيفرون الأميركية، أما اللواتي ورثن جهدها فأقزام مهما تقافزن. سوى أن دخول التنين الصيني إلى المشهد أضفى على القضية حساسية جديدة، جيوسياسية بالأساس، فبذلك أصبحت بلادنا مسرحاً لصراع خفي حيناً، ومعلن حيناً آخر، بين الصين من جهة، والرأسمالية الغربية من الجهة المقابلة. بجانب قضيتي تايوان والتجارة الدولية صار البترول في مقدمة عناصر الصراع الصيني الأميركي. ولا يجوز أن نغتر، أو يغتر النظام الحاكم، بفوز أحد الطرفين على قرينه في هذه المرحلة الأولية، وعلى المسرح السوداني، إذ ما زالت الصناعة البترولية في بلادنا في طفولتها الغريرة.

إن تنامي الحوجات البترولية الصينية لا بد مثير تخوف السلطات الأميركية من حقيقة موضوعية مفادها أن الاحتياطي البترولي الموجود حالياً، متفرق في أنحاء هذا الكوكب، لا يكفي نهم الثلاثمائة مليون أميركي الذين يبزون النفط بزاً، وفي ذات الوقت عدد 1,3 مليار صيني أصابهم للتو ادمانه (إريكا داونز، 04/09/06م). هذا بالاشارة إلى كم من الدراسات العلمية التي تحذر من اقتراب (قمة) الانتاج البترولي، وهو تصور أرساه هوبرت (1967م): "بما أن النفط والغاز موردين ناضبين فالمنطق أن تاريخ استغلال هذين النوعين من الوقود منقسم إلى فترات بداية، ثم ازدياد، ثم انحسار، ثم في المنتهى انعدام. في هذا التسلسل، ليست فترة البداية ولا فترة النهاية ذات أهمية قصوى، وإنما الفترة الانتقالية بين التزايد والانحسار". وصل الانتاج البترولي الأميركي قمته في العام 1970م، ليتضاءل منذها، وهي الحقيقة التي ضمنت نجاح الحظر البترولي العربي عام 1973م، وبالتالي أفضت إلى تحول جذري في السياسة الأميركية تجاه الشرق الأوسط. احد التقديرات الرصينة المعاصرة لتاريخ قمة الانتاج البترولي الكوني، والذي بعده يتناقص الانتاج انحداراً، يغلب العام 2007م موعداً لقمة (هوبرت) هذه. حيث يتوقع أن يصل حينها انتاج البترول على مستوى العالم إلى حد أقصى قدره 30,6 مليار برميل في العام، ثم يبدأ في التناقص حتى معدل 24,6 مليار برميل سنوياً عام 2020م، ليصل عام 2040م إلى معدل 11,5 مليار برميل في السنة، ما يساوي انحدار كلي بنسبة 62% خلال 33 عام فقط (دنكان و ينغكويست، 1999م). من جهة أخرى ترجح التقديرات أن يتزايد الطلب العالمي على البترول بنسبة 50% بحلول العام 2025م. كذلك هناك حقائق موضوعية تعزز صدقية مثل هكذا توقعات، ومنها اعلان منظمة أوبك أن احتياطيها من البترول لن يستطيع مجاراة الطلب العالمي خلال العشرة إلى الخمسة عشر أعوام القادمة، بالاستناد إلى تناقص انتاج 38 من أصل 48 دولة من الدول الأكبر انتاجاً للبترول في العالم (ضمن هيرش، 2005م). هذا القلق الأميركي لا بد انعكس ذعراً صينياً من احتمال أن تغلق الولايات المتحدة الأميركية بعزم جبروتها دن البترول الناضب عن كأس الصين التي بلغ استهلاكها للبترول معدل 7 مليون برميل يومياً، ما يساوي ثلث الاستهلاك الأميركي، تستورد منه 3,3 مليون برميل في اليوم، أي ربع معدل الاستيراد الأميركي. وهي معدلات تزداد باضطراد، حيث تقدر وكالة الطاقة الدولية أن يبلغ استهلاك الصين للبترول معدل 9,1 مليون برميل في اليوم، ومعدل الاستيراد 5,3 مليون برميل في اليوم، ذلك بحلول العام 2011م (داونز، مصدر سابق). في شأن حيوية شريان البترول المستورد بالنسبة