الكتابة، الاختلاف والحوار المتمدن


محمد الخباشي
2006 / 12 / 9 - 10:51     

الكتابة تمارين في الإنشاء. هكذا قال البعض، وهكذا لازلنا نقرأ على صفحات الحوار المتمدن، أكثر من ثمانين مقالا يوميا، لا يمكن للمرء أن يطلع عليها كلها. وما يسمح به الوقت، أو ما يثير شهية القراءة يتضاءل يوما بعد يوم. ويبدو أن الحقيقة المرة يجسدها معظم كتاب الحوار المتمدن. تلك الحقيقة هي أن الكتابة تمارين في الإنشاء. حقيقة مرة، لا أجد من تبرير لها سوى ما رد به مهدي عامل على أحد أولائك الذين يعتبرون الكتابة تمارين في الإنشاء حيث قال له: "إنها كذلك حين يكون الكاتب بلا قضية".
في الصفحة اليومية للحوار المتمدن، تجد الأدب والفن والسياسة وكل شيء. إلا أن أغلب الكتابات تفتقد إلى الموضوع، يكتبها أصحابها لإشباع رغبة شخصية في الكتابة ليس إلا. أقلام تسود الورق بلا رحمة، لا لشيء إلا لملء الفراغ المرتبط بالشيخوخة، أو لإشباع رغبة الأنا المنتفخة أكثر من اللازم فقط لإظهار صورة الكاتب في كل الأعداد، ولا يهم إن قرأ الناس ما يكتب أم لا. الكاتب بلا قضية لا يكتب لغيره. والسؤال المطروح: لمن نكتب؟ ما الحاجة إلى الكتابة إذا علمنا أن الناس لا يقرؤون ما نكتب؟ وما الحاجة إلى إضاعة الوقت كي نكتب شيئا غير قابل للقراءة؟؟. والمسؤولية تقع على الكتاب قبل القائمين على إدارة الموقع.
تلك مسألة لا بد من الانتباه إليها، لأنها تمس رسالة الحوار المتمدن بدرجة كبيرة. وتهدد ما راكمته الصحيفة من تجربة وسمعة ووزن...
يجب أن تبقى كما كان ينتظرها الجميع بشوق كما قال حنا مينة عن مجلة الطريق. "ننتظرها... كموعد مع حبيب....". لك الحرية في أن تكتب عن كل شيء، وبأي شكل تريد، وبأي أسلوب تريد... هذه حرية مطلقة أفلاطونية... أعرف أن هناك قواعد النشر، لكن لنتوقف عند المئات من المقالات التي تنشر. هل تتوفر فيها كل قواعد الكتابة السليمة؟ بالقطع لا، هناك العديد منها غير قابل للنشر أولا من حيث موضوعه الفارغ.
ثانيا لحجمه، ثالثا لأسلوبه اللغوي المليء بالأخطاء والركاكة والتمطيط والحشو. فإذن، وجب الوقوف عند هذه النقطة. أقول ذلك ولا أضع نفسي رقيبا أو شرطي مرور على ما ينشر في الحوار المتمدن، لأنني ببساطة أملك الحرية المطلقة في عدم قراءة ما لا أراه مناسبا. ولكن لدي غيرة على الموقع وتوجهه ورسالته النبيلة وبصفة خاصة سمعته.
على امتداد السنوات الماضية، وفي ظروف خاصة، تمكن الموقع من تحقيق أهداف مهمة. تم تصنيفه كرابع أفضل موقع عربي وهذه مسألة مهمة.
ساهم في تحقيق العديد من المكتسبات من خلال الحملات التي يطلقها. لكن المسألة الأكثر أهمية، هي التواصل من خلال الموقع بين مختلف التيارات اليسارية ومنها الشيوعية على وجه الخصوص. وولدت أنسجة لعلاقات بين تلك التيارات. يمكن أن يساهم الموقع في تطوير تلك الأنسجة عبر تنظيم منتديات فكرية وسياسية وإعلامية... إلخ.
الموقع في شكله وصيغته الحالية، وعاء لكل التوجهات السياسية والفكرية، تجد العلماني وغير العلماني، الشيوعي والقومي وحتى مثقفي السلطة، ومن "لا فكر له" والعروبي والشوفيني المتعصب لقوميته... كل ذلك يجسد اختلافا يعتمل في المجتمع العربي وغيره. ولكن يبقى حبيس الصفحات التي ينشر فيها.
صحيح أن نقاشا، أحيانا يدور بين مختلف الأفكار والآراء. لكن بالصيغة تلك يضيع الخط التحريري للموقع كصحيفة لها رسالتها وتوجهها وأهدافها. لست ضد فكرة التنوع وممارسة الاختلاف في المجتمع. ولكن ليس من المستساغ أن يتم تعويم الصحيفة بمقالات وتوجهات تتناقض مع توجه الصحيفة ورسالتها، تحت مبرر قبول الآخر والاختلاف والتنوع.
لا يجب رفض الآخر في المجتمع، بل يجب الحفاظ على الخط التحريري للصحيفة. ولا أصادر حق الآخر في إنشاء ما يستطيع من الجرائد والمجلات والمواقع... تلك هي القضية.
