ظاهرة الإرهاب نتاج أزمة الرأسمالية - الجزء الأول


جيلاني الهمامي
2024 / 4 / 10 - 03:24     

ظاهرة الإرهاب
نتاج أزمة الرأسمالية
الجزء الأول



عرض كتاب "الدولة الاسلامية : التنظيم والتمويل والفروع "
مع مقدمة حول الاٍرهاب الفردي والحركات الإرهابية الجديدة

نستعرض في هذا العدد من مجلة " البديل " فحوى كتاب " الدولة الاسلامية : التنظيم والتمويل والفروع " لصاحبه الكاتب الفرنسي سموال لوران ( * ) الصادر عن دار " seuil " للنشر في نوفمبر 2014. ويندرج هذا الكتاب ضمن سلسلة من المؤلفات للكاتب الذي سبق له أن نشر " ساحلستان " ( 2013 ) و"القاعدة في فرنسا " ( 2014 ).

صاموال لوران هو خبير من المتخصصين في دراسة المجموعات الإرهابية، حقق في أوضاعها وربط صلات وثيقة مع عدد من رموزها. التقى بقيادات من هذه المجموعات التي تنقلت بين دولة داعش والقاعدة وأجرى حوارات وتحقيقات استمد منها مادة كتاباته. وكتاب " الدولة الاسلامية " هو ثمرة من ثمار هذه اللقاءات والجولات ويعد شهادة حية حول تنظيم الدولة وطرق تسيير اجهزتها ومصادر تمويلها.

قبل ان نتوغل في تفاصيل هذه الشهادة نود ان نعود لننظر للموضوع، موضوع المجموعات الإرهابية، التي هي تنظيمات من طراز جديد في تاريخ التنظيمات الإرهابية من زاوية أعم وأشمل وفي السياق السياسي والتاريخي الجديد على المستويين الإقليمي والدولي.

الاٍرهاب الفردي والتنظيمات الإرهابية الجديدة
تحتكر الحركات الإرهابية ذات المرجعية " الاسلامية " اليوم ساحة الاٍرهاب لا فقط في فضاء منشئها الطبيعي، المنطقة العربية الاسلامية وإنما على النطاق العالمي، وقد افتكت هذه المكانة بعد ان تراجعت الحركات العنيفة الاخرى المعروفة والتي يمكن اعتبارها ايضا من حيث المنهج والطريقة ارهابية والتي كانت تتشيع على العموم للفكر التقدمي والاشتراكي ولكنها وعلى مر عقود من الزمن لم تفعل غير ان ألحقت بالمثل الاشتراكية والتقدمية من الاذى اكثر مما نفعتها.

وإذا كانت الموجتان من المجموعات الإرهابية تشتركان في الكثير من الخصائص والسمات فإنها في الوقت ذاته تختلفان اختلافات كبيرة وعميقة سنحاول النفاذ الى مميزات كل منهما وما تختص به كل واحدة منهما.

فإذا كانت الموجة الاولى التي شهدت ميلاد حركات عنيفة في الستينات والسبعينات من القرن الماضي وتغلفت بالتقدمية والاشتراكية والثورية، من قبيل " الالوية الحمراء " في إيطاليا و" منظمة العمل المباشر " في فرنسا وجماعة " بادر ماينهوف" في ألمانيا و" الجيش الأحمر الياباني " في اليابان وتنظيم " الدرب المضيء " في أمريكا اللاتينية تعلن كلها انتصارها لقضية الشعوب والفقراء والطبقة العاملة ومناهضة الإمبريالية والرأسمالية وتعتبر نفسها الطريق الاسلم لتحقيق هذه الأهداف كما تعتبر ان العنف والأعمال الإرهابية المعزولة هي الطريق لزعزعة النظام الراسمالي وإسقاط الأنظمة الحاكمة هنا وهناك وتحقيق الاستقلال والحريّة والعدالة للشعوب الضعيفة وطبقاتها الشعبية في إطار نظرة خاصة بها عرفت بما يسمى " بالنظرة العكسية للثورة " فان المجموعات الإرهابية الجديدة اي مجموعات " الاسلام السياسي " لا تنطلق من نفس المنطلقات ولا تهدف لنفس الأهداف بل هي تنطلق من تقييم خاص بها بطبيعة المرحلة التي تمر بها منطقة الشرق الأوسط والبلدان الاسلامية عامة او ما يمكن تسميته على حد تعبيرهم " بيت الاسلام " وتهدف لا فقط الى إسقاط نظم الحكم " الكافرة " وإنما اكثر من ذلك الى ارساء " الخلافة الاسلامية " من جديد.