للولايات المتحدة الأميركية، تجدر الإشارة إلى أن معدل الاستهلاك الأميركي الحالي يبلغ 20 مليون برميل في اليوم، ما يساوي 7,2 مليار برميل في العام، حيث تستورد الولايات المتحدة حالياً 11,6 مليون برميل في اليوم، أي 59% من احتياجاتها البترولية، ذلك بالمقارنة مع 23% في العام 1970م، إذ تعاظم اعتماد الولايات المتحدة على البترول المستورد بالترافق مع ارتفاع تكاليف انتاجها المحلي. أما أبواب الاستهلاك الأميركي فأولها وقود العربات (45%)، ثم الديزل (19%)، ثم الغاز المسال (10%)، ووقود الطائرات (8%)، بجانب استخدامات أخرى (18%). تقدر دراسات معتبرة أن تتزايد هذه المعدلات ليصل الاستهلاك الأميركي للبترول في العام 2025م معدل 30 مليون برميل في اليوم، نتيجة لاتساع النشاط الاقتصادي وارتفاع الطلب على وقود النقل، ما سيدفع معدل الاستيراد الأميركي للبترول إلى مستوى 20 مليون برميل يومياً، أي 68% من احتياجات الولايات المتحدة البترولية. من جهة أخرى تشير البحوث إلى أن زيادة 1% في سعر البترول العالمي تؤثر سلباً على الناتج القومي الاجمالي الأميركي بمقدار 0,05% في المتوسط (باري و دارمستادتر، 2003م). إن مراجعة هذا السيناريو تشي باستقطاب واقع لا محالة بين مستهلكين اثنين عظيمين لهما من القوة العسكرية ما يهدد بقاء البشرية بأكملها، هذا على المدي القصير، ومن الطاقة الصناعية ما يدفع الكوكب بعجلة قصوى نحو هاوية بيئية لا قرار لها. فكأنما نواجه حرباً باردة جديدة بين فيلين، لكن هذه المرة عرياً من الآيديولوجيا إلا ما كان تعبيراً عن اسلوبين متمايزين شكلياً وليس نوعياً في الاستغلال الامبريالي. وكما هو متوقع ساحة المعركة ليست (الهوملاند) الأميركية ولا المحمية الصينية، وإنما جغرافية العالم البترولية. تكشفت ارهاصات من الاستفزاز المتبادل في سعي الصين شراء امتيازات للتنقيب في كندا، والتي تعتبر المصدر الأول للبترول بالنسبة للولايات المتحدة. في أوائل العام 2005م تقدمت شركة (سينوبيك) للبترول المملوكة للدولة الصينية بعرض للحصول على امتياز تنقيب يشمل احتياطيات جزر (آلبرتا) الكندية، بينما تتجه شركة (انبردج) الكندية نحو التعاقد على بناء أنبوب ناقل للنفط يصل بين جزر (ألبرتا) وشاطئ (كولومبيا البريطانية)، بحيث يمكن تصدير البترول إلى الصين عبر سفن ناقلة. إذا وصلت إحدى هاتين الصفقتين إلى منتهاها فإن الولايات المتحدة مهددة بفقدان ثلث ما اعتادت استيراده من كندا لصالح الصين (لوفت، 18/01/05م). الأنبوب الناقل تقدر تكلفته الكلية بمبلغ 2 مليار دولار، وسعته بحجم 400 ألف برميل في اليوم، 80% منها سيذهب إلى الصين والمتبقي لصالح مصافي البترول في كاليفورنيا (نيويورك تايمز، 23/12/04م). هذا مع العلم أن كندا ظلت وفية لعهد بينها والولايات المتحدة منذ السبعينات ألا تحيد عن توفير النفط الخام للأخيرة باعتبار المصالح المشتركة للبلدين، ما ضمن علاقة صافية بين الجارتين في مجال الأمن النفطي طوال هذه السنين. اليد الصينية الطائلة امتدت إيضاً إلى داخل عرين الرأسمالية الأميركية حيث عرضت الشركة الوطنية الصينية للبترول البحري (CNOOC) في العام 2005م مبلغ 18,5 مليار دولار لشراء (يونوكال) وهي تاسع أكبر شركة أميركية منتجة للبترول، وتنشط بالأساس في آسيا (بي بي سي، 23/06/05م).

