كارل بوبر ومعايير العلمية (الجزء الثاني)


أحمد رباص
2024 / 4 / 25 - 23:31     

3 - بعض جوانب عمل كارل بوبر
النسبية والواقعية
كان اهتمام كارل بوبر ثلاثيا في ما يخص التمايز وتأهيل المعرفة العلمية في مقابل العقائد الإيديولوجية. سلط الضوء على مسألة ترسيم الحدود التي لا تزال أكثر راهنية من أي وقت مضى! وأشار إلى أن الطريقة وليس النتيجة هي التي تسمح لنا بالحكم على العلمية. وأظهر أن التحقق غير كاف كمعيار لترسيم الحدود، وبالتالي زاد من متطلبات إعلان المعرفة علمية. وعلى هذا النحو، فهو يتعارض مع النسبية من خلال إظهار أن جميع المعارف ليست متساوية ولا يمكن استيعابها أو الخلط بينها.
ومن ناحية أخرى، من خلال التأكيد على الطبيعة التخمينية للمعرفة التي توفرها العلوم، جلب الماء إلى مطحنة النسبية.
تحدث بوبر بانتظام عن التخمينات أو الفرضيات لتأهيل النظريات العلمية. خلال إحدى المحاضرات (1936)، ذهب إلى حد التأكيد على أنه "كان من المفترض، خطأً، أن المعرفة العلمية هي شكل من أشكال المعرفة" (بحث غير مكتمل، ص: 151)، في حين أن هذا مجرد افتراض. وهذا ما جعل الجمهور يضحك. وأشار (بوبر) إلى التطور المستمر للمعرفة العلمية.
يقدم العلم المعرفة التي تكون لها، في لحظة معينة، قيمة حقيقة معينة، واحتمالية. إذا كانت المعرفة العلمية مجرد فرضيات وتخمينات غير مؤكدة، أي أنها ليست معلومات محتملة عن العالم، فلا يمكن تمييزها عن الرأي أو العقيدة الدينية البعيدة الاحتمال. وفي هذه الحالة، سيكون كل شيء متساوياً، وسيكون من غير المجدي التأكيد على معايير ترسيم الحدود. لكن، على وجه التحديد، يوضح بوبر أن هناك فرقا وأن العلم يمنح نفسه الوسائل اللازمة لمواجهة العالم الذي يعطي شرعية لنتائجه. ويقول أيضاً في "تخمينات وتفنيدات" (ص: 362):
"هدفنا كعلماء هو اكتشاف الحقيقة" وتهدف النظريات إلى تقديم "افتراضات حقيقية حول بنية العالم".
طرح كارل بوبر مفهوم "الاحتمالية" (vérisimilitude) لشرح التفاعل بين الطابع الافتراضي للمعرفة المكتسبة علميا والبحث عن الحقيقة. ومع استبعاد (دحض) النظريات الأقل جودة، تتعزز احتمالية تلك التي قاومت: وتزداد درجة قابليتها للواقع. يؤدي التفنيد غير الحاسم للنظرية إلى زيادة إمكانية التحقق منها وتوسيع نطاق تطبيقها. إذا لم تكن النظرية العلمية صحيحة تماما، فإن موضوعيتها ، أي ملاءمتها للواقع، تزداد قوة. لم يؤيد بوبر الشكوكية النسبية، فهو يعتقد أنه من الممكن الاقتراب من الحقيقة في شكل موضوعية.
الاسبطان مقابل الاستقراء
للاستقراء معان مختلفة. وكما انتقده ديفيد هيوم، فإن الاستقراء هو ببساطة تفكير خاطئ يستخلص نتيجة معينة حول المستقبل من انتظامات الماضي. وقد وسع بوبر نطاقه نحو تشكيل العلم:
"يمكننا بالتالي أن نؤكد أن النظريات لا يمكن أبدا استنتاجها من قضايا الملاحظة، ولا يمكن الحصول منها على مبرر عقلاني" (تخمينات وتفنيدات، ص: 73).
يتمثل الاستنباط في العلم في التنبؤ، انطلاقا من حالة معروفة من الواقع، بما سيحدث بناءً على نظرية ما. نحن "نستنبط" من النظرية أن حقيقة أو حدثا معينا سيحدث. جميع العلوم تستخدم الاستنباط. لكن بوبر يعطيه مكانة مركزية، لأنه يشير إلى الفيزياء النظرية وعلم الكونيات حيث يكون استقلال النظري قويا، وبالتالي يكون الجانب الاستنباطي هو الغالب. تم تأكيد أطروحة بوبر من قبل ألبرت أينشتاين الذي كتب:
"لقد تعلمت شيئا آخر من نظرية الجاذبية: لا يمكن لمجموعة من الحقائق التجريبية، مهما كانت واسعة النطاق، أن تنشئ معادلات معقدة [مثل تلك الخاصة بالجاذبية]. يمكن اختبار النظرية عن طريق التجربة، ولكن لا يوجد مسار محدد يؤدي من التجربة إلى إنشاء نظرية" (أينشتاين أ.، ملاحظات السيرة الذاتية، استشهد به باتي ميشيل، ص: 364) .
إن تأكيد أب للنسبية أطروحة بوبر يجعلها مقنعة. ومع ذلك، هذا لا يعني أنها قابلة للتعميم.
في البيولوجيا، تعتبر الملاحظة والتجريب ضروريتين لظهور المفاهيم المجردة والعامة. ومن ثم، فإن فكرة أن العضويات الحية تتكون من خلايا محدودة بغشاء يشتمل على عضيات وكروموسومات (في النواة عموما) لم تتم صياغتها بشكل قبلي واستنباطي. ومع ذلك فهي معرفة علمية. وقد تم إنتاجها «من قضايا الملاحظة»، حسب صيغة كارل بوبر، من خلال تجريدها وتعميمها. هذه النظرية الخلوية ليست تفسيرية، بل هي منمذجة (بتكسير الذال)، ولا تدعي الكونية (قد توجد أنواع أخرى من الحياة). وهذا لا يمنع من إجراء استنباطات في البيولجيا، ولكن الشكل العام للمعرفة لا يمكن أن يسمى "استنباطيا".
ليست كل العلوم مبنية على نفس النموذج. هناك تعدد على التوالي في الاستقراء والاستنباط وفق المجال العلمي (وحتى داخل مجال معين). بعض العلوم مجردة للغاية، ولها غرض تفسيري كوني مثل الفيزياء النظرية. فهي بشكل عام "استنباطية". والبعض الآخر، مثل البولوجيا، يعتمد أكثر على النمذجة؛ وتتشكل نظرياتها من خلال تركيبات مجردة ناتجة عن الملاحظات. فهي بشكل عام "استقرائية".
إن التمشي من النوع الافتراضي الاستنباطي موجود دائما، ولكن بدرجات متفاوتة ولا يتدخل في نفس الوقت في هذين النوعين من العلوم. ويفترض وجود نظرية مشكلة انطلاقا منها نخرج بفرضيات نخضعها لاختبار الوقائع (عن طريق تجارب أو ملاحظات). إلا أن تشكيل هذه النظرية وشكلها يختلف من علم إلى آخر. ولذلك لا يمكن أن نجعل من الاستنباط معيارا لتحديد العلم، لأنه من شأنه أن يستبعد جزء كبيرا من المعرفة التي، علاوة على ذلك، نحن على يقين من أنها تستحق الوصف العلمي.
المصدر: https://philosciences.com/karl-popper-et-les-criteres-de-la-scientificite