وللوقوف عند خصائص هذه وتلك من الحركات نحاول في ما يأتي الغوص في اعماق الخلفية الفكرية - الأيديولوجية - والبرامج السياسية والاهداف الاستراتيجية والخطط التكتيكية لكل منهما لنخصص على أحدث هذه التجارب ألا وهي تجربة ما يسمى ب" الدولة الاسلامية " التي باتت تعرف اكثر بداعش اختصارا لاسمها الرسمي " الدولة الاسلامية في العراق والشام ".

سنحاول اولا واستنادا على تعريفات لظاهرة الاٍرهاب تحديد معنى الاٍرهاب على ما أصبحت عليه هذه الظاهرة اليوم من اتساع وانتشار وخطر وبالنظر لما بات من تقاليدها الخاصة في التنظيم والتحرك ونوعية الاعمال التي تتولاها في اكثر من مكان بالعالم. ثم سنحاول ان نرصد الأطوار التاريخية الكبرى لنموها وسياقها التاريخي والقوى الفاعلة في نشوئها وتفاقمها. وهنا سنحاول مقارنة خصائص المجموعات الإرهابية الحالية بتلك التي كانت تشغل الساحة السياسية والأمنية الدولية طيلة الستينات والسبعينات من القرن الماضي. وأخيرا نركز على ما بات يعرف بتنظيم الدولة وما يميزه عما سبقه من التنظيمات الإرهابية الاخرى.

الاٍرهاب هو طور من أطوار العنف. والعنف هو ظاهرة أفرزها المجتمع الإنساني منذ فترات البربرية الاولى وكان كما يقول فردريك انجلز هو العنصر المحرك للتاريخ. لقد حفلت كل ردهات تاريخ الانسانية بحملات عنف رهيبة اتخذت أشكال متعددة كانت الحروب أفضع اشكاله. ومن المعلوم ان هذه الموجات المتتالية من العنف اندلعت على العموم وفي غالب الحالات نتيجة صراع بين الشعوب والامم والقبائل والطوائف والاعراق والدول والأحلاف وكل ما أنتجته انقسامات المجتمعات البشرية من تشكيلات وانتماءات على خلفية السباق من أجل السيطرة على الاراضي والمال وطرق التجارة والنفوذ الاقتصادي والسياسي والجاه. لذلك وكما قال انجلز كان " العنف في التاريخ من خلال صراع المصالح يتجلى بارزا في الصراع السياسي والاقتصادي والاجتماعي ومن هنا العنصر الاقتصادي يؤسس العنف في المجال السياسي وهكذا يرتبط العنف السياسي بالتطور الاقتصادي وفي هذا الاتجاه يكون دوره تاريخيا في التحول الاجتماعي ".

والحقيقة ان تعريف مفهوم العنف ظل موضوع جدل لم ينته بعد حيث لم تتوفق كل النظريات والفلسفات ومناهج التحليل العلمي والقانوني التي تناولت هذه المسألة إلى الاتفاق بعد حول تعريف يعتد به على أنه التعريف الجازم الموثوق في صحته وشموليته لكل جوانب وخصائص الظاهرة ودوافع ظهورها وتطورها.

