المجتمع الفلسطينيفي رواية -ترجمة خاطئة- أسامة مغربي


رائد الحواري
2024 / 4 / 12 - 22:29     

قبل الدخول إلى الرواية أذكر ببعض الأعمال الروائية العربية التي تناولت التجمع الصهيوني في فلسطين المحتلة، فقد كتب "محمود شاهين" رواية "هجرة إلى الجحيم" وكتب "حسن حميد" رواية "ناغوغي الصغير، "وصبحي فحماوي" رواية "صديقتي اليهودية" فهذا الأعمال بمجملها من ألفها إلى ياءها تتحدث عن المجتمع الصهيوني، ومن كتبها هم فلسطينيون مُهجرون من وطنهم، إضافة إلى روائيين آخرين لا يتجاوز عددهم أصابع اليد.
من هنا نستنتج قلة الأعمال الروائية العربية التي تناول المجتمع الصهيوني من الداخل، وما بدأه "غسان كنفاني" في "عائد إلى حيفا" تم البناء عليه بشكل محدود، ولم يكن هذا البناء/التناول بحجم الخطر الذي يشكله الكيان على الفلسطينيين والعرب وعلى المنطقة، ويعود هذا الأمر إلى قلة الاطلاع على طبيعة التركيبة السكانية للتجمع الصهيوني، وعدم الإلمام بتركيبته ودوره في المنطقة، من هنا نجد الأسرى الفلسطينيين في سجون الاحتلال قدموا في هذا المجال ما هو لافت ومتميز، خاصة أنهم يتقنون اللغة العبرية، وتعرفوا بشكل واقعي وعملي على المجتمع الصهيوني فكتب "كميل أبو حنيش" رواية "مريم ميريام" وباسم خندقجي" قناع بلون السماء" وها هو الأسير السابق "أسامة مغربي" يدلي بدلوه في هذا المجال من خلال رواية "ترجمة خاطئة"
المجتمع الفلسطيني
الرواية تتكون من فصلين، الأول يتناول الواقع الفلسطيني قبل عام 1948 في الفالوجة تحديدا، والفصل الثاني يتحدث عن المجتمع الصهيوني، أعتقد أن الهدف من طريقة عرض حالتين مختلفتين ومتناقضين يكمن في تعريف القارئ بطبيعة كل طرف، والتعرف على البناء الاجتماعي والأخلاقي والفكري الذي يستند عليه.
المرأة/الأم
الفصل الأول جاء تحت عنوان "المليحة" التي تمثل دور الأم والجدة معا، وكأن السارد من خلال عنوان الفصل يريد تنبيه القارئ إلى الأسس والجذور الراسخة التي يعتمد عليها الفلسطيني، فهو ينتمي إلى أسرة متماسكة مترابطة، وإلى مكان ينتمي له، يبدأ السارد بالحديث عن "ملحية" كأم مجردة قبل أن تكون أم مناضلة ومتميزة في عطائها ومواقفها: "ويتذكر المليحة، أمه التي لا تكبر، وتشعره دائما أنه ذلك الطفل الذي يجب أن يعود إليها" ص35، هذه المقطع يعطينا فكرة عن طبيعة أم "بكر" وأي أم أخرى في الدنيا، فهن يفكرن، ويتعاملن مع الأبناء بهذا الشكل.
وهذا يأخذنا إلى طبيعة الأسرة التي تحافظ على كيانها/وجودها، فعلى الرغم من عدم توافق "بكر" مع زوجته "خديجة" البليدة والساذجة، إلا أن تعلق ابنه "حمزة" بجدته "مليحة" حال دون طلاقها، وهذا ما يجعل الأم/الجدة حاضنة للأسرى.
الأم الفلسطينية ليست كأي أم أخرى، فهي تتميز عن الأمهات الأخريات من خلال مواقفها الصلبة، وتتجاوز وضعها كأنثى ضعيفة، فتتخذ مواقف متقدمة، بعد أن وصل الخطر الصهيوني الذروة، وأصبح السلاح حاجة مُلحة للفلسطيني ليدافع عن نفسه وأرضه، يقترح "بكر" شراء بندقية، لكن "مليحة" تقدم له رؤية أخرى:
"ـ بل تشتري بندقتين، ولن تبيع جمل من جمالك.
ـ كل بيت مطلوب منه بندقية.
ـ بندقية لك وبندقية لي، أنا من سيحمي أرجوحة حمزة" ص55، هذه الإيجابية تحسب للأم/للمرأة الفلسطيني التي قدمت صيغتها للأبناء وللأزواج ليشتروا السلاح، وهذه الظاهرة تستحق التوقف عندها لما فيها من عطاء وتضحية أقدم عليها المرأة/الأم الفلسطينية.