بقياس أشد تعسفاً يشير محللون بارزون في دوائر الأمن القومي الأميركي إلى تشابه وضع اليابان الإمبريالية ما قبل الحرب العالمية الثانية مع وضع الصين الحاضر، بجمع الحوجة المتنامية لتأمين مصادر الطاقة في وجه التنافس الدولي عليها. ما دفع اليابان إلى اتباع سياسة توسعية حينها استهدفت القارة الآسيوية، ويدفع الصين حاضراً إلى البحث عن موطئ قدم لها في الشرق الأوسط، وبالتالي تهديد المصالح الأميركية جدياً (لوس آنجلز تايمز، 02/02/04م). بقراءة أكثر واقعية يستبعد انتشاب حرب كونية جديدة موضوعها بصورة أو أخرى النفط، وإن ارتدى وجه محاربة الارهاب، ونشر (الديموقراطية) إلا ربما عبر وكلاء أو أقمار في هذا الاقليم البترولي أو ذاك. لكن الثابت أن التناقض الجوهري بين الصين والولايات المتحدة لم يأخذ بعد شكل الصراع المباشر على براميل البترول، لكن البترول عنصر مركزي في قضايا معتبرة تتعارض فيها مصالح البلدين، كل ناظر لقرينه بعين الشك والتحفز، ومثال ذلك ايران، والسودان: الأولى صاحبة ثاني أكبر احتياطي نفطي في العالم، وبلادنا ثالث أكبر مورد للبترول الخام بالنسبة للصين. في كل كانت العرقلة الصينية من داخل مجلس الأمن عاملاً أساسياً في لجم الاعتراض الدولي على المشروع النووي في حالة ايران، وعلى جرائم دارفور في حالة السودان. وفي كل كانت الولايات المتحدة محركاً رئيسياً لعجلة الشريعة الدولية.

المصادر
(1) Erica S. Downs, How Oil Fuels Sino-U.S. Fires, Brookings Institution; Business Week, 04/09/2006.
(2) M. K. Hubbert, Degree of Advancement of Petroleum Exploration in the United States, American Association of Petroleum Geologists Bulletin, Vol. 51, No. 11, 1967.
(3) Richard S. Duncan & Walter Youngquist, Encircling the Peak of World Oil Production, Natural Resources Research, Vol. 8, No. 3, 1999.
(4) Robert L. Hirsch, The Inevitable Peaking of World Oil Production, The Atlantic Council of the United States Bulletin, Vol. XVI, No. 3, October 2005.
(5) Ian W.H. Parry & Joel Darmstadter, The Costs of US Oil Dependency, Discussion Paper 03-59, Resources for the Future, Washington D.C., December 2003.
(6) Gal Luft, In Search of Crude Oil China Goes to the Americas, Institute for the Analysis of Global Security, Energy Security, 18/01/2005.
(7) Simon Romero, China Emerging As U.S. Rival for Canada’s Oil, New York Times, 23/12/2005.
(8) China Oil Firm in Unocal Bid War, BBC News, 23/06/2005.
(9) Gal Luft, US China are on Collision Course over Oil, Los Angeles Times, 02/02/2004.