كارل بوبر ومعايير العلمية (الحزء الرابع) / ترجمة أحمد رباص


أحمد رباص
2024 / 4 / 30 - 01:45     

إهمال الاجتماعي
مشكلة أخرى في العلم تأتي من إدراج المعرفة في السياق الاجتماعي والثقافي. يهمل بوبر دور المجتمع، بالمعنى الواسع للكلمة، في تقييم الماعرف العلمية وبشكل أعم في السياق السوسيوتاريخي. ولنأخذ على سبيل المثال المذهبين اللذين استحودا على اهتمام بوبر عندما كان طالبا: الماركسية والتحليل النفسي.
من المتفق عليه عموما أن أعمال ماركس تحتوي على ملاحظات واستدلالات دقيقة، لكن الامر يتعلق بمزيج من الجوانب السياسية، الاجتماعية، الاقتصادية والأيديولوجية التي يجعل تعقيدها تقييمها صعبا. ومع ذلك، في أكتابات كارل ماركس، يمكن قياس نظرية القيمة باعتبارها كمية من العمل الاجتماعي أو نظرية ميل معدل الربح إلى الانخفاض وإخضاعها لاختبارات تجريبية وبالتالي دحضها أو تأييدها. والمشكلة التي تطرح نفسها هي: لماذا لا يقوم مجتمع علماء الاقتصاد بإجراء هذا الاختبار؟ الجواب سوسيولوجي . إن النظرية الاقتصادية الماركسية عالقة في جدل أيديولوجي وسياسي يحول دون تقييمها من وجهة نظر علمية.
يدرك بوبر أن التحليل النفسي يحتوي على مؤشرات نفسية مثيرة للاهتمام “من المرجح أن تجد مكانا لها لاحقا في علم النفس العلمي” (تخمينات وتفنيدات، ص: 67). ومن الصعب إعطاؤها شكلاً قابلاً للدحض، لأنها تتعامل مع وقائع فردية، تاريخية ومرتبطة بالسياق دائما. لكن المشكل الذي يطرح هو في المقام الأول سوسيولوجي. ولم يتحمل المجتمع العلمي، في أمور الطب النفسي وعلم النفس، مسؤولية تطويرهما نحو العلمية. لقد أحدث التحليل النفسي منذ ظهوره صراعاً إيديولوجياً عنيفاً، ثم تأثر بالموضات الفكرية (الرمزية، البنيوية). ولم يحظ بدعم مؤسسة تضمن دقته وتطويره. والحا أن المعرفة تتطلب دعما جماعيا يوفر تدريجيًا ضمانات الصلاحية العلمية.
تم تسليط الضوء على أهمية الإطار السوسيوتاريخي في تطبيق العلم لاحقا في أعمال بوبر، ولا سيما من قبل توماس كون . لقد تطور المعيار البوبري الخاص بقابلية الدحض مع مرور الوقت تحت تأثير انتقادات توماس كون وإمر لاكاتوس ، ولكن أيضا بسبب تغير المشهد الثقافي. أما في ما يتعلق بالعلوم الإنسانية، فقد تغيرت المرجعية الأولي مع تطور معارف أخرى ومشكلات أخرى طرحها فيلهلم دلثي، وماكس فيبر، ثم أعمال مدرسة فرانكفورت.
الخلاصة: دعوة إلى اليقظة
في التبلور التدريجي والجماعي، على مر الأجيال، لما يميز العلم، يقدم كارل بوبر مساهمة مثيرة للاهتمام من خلال إظهار أن المعرفة الناتجة عن العلم التجريبي يجب أن تكون قابلة للدحض، وهذا يعني أنه لا يجب أن تكون قابلة للتحقق فحسب، بل يجب أن تكون أيضا قابلة للدحض. كما يتم إبطالها بالتجربة، وهو أمر تمييزي حقا!
إن الاعتماد على القابلية للدحض بدلاً من التحقق هو أمر منطقي. يمكن دائما التحقق من تنبؤات النظرية الخيالية مثل علم التنجيم من خلال بعض الوقائع. في المقابل، فإن النظرية التي تراهن على صحتها في ما يتعلق بالتنبؤ الدقيق الذي يمكن التحكم فيه تقدم ضمانات أفضل بكثير لملاءمتها للواقع. وبالتالي، فإن النظرية العلمية ستعتبر صحيحة طالما أن عددا معينا من التجارب لم يبطلها. وهذه حجة علمية قوية جدا.
ومع ذلك، يجب وضع معايير الدحض والإبطال التجريبي في منظورها الصحيح لأسباب مختلفة:
* ليست كل العلوم مبنية على النموذج الاستقرائي. *يستخدم عدد منها الاستقراء والاستنباط.
* لا يمكن لبعضها أن يؤدي إلى تنبؤ دقيق ومضبوط أو تقديم تجارب قابلة للتكرار في ظل نفس الظروف.
من الممكن، وفق المعيار البوبري، دحض نظرية يتم التعبير عنها في شكل قانون قابل للتطبيق في ظروف تجريبية محددة. إنه نموذج للتفسير أطلق عليه كارل همبل في ما بعد اسم الاستنباط الاسمي. ولكن ماذا عن المعارف التي لا تستطيع أن تسير وفق هذا النهج؟ هل يجب أن تتخلى عن صفة العلم؟
لفت كارل بوبر الانتباه إلى ضرورة توخي اليقظة بشأن الطريقة التي تكون بها المعرفة علمية. لقد سلط الضوء على التماسك العقلاني، وبطريقة أصلية، على المعيار التجريبي: قابلية دحض النظرية. إن التمييز (تحديد الحدود) بين العلم والمعرفة التي لا يمكن أن تدعي ذلك هو أمر مهم، لأن المصداقية التي ينبغي منحها للأول أو للثانية ليست هي نفسها بالتأكيد.
المصدر: https://philosciences.com/karl-popper-et-les-criteres-de-la-scientificite