ولم يقتصر الأمر على التقدم بطرح مقاومة الأعداء بالسلاح، بل سبقه التصدي للطرق الخبيثة التي يمارسها الأعداء لضعضع صف المقاومة، فعندما يأتي الضابط الإنجليزي إلى القائد المصري في الفالوجة "البيه طه" ويطلبه بالانسحاب منها، والمحافظة على أرواح من فيها، ترد "مليحة" على جارتها "عايشة" التي أيدت مقترح الضابط الإنجليزي بقولها: "إنهم أعداء، من يضمن أقوالهم؟ لقد سلمونا سابقا لليهود، سلموا كل البلاد، لسنا أغلى ممن رحلوا، لقد أرسل الله المصريين ليشدوا من أزرنا، سيحدث شيء ما ينهي كل هذا التعب" ص121، مثل هذا الطرح يشير إلى أننا أمام امرأة قوية، مدركة طبيعة العدو وأساليبه الخبيثة في ضعضعت الصف، وهذا ما يجعلها في مستوى الحدث.
لم تقتصر المواقف الشجاعة على "مليحة" فحسب، بل طال أيضا "زوجة شعيب" التي أتت إلى مبنى بلدية الفالوجة لاستلام بندقية زوجها: "وتدخل امرأة ملثمة بعد أن نادى سعفان اسم "شعيب" وتفاجأ الجميع، زوجي مريض، وقد حضرت بدلا منه، وسعفان يعرفني من صوتي.
ـ إلا تستطيعين تأجيل الأمر، إلى حين شفاء زوجك، وستبقى البندقية أمانه لدينا.
ـ ما المشكلة في أن استلم بندقية زوجي، سأدفع الخمسة جنيهات.
ـ ماذا سيقول الناس عندما تخرج امرأة ببندقية؟
ـ سيقولون، إن نساء الفالوجة كالرجال في الحرب" ص82، نلاحظ أن السارد لا يقدم مجرد صورة عن المرأة، بل يقدم امرأة حية، تتفاعل وتناقش وتدافع عن وجهة نظرها وتقنع الآخرين بها رغم سطوة عقلية الذكور في المجتمع.


الفلسطيني
الرواية فلسطينية بامتياز وتتحدث عنه وعن مكان، الفالوجة وغزة، فأثناء الخطر يتآلف الكل للدفاع عن الوطن بصرف النظر عن الفروقات الاجتماعية والاقتصادية، وهذا يشير إلى تماسك المجتمع وقدرته على تجاوز الأخطار المحدقة به، يطلب القائد المصري "البيه طه" من "بكر" اصطحاب مجموعة من الرجل للذهاب إلى غزة لجلب السلاح، تركيبة هذه المجموعة غير متجانسة طبقيا ولا اجتماعيا: "ويفكر طيلة الطريق، ما الذي جمعهم مع النجار وبائع الخضار والمدرس، في رحلة ليلية لجب السلاح" ص67، هذا الطرح يشير إلى فكرة السارد عن طبيعية الصراع في فلسطين، فهو صراع وطني/قومي وليس صراع طبقي اقتصادي، صراع وجود بين الفلسطيني كشعب يمثل أمة، وبين احتلال استيطاني يسعى لمحو وشطب وإزالة كل ما هو فلسطيني، أهمية هذا المشهد تكمن في الرد على من يعتمد فكرة الصراع الطبقي في فلسطين، فالكل الفلسطيني تضرر ويتضرر من الاحتلال، وليس طبقة/فئة بعينها، هذه فكرة مركزية لفهم طبيعة الصراع الصهيوني الفلسطيني/العربي.
تصل الفرقة المعنية بشراء السلاح إلى غزة، ولا تجد "أبو حديد" الرجل المعني ببيع السلاح، تجد وكيلة "أبو سيف" الذي يرفع سعر البندقية خمسة أربعين جنيها بدل أربعون، ومع هذا نجد المجموعة الموكلة بشراء السلاح تتخذ موقفا (على عاتقها) وتقرر شراء السلاح، هذه الحادثة تشير إلى نباهة الفلسطيني وقدرته على اتخاذ القرار رغم شح المال ورغم طمع تجار السلاح، فهو ليس جندي ينفذ الأوامر كيفما صدرت، بل يعمل ضمن الواقع وما فيه من متغيرات ومستجدات، هذه الروح هي التي تميز الفلسطيني عن غيرة ممن يتمسكون بالتعليمات والأوامر التي يعتبرونها مقدسة، ولا يجوز المساس بها أو تغيير أو استبدالها.
من هنا استطاع أهل الفالوجة الصمود ثمانية اشهر بعد إعلان قيام دولة الاحتلال، فالصمود هذه المدة يقودنا إلى حالة الوحدة الاجتماعية بين سكان الفالوجي الذين تجاوز الخلافات الطبقية والاجتماعية والعائلية فيما بينهم، وشكلوا قوة عسكرية موحدة استطاعت الصمود والتصدي لكل الهجمات الصهيونية، إلى أن أتي قرارا من القيادة المصرية بانسحاب الجيش المصري منها، وتسليمها للصهاينة حسب الهدنة التي أبرمتها القيادة المصرية والعربية مع الإنجليز وممثلي الكيان.