لقد ذهبت التعريفات المتعددة والمتنوعة للعنف مذاهب شتى في تفسير الظاهرة وتحديد اسبابها ودوافعها. فمنها من فسرها بالطبيعة الشريرة للذات البشرية أو في أقل الأحوال على انها تكريس للطابع الشرير لدى الانسان الذي جبل على الخير والشر معا ومناصفة وما العنف الا تجسيد لغلبة الشر على الخير لديه في حالات كثيرة ومحددة. وقد اتفقت الأديان التوحيدية الكبرى ( اليهودية والمسيحية والإسلام والبوذية وغيرها ) على هذا التفسير تقريبا. وقريبا من ذلك ايضا اتجهت طائفة من المفكرين الذين يجمعهم اتجاه فكري وفلسفي واحد يرجع العنف لأسباب بيولوجية وينطلق من ان الانسان أناني بطبعه ينزع نحو استخدام العنف والقوة. والطبيعة البشرية التي تسيرها الانانية تملي عليه، أي الانسان، سلوكا ميكانيكيا فتماما كما ان حركات جسده هي حركات ميكانيكية تصدر عن دماغه فإن سلوكه الناتج عن جملة عواطفه وأحاسيسه وانفعالاته هو ايضا سلوك ميكانيكي يكيف علاقاته مع الاخر. ومن هذا المنطلق ولأن الإنسان بطبعه بقدر ما يتقبل اللذة يتجنب الالم فإن العلاقات الاجتماعية تقوم على الخوف المشترك النابع من غريزة البقاء والمحافظة على الحياة. لهذا كله يجنح الانسان إلى استخدام القوة وهو ما يفسر سيطرة العنف في المجتمع الإنساني على مر مئات القرون من التاريخ.

أما التيار النفسي الذي يتزعمه سيغموند فرويد فإنه يرجع العنف إلى عجز " الأنا " عن تكيف الدوافع الغريزية مع متطلبات الحياة الجماعية ومعايير المجتمع وان غريزة العدوان هي ميل فطري لدى البشر ما على المجتمع الا صرف كل جهده لتهذيبها وإصلاحها.

من جانبه يرى التيار الاجتماعي على عكس ما سبق ان العنف هي ظاهرة مكتسبة وليست فطرية وهي نتاج البيئة والمحيط الذي يعيش فيه الانسان ( البيئة بمعناها الواسع أي بما في ذلك المكتسب الثقافي والحضاري ) وعواملها، أي ظاهرة العنف، عديدة ومتنوعة ومتشابكة اقتصادية واجتماعية وثقافية وأخلاقية ونفسية. فالعنف هو صنيعة المجتمع المريض وعنف السلطة.

وحتى ابن خلدون الذي يتجه النظر إلى تصنيفه ضمن هذا الاتجاه يعتبر أن العنف مزيج من الطبيعة البشرية وتأثيرات المحيط المادي والاجتماعي حيث يقول : " إن الحرب والمقاتلة لم تزل واقعة في الخليقة منذ برأها الله، وأصلها إرادة انتقام بعض البشر من بعض، ويتعصب لكل منها أهل عصبيته، فإذا تذمروا لذلك وتوافقت الطائفتان، أحدهما تطلب الانتقام والأخرى تدافع، كانت الحرب، وهو أمر طبيعي في البشر لا تخلو عنه أمة ولا جيل، وسبب هذا الانتقام في الأكثر إما غيرة ومنافسة وإما عدوان، وإما غضب لله ولدينه، وإما غضب للملك وسعي في تمهيده ".

