موقف البخاري من الامام ابي حنيفة


رحيم فرحان صدام
2024 / 4 / 30 - 00:01     

تذكر كتب الطبقات والتراجم ان البخاري أنه خرج مطرودا من مدينته بخارى في أوزبكستان ولم يعد إليها أبدا فظل طريدا يجوب البلدان ويجمع الحديث ولمّا أراد العودة لبلده لم يدخلها لكنه عاش في بلده قريبة منها اسمها "سمرقند" حتى وفاته.
ماذا كان سبب طرده؟
يحكي الإمام السرخسي أن "البخاري أفتى بأن لبن الماعز والشاه تثبت به حُرمة الرضاع".(1) و يعني لو شخصين شربوا من لبن معزة واحدة أصبحوا أخوة بالرضاعة.
اعترض كبير فقهاء الأحناف في المدينة وهوأبو حفص الكبير (2) وطالب البخاري بالعودة فرفض، والنتيجة أن اجتمع عليه الشيوخ وأخرجوه من المدينة غصبا.
الحادثة تدحض عقل البخاري ؛ لأنه ليس أهلا للفتوى اذ مقتضى قوله أنه لا احد سيتجوز فما ثبت به حرمة الرضاع من الماعز سيثبت على البقر والجاموس والإبل.
القصة ذكرت في أغلب كتب الفقه للأحناف ، لكن مصدرها كتاب المبسوط للسرخسي، والإمام السرخسي عاش بعد البخاري ب 200 سنة وروايته للحادثة بطريق الإرسال، ومن هنا طعن جمهور الفقهاء في صحة الواقعة وأكثرهم الحنابلة لا سيما المعاصرين منهم بعد اشتداد الهجمة على البخاري وإحياء قصة السرخسي.
ذكر كتاب الطبقات والتراجم سبب ثاني لطرد البخاري وهو قوله "بخلق اللفظ" يعني اعترض على قول المعتزلة أن القرآن مخلوق لكن اللفظ نعم، ومختصر قول البخاري أنه عندما يقرأ " ليس كمثله شيء" فاللفظ المنطوق حادث وليس قديم، بالتالي فعندما نزل أول مرة على النبي كان مخلوق بنطق النبي له ثم كتابة حروفه، وهذا القول هو عين قول المعتزلة بالضبط لأنهم خصّوا آيات معينة بأحداث منتهية وقيدوا أحكامها للماضي.
على كلٍ سواء طُرد البخاري من أجل المعزة أو من أجل اللفظ لكن حادثة طرده من مدينته على أيدي الأحناف (مفصلية) وفهمها سيحل كثير من إشكالات البخاري، وقد انتقم من الاحناف الذين طردوه بأسلوب زمانه وباستخدام أشهر أدوات المحدثين وهي (علم الحديث).