الجندي العربي وقيادته
الجندي العربي على النقيض من قيادته، فهو يستبسل ويضحي ويبدع في المواجهة، لكن القيادة تخذله وتتآمر عليه، مما جعل صورته باهتة، مشوهة، وما تردد مقولة "ماكو أوامر" إلا صورة عن تخاذل وتآمر القيادة.
يقم لنا السارد الصورة المتناقضة بين الجندي "البية طه" في الميدان، وبين القيادة التي تأمره بالانسحاب رغم قدرته على الاستمرار في الحرب والصمود: "زار البلدة مؤخرا وفد إنجليزي للتفاوض، عرضوا عليه الانسحاب مع أهل البلدة من ممر آمن، رفض ذلك بشدة وطرد الوفد، قال لأهل البلدة إنها مجرد خدعة، لاستدراجنا للموت.
سنبقى هنا، ونواجه بصلابة، الموت في الحرب خير من الاستسلام، وذبح الأطفال والنساء أمامنا" ص120و121، هذا الموقف ينم على إدراك الجندي العربي لطبيعة الصراع، ومعرفته بالطرق والوسائل التي ينتهجها العدو لضعضعت معنويات الجنود والمقاومين، من هنا كان طرده للوفد المفاوض بمثابة رد حاسم منه، ورسالة للأعداء على قدرته وإصراره على المواجهة والصمود، وصورة عن بطبيعة المقاتل/الجندي العربي الذي لا يعرف المهادنة أو الاستسلام.
بينما نجد القيادة في عالم أخر، ليس لها علاقة بهذه البسالة ولا بأصحابها: "ـ يحزنني كثيرا، أن أقول، أن التعليمات صدرت، بعدم إرسال المزيد، هناك اتفاقية للهدنة توقع الآن في رودس، لقد خذلناكم.
سينسحب الجيش المصري بوجب الاتفاقية إلى حدود الهدنة.
ـ والفالوجة؟
ـ لا أعلم شيئا بشأنها" ص163، هكذا كان حال قيادة الجيوش العربية في حرب ال48، وكيف ساهموا في ضياع فلسطين، فبينما كان الجنود يقاتلون، اتخذت القيادة قرارا بالانسحاب والخضوع لأوامر الدول الاستعمارية التي أوجدت الحكام في أنظمة التجزئة، وأوجدت كيان الاحتلال.
الحرب
كل فلسطيني وكل مواطن في الدول المحيطة بها عاش حرب أو أكثر من حرب، فالكيان قائم على العدوان وإثارة الحروب في المنطقة، من هنا يتناول السارد الحرب في أكثر من موضع، ويقدم رؤيته للحرب من خلال هذا الحوار:
"ـ الوضع كارثي، المؤن تتناقص، والذخيرة تتناقص، والأمل يتناقص.
ـ هل تتذكر باص يافا، ورحلاتنا إلى غزة؟ والبطيخ الكبير في مثل هذا الموسم، هل ترنا سنرى البطيخ بعد اليوم؟
ضحك بكر: الكثير من الأشياء اختفت من حياتنا، الحرب يا صديقي تأخذ معها التفاصيل العادية، وتترك لنا هذا العنت" ص124، هذه أحوال الناس وقت الحرب التي تحصد الأخضر واليابس، فتأخذ معها كل ما هو حي وجميل وتبقي ما هو مؤلم وميت.
يلخص السارد فكرته عن الحرب بهذا القول: "كل شيء ينضب وقت الحرب، هذه الحكمة التي فهمها الجميع من التجربة" ص128، اللافت في هذا القول أنه يطابق تماما ما يعيشه أهلنا في غزة الآن، فلم يعد عندهم شيء يؤكل، أو يشرب، أو مكان يأووا إليه، أو أصدقاء/أهل يأنسوا بهم، فالحرب أكلت كل شيء حي. ولم تبق إلا الخراب والدمار والموت.
الإنجليز
غالبية الروايات العربية تناولت الإنجليز بصورة سلبية، ويعود ذلك إلى دورهم فيما آلت إليه فلسطين من احتلال وتشريد ألأهلها، وتمزيق المنطقة العربية من حلال التجزئة التي أوجدتها، السارد يؤكد هذه السلبية في أكثر من موضع في الرواية، منها: "جاء الإنجليز مرة أخرى، فوجدوا بأن البلدة لم تمت من الجوع، وأن الاستعداد للقتال، والصمود، لا يزال على حاله، عروض كثيرة، للرحيل والتسليم، وتأمين طرق الانسحاب" ص161و162، هذه صورة عن طبيعة الإنجليز ودورهم في تسليم فلسطين للعصابات الصهيونية التي جاءت بحمايتهم ورعايتهم.