وكان فلاسفة ما يعبر عنهم بمفكري " العقد الاجتماعي " الذين عاصروا ظهور الدولة المركنتيلية اتجهوا اتجاهين مختلفين في تفسير أسباب العنف رغم اتفاقهما على ضرورة وضع " عقد اجتماعي " تتولى بمقتضاه السلطة إما " إبادة الوحوش التي تهدد الأمن والسلم الاجتماعي " عند البعض ( توماس هوبز ) أو تضمن خضوع الجميع لأحكام هذا العقد على أن يبقى من حق الشعب، رعايا الدولة، خلع هذه السلطة كلما حادت عن دورها ووظيفتها. ويعتبر الفريق الاول من هذا التيار ان المجتمع في حالته الطبيعية يتميز بالشهوة اللامحدودة للفرد وبالخوف من كل شيء آخر سواه والمجتمع هو بمثابة غابة يسيطر فيها القوي على الضيف وبانعدام الأمن. ومن هنا تأتي الحاجة للقبول بالتنازل عن جزء من حرية الفرد في إطار عقد تتولى سلطة قوية ( هي في الحقيقة الوحش الأعظم ). وعلى هذا الأساس برر هوبز قمع الدولة وتسلط الحكم ( الملكية ) باعتبارها آلية لضبط النظام العام والتحكم في العنف الفردي والانفلات الاجتماعي ( الثورة ) للحفاظ على الاستقرار والسماح لها برعاية عملية خلق الثروة والتجارة وتنمية الصناعة. وقد لخص توماس هوبز أفكاره بالقول " إن العقول بدون قوة السيف ليست سوى كلمات لا قدرة لها أبدا على المحافظة على حياة الإنسان، وإن الكلمات أضعف من أن تستطيع ردع طموح الأفراد أو غضبهم أو انفعالاتهم ". أما الفريق الثاني وهم رواد الفكر التنويري وواضعي الأسس الفكرية والنظرية للنظام البرجوازي ( أشهرهم جون لوك John Locke ستيوارت ميل وجون جاك رؤوس ) فقد اعتبروا على خلاف توماس هوبز أن المجتمع انبنى على القانون الطبيعي الذي أساسه الحرية والمساواة ولكن الصراعات التي جرت أساسا حول ملكية الارض وتحوزها كان سببا في الاصطدامات وموجات العنف لذلك فإن القانون الطبيعي للحياة الاجتماعية يتطلب إطلاق حرية الملكية على أن تكون هناك سلطة قادرة على حمايتها. غير أنه لن يتسن لهذه السلطة الاضطلاع بدورها ما لم تستند إلى عقد اجتماعي يلزم الجميع بالخضوع لها. وقد ذهب جون جاك رؤوس بعيدا في هذا النهج حيث فسر العنف بكونه نتيجة طبيعية للشقاء والبؤس الناجم عن نظام الملكية الفاسد وعن انعدام المساواة وعن التوزيع غير العادل للثروة لذلك يقول " إن أول إنسان وضع يده على أرض معينة وقال إنها ملكه، ووجد من حوله أناسا بسطاء صدقوه، كان أول من أنشأ المجتمع المدني، وهو بذلك أول من خلق الجرائم والحروب والقتل والبؤس بين أفراد الجنس البشري ".

في سياق أكثر تطورا وعمقا اعتبرت الماركسية، التي يمكن اعتبارها اتجاها مستقلا بذاته رغم اشتراكها مع التيارات الاجتماعية في كون العنف ليس مسألة فطرية بل هو مكتسب من البيئة والمحيط الاقتصادي المادي والاجتماعي والثقافي، أن تاريخ الانسانية هو تاريخ صراع بين الطبقات، صراع بين المستغلين والمستغلين. والعنف هو إفراز للمجتمع الذي انقسم على نفسه وأصبحت تشقه مصالح متعارضة تفترض في طور من أطوار اشتدادها اللجوء إلى العنف لحسم الصراع الذي يجري بصددها.

لقد استفادت الماركسية من كل ما سبقها مما راكمته البشرية من أفكار ونظريات في الاقتصاد والسياسة والفلسفة وعلم الاجتماع فأعادت صياغتها بعد ان صوبت ما فيها من مثل طوباوية واستخرجت منها القوانين العامة التي سيرت وتسير المجتمع البشري.

من هذه القوانين وبارتباطها بمسألة العنف تعتبر الماركسية انه حينما يقف العنف السياسي الذي تمارسه الدولة عائقا امام التطور الاقتصادي فان الدور التاريخي للعنف يكون مضادا للتحول او التطور. وبالتالي فقد اكد انجلز بان هناك عنف سياسي وعنف اقتصادي وغالبا ما يحدد الثاني الاول ما دام العنصر الاقتصادي هو اساس تطور المجتمع.

