قصة النسخة - دوستوييفسكي


سعود سالم
2024 / 4 / 11 - 14:29     

يبدو واضحا أن إنسان هذه الأزمنة الموبوءة، رغم كونه إنسانا ذا بعد واحد، إلا أنه مصاب بتعدد الذات وتزاحم الشخصيات، بحيث لم يعد يعرف على أي قدم يرقص كما يقول المثل الشعبي. فهو لا يستطيع أن يلتقي بهذا الآخر الذي يزاحمه كينونته ويلاحقه كظله، ولكنه لا يستطيع أن يناله، حيث يختفي ويتبخر عندما يقترب منه أو يكاد يلمسه أو يمسك بتلابيبه. ولكي لا تصبح هذه الثنائية أو هذه التعددية مرضا نفسيا وعصبيا يحيل الحياة إلى جحيم إنفصامي، اكتشف الإنسان ما يسمى بـ "الفن" للتعبير عن هذه المواقف المستحيلة وتطهير الوعي الإنساني من مخاطرها النفسية والإجتماعية. ولا شك أن دوستوييفسكي Fiodor Dostoïevski هو خير من عبر عن التناقضات التي تنخر أغلبية شخصياته الروائية المعذبة. ومن رواياته التي تعالج مباشرة هذا الموضوع الذي نحن بصدده قصة "النسخة" أو الشبيه (Dvoynik - Двойник) وهي رواية قصيرة كتبها دوستويفسكي بين عامي 1845 و1846، ونُشِرت للمرة الأولى في 30 يناير من العام 1846 في مجلة "مذكرات الوطن" تحمل عنوانا فرعيا وهو " مغامرات السيد غوليادكين"، ومن ثمَّ نُشِرت مرة أخرى منفصلة في 1866 بعد أنَّ نقَّحها وأجرى عليها بعض التعديلات. تُعدُّ هذه الرواية أكثر أعمال دوستويفسكي تأثراً بنيقولاي غوغول، وعنوانها الفرعي في الطبعة الثانية "قصيدة من بطرسبورغ" مقتبس من رواية غوغول "النفوس الميتة"، ويرى فلاديمير نابوكوف أنَّ هذه الرواية مستوحاة من قصة "المعطف" من تأليف غوغول، بينما ذهب بعض النقاد إلى أنَّ دوستويفسكي كتب هذه الرواية في مقابل قصة غوغول الأخرى "الأنف". يُنظَر إلى هذه الرواية كنسخة نفسية من أعماله الأخلاقيَّة - النفسية اللاحقة، وتبرز فيها معالم الفكر الوجودي، وقضيَّة البحث عن الهوية، حيث أن الموضوع الرئيسي للرواية هو محاولة شخصية بسيطة وعادية التواجد في عالم تحكمه القوة والتناحر والخبث وسوء النية، مما يحتم انكسار وتشتت هويَّة الشخصية الرئيسية وخلق شخصية قوية تتمكن من مواجهة البيروقراطية والأوضاع المجتمعيَّة الرديئة التي يعيش فيها.
تركِّز الرواية على ازدواج الشخصية والصراع النفسي الداخلي للشخصية الرئيسية "غوليادكين Goliadkine " وغوليادكين يمكن ترجمتها بالتافه أو اللامهم. وهو يعمل موظفاً صغيرا لدى الحكومة في مدينة سان بطرسبورغ - Saint-Pétersbourg، ويعيش وحيدا في شقته مع خادمه "بيتروشكا Pétrouchka". رتبة غوليادكين في مجتمعه البيروقراطي متواضعة ومنخفضة مقارنة بنبلاء طبقته، وفي الفترة الأخيرة واجه غوليادكين مشاكل نفسية عديدة، فبدأ باستشارة طبيب نفسي لكي يساعده على إعادة الثقة بنفسه لمواجهة العالم والبشر. ويخاف الطبيب على غوليادكين أن يفقد إتصاله بالواقع ويصيبه الجنون، ويُخبره أن نفوره من حياته الاجتماعية هو تصرُّف خطير للغاية، ويقترح عليه أن يمضي مزيداً من الوقت مع رفقائه وأن ينشد الحياة الإجتماعية. فيُقرِّر غوليادكين أن يذهب إلى حفلة ميلاد ابنة مدير مكتبه " كلارا - Klara " والتي يعشقها في سره، وبعد سلسلة من المحاولات الفاشلة للقائها والحديث معها، يطرد غوليادكين من الحفلة ويعود أدراجه إلى بيته، وفي الطريق أثناء عاصفة ثلجية، يسير وحيدا يأكله الندم والإحباط والإحساس بالعار والإهانة، ويلتقي غوليادكين، مرتين برجل يلاحقه، وعندما وصل إلى بيته كان الرجل قد سبقه إلى غرفته ليكتشف أنه يشبهه لدرجة غريبة، صورة طبق الأصل، إنه نسخة منه. وفي اليوم التالي ينتابه الرعب وهو يرى "نفسه" جالسا في مقعد أمام مكتبه. ويخبره رئيسه بأن الموظف الجديد يسمى أيضا غوليادكين. وبقيَّة الرواية تتمحور حول العلاقة بين القرينين، في البداية كانت العلاقة بين السيد غوليادكين الأصل (الشخصية الرئيسية) وغوليادكين النسخة (القرين) علاقة صداقة ودودة، ولكنَّ غوليادكين النسخة يستمرُّ في التدخُّل في شئون السيد غوليادكين في محاولة للسيطرة على حياته وتدمير سمعته وإحتلال مكانه الإجتماعي ومكانه المهني في العمل، وهكذا تتدهور العلاقة بينهما ويصيرا عدوين لذوذين، ويقرر غوليادكين في النهاية بأن الأمر لم يعد يحتمل " إما أنا وإما أنت .. أما الإثنين معا فلا يمكن ". يعمل النسخة في نفس وظيفة ومكان عمل الشخصيَّة الرئيسية، وبسبب المهارة الاجتماعية لغوليادكين النسخة، المتمثلة في الوثوق بنفسه والعدوانية وكذلك التملق والإنتهازية، عموما ما يسمى بقوُّة الشخصيه، يصير محبوباً ومسموعا بين زملائه، على عكس السيد غوليادكين الذي كان شاحبا ومهملا ولا أحد يعيره أي إهتمام. وفي نهاية الرواية يبدأ السيد غوليادكين في رؤية مزيد من النسخ المطابقة له في الشكل والإسم، ويصاب بمرض تعدد الشخصية الذي تحدثنا عنه سابقا، ولم يعد يميز بين الأصل والنسخة، قائلا " أنا هو هذا الآخر"، ويُلقَى به في مصحَّة نفسية تحت رعاية طبيبه السابق.