البخاري وابو حنيفة
كان البخاري معاديا لابي حنيفة ؛ اذ ذكره في كتابه الضعفاء وذكر تكفير سفيان الثوري له ، وطعنه به ووصفه بأسوأ الصفات .
لم يكتفي البخاري بذلك بل طعن بالإمام ابي حنيفة بأسلوب مبطن في صحيحه اذ روى حديثا نسبه الى النبي فقال ما نصه :" حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ أَبِي عِيسَى ، أَخْبَرَنَا يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ ، أَخْبَرَنَا شُعْبَةُ ، عَنْ قَتَادَةَ ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم : الْمَدِينَةُ يَأْتِيهَا الدَّجَّالُ فَيَجِدُ الْمَلاَئِكَةَ يَحْرُسُونَهَا فَلاَ يَقْرَبُهَا الدَّجَّالُ ، وَلاَ الطَّاعُونُ إِنْ شَاءَ اللَّه ." (3)
من يقرأ الحديث يتصوره حديثا عاديا لا يقصد منه الطعن بأحد ، ولكن السؤال الذي يفرض نفسه من هو الدجال الوارد في الحديث؟ يجيبنا البخاري في كتابه الضعفاء الصغير اذ قال ما نصه : " حمدويه قال: قلت لمحمد بن مسلمة: ما لرأي النعمان دخل البلدان كلها إلا المدينة؟ قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال( لا يدخلها الدجال ولا الطاعون، وهو دجال من الدجاجلة )."(4)
كما اورده البخاري في كتابه التاريخ الكبير مصرحا بكنية ابي حنيفة فقال : " وقيل لمحمد ابن مسلمة ما لرأي ابى حنيفة دخل البلاد كلَّهَا إلا المدينة؟ فقَالَ إِنَّهُ دجال من الدجاجلة وقَالَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لا يدخلُهُا الطاعون ولا الدجال." (5) وقد حرف بعض نساخ الكتاب اسم ابي حنيفة ب( ابو فلان ) (6) ، كما حرفه الذهبي فقال :" وقد ذكره البخاري في " تاريخه " وقال: قيل له: ما لرأي رجلٍ دخل البلاد كلّها إلّا المدينة" (7) .
اذن الحديث الذي رواه البخاري قصد به الطعن بالإمام ابي حنيفة ووصفه بالدجال ؛ ولذلك رد ابن النجار على هذه الرواية بقوله :" وأبو حنيفة قد دخل المدينة ودخلها مذهبه ، فلو كان الأمر كذلك لما دخلها وأما قوله إن مذهبه ما دخلها فباطل، لأن في المدينة من أهل مذهب أبى حنيفة جماعة لا يحصون وقد دخلها من زوار الحجاج ممن يقول بمذهب أبى حنيفة من لا يعد ولا يحصى كثرة في كل سنة من الأعوام." (8)
الهوامش
(1) السرخسي، محمد بن أحمد بن أبي سهل شمس الأئمة (ت 483هـ /1090م) المبسوط ، الناشر: دار المعرفة – بيروت ، تاريخ النشر: 1414هـ / 1993م. (30/397).
(2) أحمد بن حفص بن الزبرقان العجلي مولاهم ، البخاري الحنفي، ولد عام (150ه/ 767م) وهو فقيه علامة حنفي، يلقب بشيخ ما وراء النهر، وفقيه المشرق، وهو والد العلامة شيخ الحنفية محمد بن أحمد بن حفص الفقيه. أخذ عن محمد بن الحسن الشيباني، ارتحل، وصحب محمد بن الحسن الشيباني مدة، وبرع في الرأي، وسمع من وكيع بن الجراح، وسمع أيضاً من هشيم بن بشير، وجرير بن عبد الحميد. ولقي أبا يوسف ومالك بن أنس وسمع سفيان بن عُيينة والفضيل وعبد الله بن المبارك وجماعة، ولازم محمد بن الحسن حتى صار إمامًا كبيرًا، وله أصحاب لا يحصون، توفي أبو حفص ببخارى في المحرم سنة (217هـ /832 م). للمزيد يراجع عنه الذهبي: محمد بن أحمد بن عثمان بن قَايْماز (ت 748 هـ / 1348 م)، سير أعلام النبلاء، أشرف على تحقيق وخرّج أحاديثه: شعيب الأرناؤوط، ، دار الرسالة ، ط9، (بيروت ـ 1993). (12/ 617).
(3) البخاري : محمد بن إسماعيل بن إبراهيم بن المغيرة الجعفي مولاهم (ت256هـ/870م)، صحيح البخاري ، الناشر: دار الشعب – القاهرة، الطبعة: الأولى، 1987م.(9/ 76).
(4) البخاري : الضعفاء الصغير ، المحقق: أبو عبد الله أحمد بن إبراهيم بن أبي العينين، الناشر: مكتبة ابن عباس، الطبعة: الأولى، 1426هـ/2005مـ (ص: 132)، التاريخ الكبير، الطبعة: دائرة المعارف العثمانية، حيدر آباد – الدكن، طبع تحت مراقبة: محمد عبد المعيد خان (1/ 240) ؛ الخطيب البغدادي: أبو بكر أحمد بن علي بن ثابت (ت 463 ه/ 1072م): تاريخ بغداد ، المحقق: الدكتور بشار عواد معروف، الناشر: دار الغرب الإسلامي – بيروت، الطبعة: الأولى، 1422هـ / 2002 م). (15/ 544) .
(5) التاريخ الكبير (1/ 240) .
(6) التاريخ الكبير (1/ 240) .
(7) الذهبي: محمد بن أحمد بن عثمان بن قَايْماز (ت 748 هـ / 1348 م)، تاريخ الإسلام وَوَفيات المشاهير وَالأعلام ،المحقق: الدكتور بشار عوّاد معروف، الناشر: دار الغرب الإسلامي، الطبعة: الأولى، 2003 م .(5/ 452) .
(8) ابن النجار : محب الدين محمد بن محمود بن الحسن بن هبة الله بن محاسن البغدادي (ت 643هـ/1245 م) ، الرد على أبي بكر الخطيب البغدادي، تحقيق : مصطفى عبد القادر يحيى، الناشر دار الكتب العلمية ، الطبعة الأولى ، بيروت ، ١٤١٧ه/ ١٩٩٧م ، ص ٦٥.