إضافة إلى ذلك، فالموقع بشموليته للأدب والفن والفكر والسياسة و... يطرح سؤال: أي أدب تريد؟ أي فكرة أية سياسة؟... الجواب: كل ما ينسجم مع التوجه اليساري والعلماني للصحيفة. وإذن، فكل ما ينشر لا ينسجم بالضرورة مع تلك الاختيارات. فهل باسم الحرية والديمقراطية نسمح بتضييع التوجه اليساري والعلماني للحوار المتمدن؟. هل يعتبر سد الباب أمام التوجهات الأخرى القومية الشوفينية المتعصبة والتوجهات ذات البعد الديني وغيرها من غير العلمانية واليسارية، هل يعتبر ذلك ضربا من ضروب الديكتاتورية؟ لا، إطلاقا. في المجتمع لها الحق في التعبير عن ذاتها من خلال وسائل إعلامها وتنظيماتها... الخ بل يجب أن نضمن لها الحق، نحن كديمقراطيين ووطنيين. ونفس الحق هو ذاته الذي تملكه إدارة الحوار المتمدن في سد الباب أمام نشر ما يسيء إلى توجهها. قد يقول البعض أن الحل، ليس هو التجاهل، بل ممارسة الاختلاف ومطارحة الأفكار والجدال. نعم، هذا حل حين يكون ذلك التوجه يؤمن قبل كل شيء بالاختلاف وبالقيم الديمقراطية. وتلك ثقافة لازالت في أجنتها الأولى في مجتمعاتنا المنغمسة في الجهل والأمية والديكتاتورية. واذهب إلى الجزم أن الحوار لا يستطيع أن يغير قيد أنملة في البنية الفكرية للتنظيمات والتوجهات الشوفينية المتعصبة والدينية ... لأنها منغلقة وغير قابلة للتعاطي مع الآخر. هذه المسألة شبيهة، بل هي اختزال لقضية اجتماعية وفكرية تعيشها المجتمعات العربية. ففي ظل التطور الإعلامي الحاصل (الفضائيات، الانترنيت...) نذهب إلى الاعتقاد أن التوجهات الديمقراطية واليسارية وجدت هامشا من خلال ذلك التطور الإعلامي، للتعبير عن نفسه، والوصول إلى شرائح واسعة من المجتمع. بينما العكس هو الحاصل تماما. في ظل ذلك التطور، نرى ظاهرة عكسية تماما، حيث نكوص التوجهات اليسارية والديمقراطية، وصعود التوجهات الشوفينية القومية المتعصبة والدينية المتطرفة من جهة. من جهة أخرى استطاعت أنظمة الحكم الرجعية والديكتاتورية أن توسع قاعدتها الاجتماعية، من خلال الاستقطاب، وبالتالي تأجيل وتغطية أزماتها الداخلية، هذا في الوقت الذي ساهمت فيه الفضائيات في فضح وتعرية تلك الأنظمة. النتيجة العكسية هاته، سببها أن الأنظمة الرجعية والقمعية، بوسائل إعلامها ووسائلها الإيديولوجية، والدينية والمالية والقمعية، تستطيع أن تحبط جزءا من تأثير وسائل الإعلام البديل. إضافة إلى ذلك، فوسائل الإعلام البديلة، التي هي جزء من وسائل خوض الصراع الاجتماعي في أبعاده الإيديولوجية لم يسيد فيها الفكر النقيض لفكر الطبقات الاجتماعية التي تعبر عنها الأنظمة القمعية والرجعية. النتيجة أن المجتمعات العربية الخاضعة لسلطات الأنظمة الديكتاتورية المستبدة ولسلطات المؤسسات الدينية والقبلية، توجد في موقع العجز عن التطور إلى درجة تسييد الديمقراطية كممارسة يومية، في الأسرة والمدرسة والمؤسسات الإنتاجية وغيرها، أي في المجتمع كله. هذا العجز أنتج حالة كابحة إضافية من الطحالب الاجتماعية المعبر عنها في شكل التعبيرات السياسية الدينية والمتطرفة وحالات التعصب العرقي والقومي المنغلق والشوفيني.
والحالة العادية، هي أن تتطور هذه المجتمعات نحو تسييد الديمقراطية كممارسة يومية. هذا التطور قد تساهم فيه وسائل الإعلام بمختلف أشكالها، ولكن بشكل محدود. قد تساهم في خلخلة الوضع من خلال الفضح والتشهير بالممارسات القمعية وجميع أشكال الفساد والنهب، عن طريق الحملات ..الخ، لكن سيظل ذلك محدودا ما لم يكن ذلك مندرجا في بوتقة عملية تغيير اجتماعي شامل. أقول ذلك لان الهوة بين الوضع التاريخي الحالي لمجتمعاتنا وبين الوضع المنشود، هوة ساحقة غير قابلة للردم، إلا بعملية تغيير جدري للمجتمع والانتقال إلى المجتمع البديل وشرط ذلك أن تسود الثقافة البديلة، ثقافة شعبية مبنية على فهم علمي جدلي. ما عدا ذلك، من هوامش للممارسة الحريات، التعبير والتظاهر ...الخ لا يشكل إلا نزرا قليلا من الديمقراطية، وليس الديمقراطية كلها. وانتفاء هذا الشرط، أي سيادة إيديولوجية "البديل"، هو الذي جعل القوى الديمقراطية والوطنية، تعيش على هامش الأحداث، ولا تؤثر فيها بشكل كبير ومباشر، بل تشكل سندا في غالب الأحيان، يتمحور حول تيار سياسي لا يشكل البديل الحقيقي (لبنان، العراق، فلسطين...).