دوستوييفسكي عبر عن هذه الفكرة الجديدة في سنة ١٨٤٥، وبعد عقدين ونصف عبر الشاعر رامبو عن نفس الفكرة في رسالة الرائي سنة ١٨٧١، معبرا عن الإنفصال الطبيعي بين الأنا والوعي الذي أنتجها je est un autre " " ولا أحد يعتقد أن رامبو كان له الوقت الكافي لقراءة دوستوييفسكي في ذلك الوقت الذي لم يتجاوز فيه بعد السابعة عشرة من عمره. الإحساس بالغربة الأنطولوجية، وبأن الإنسان غريب عن ذاته وعن العالم، هو إحساس صاحب الإنسان منذ الإرهاصات الأولية لمحاولته للخلق والإبداع وممارسة التفكير والخيال. هذه هي غربة الإنسان الأساسية، إنفصاله الأبدي عن "هويته" وعدم إمكانية تحديد محور هذه الهوية الزئبقية. الإنفصال الدائم عما "هو"، وتجاوزه الأصلي والمستمر لما يسميه بالـ"أنا". ويرجع هذا البحث الدائب من جهة، وهذا الهروب والإنزلاق نحو العدم من جهة أخرى إلى رغبة الإنسان الواعي في "الكينونة" وفي "الوجود" في وقت واحد، أن يكون "غوليادكين" الأصل والنسخة في نفس اللحظة وليس بالتناوب. أن "يكون"، أي يشارك العالم وما فيه من أشياء في الكينونة العامة، يصبح كائنا، وموضوعا في هذا العالم، شيئا صلبا ومتينا وماديا، يقف بقدميه راسخا على الأرض، بثقله وجسده وظله، شيئا من المادة الكثيفة، وفي نفس الوقت يريد أن يكون وعيا أي فكرا وخيالا وأحاسيس وعواطف وإرادة، أي أن ينتقل من الكينونة الثقيلة المعتمة إلى الوجود المطلق الشفافية ويحقق حريته ويعي وعيه وحريته، حتى لو ضحى بهذه الأنا التي أخترعها ليلتصق بكينونة العالم بطريقة إصطناعية ومزيفة. بما أن الإنسان محكوم علية بالحرية، فإنه يظل مترددا على الدوام بين الكينونة والوجود، لأنه لا ينتمي إلى قبيلة الآلهة، ولا يستطيع أن يجمع بين الحالتين في وقت واحد، فإنه يظل مشتتا ينتقل من حال إلى حال. يبدأ ببناء حياته كشيء، كتمثال من الحجر أو من البرونز مثل القوليم golem، يقف صلبا، عاليا ومتعملقا على بقية البشر، ثم ينتابه نوع من الخلل، قد يكون الضجر أو القلق، ولا يعود يحتمل هذا الصمت وهذه البرودة وهذا السكون المميت، فيقفز من فوق قاعدته، وينزل يجري ويصرخ في الساحات والشوارع والأزقة المعتمة، يصرخ في وجه العالم ويطالب بحريته، ويرفض الصمت والخنوع لقوانين الطبيعة المزرية. يجري هذا الإنسان المهموم طوال قرون وقرون، في الصيف وفي الشتاء، طوال الليل والنهار حتى يسقط من التعب على فراشه في حجرته الصغيرة في الطابق الثاني. ويجتاحه الحنين مرة أخرى إلى كثافة الأشياء وثقلها وعدم إهتمامها ومقاومتها للرياح والعواصف والأعاصير، وبالذات حين يكتشف عرضية الحياة وعبثية الوجود وعدم جدوى الجري طوال الليل والنهار والصراخ في شوارع المدن المزدحمة أو القرى النائية، فيحن إلى الطبيعة وإلى الكينونة الهادئة، يحن حتما إلى أن يكون حجرا ساكنا في أعماق نهر بارد.