ومهما كان من أمر فإن دحض فكرة نشوء العنف واندلاع موجاته المتتالية على مر العصور جراء الطبيعة الشريرة للإنسان وأنه على العكس من ذلك نتيجة للصراعات التي تشق المجتمع وإفراز لتعارض المصالح بين الأفراد والطبقات الاجتماعية وأنه مرتبط بعمق هذه الفوارق وحدتها. فعلى قدر ما كثرت مظاهر الاستغلال والبؤس والفقر واللامساواة شهدت المجتمعات انفجارات ومصادمات مورس فيها العنف في شكل فردي او جماعي كأشد ما يكون. ولعل ظاهرة الاٍرهاب التي يعرفها عالمنا المعاصر هي واحد من الأشكال الأفضع للعنف رغم أن فترات سابقة من التاريخ، وفي أكثر من مكان، كانت عرفت مآسي ووحشية لازال صداها يصم أذان مئات الأجيال اللاحقة من شعوب الدنيا.

وما الاٍرهاب الا طور من أطوار العنف وشكل متقدم من أشكاله. وعلى غرار الجدل حول معنى العنف وأسبابه الذي عرضنا بسطة موجزة حوله فإن الجدل حول مفهوم الاٍرهاب لازال هو الآخر جاريا ولم يتسن بعد حسمه باتجاه الاتفاق على تعريف موحد مسلم به. فقد تنوعت وتعددت التعريفات والتفاسير وذهب في ذلك كل حسب الزاوية التي نظر منها للموضوع أكانت اقتصادية ام اجتماعية ام سياسية ام عسكرية أمنية ام ديبلوماسية.

كانت أعمال العنف التي شهدتها الثورة الفرنسية ما بين 1792 و179 منطلقا لظهور هذا المصطلح الجديد " الاٍرهاب ". وللتذكير أن المجموعة البرلمانية التي تسربت للحكم آنذاك جماعة " الجبل " والتي أزاحت منه بعد صراع متعرج ومرير " الجيروندي les Girondins خوفا من الالتفاف على الثورة اتبعت " سياسة الرعب " أو الإرهاب ( بمفعول قانون مارس 1793 والتي تم تعزيزها بقانون المتشابه فيهم سبتمبر 1793) وكانت تشترك في ذلك مع عدد من الفصائل الأخرى خارج البرلمان او محدودة التأثير داخله ولكنها كانت تحصى بوزن مهم في وكمونة العاصمة باريس. إذ لم تكف الأجنحة المتطرفة ( les enragés - les sans culottes- les Hébertistes ) الممثلة للفئات الشعبية الفقيرة (tiers État ) عن الضغط من أجل تفعيل هذه السياسة بأقصى درجات القساوة والشدة. وفي ظل هذه السياسة تم للفترة الممتدة ما بين ديسمبر 93 وفيفري 1794 شنق عشرات الآلاف من الفرنسيين.

غير انه لا بد من القول أن هذا المصطلح الجديد ( الاٍرهاب ) ظهر كسياسة لمواصلة الثورة وتعميقها ولحماية السلطة من سطو الملكية وقوى النظام القيم عليها وهو ما يتعارض مع ما بات يعمل من أجله الاٍرهاب لكل الفترات التي عقبت الثورة الفرنسية.

بلغة أخرى وعلى امتداد أكثر من قرنيين من الزمن ظهرت مجموعات وتيارات ارهابية تنشد كلها الحكم حاملة معها معاني وخصائص جديدة لا تنطبق الا عليها في نظر كل أوساط عالمنا المعاصر ( مفكرون ومحللون وساسة وحتى رأي عام ).

عود على بدء نكرر أن الاٍرهاب هو طور متقدم من انواع العنف السياسي والإجرامي وشكل من ابشع اشكاله يتفق الجميع - على اختلاف المدارس الفكرية والانتماءات السياسية والنظم العسكرية والأمنية - على انه عمل إجرامي يعتمد القوة المفرطة ولا يفرق بين المدنيين وغير المدنيين ويستعمل طرقا متجددة ومتحركة غير خاضعة لمعايير الحروب الاعتيادية ( les normes des guerres conventionnelles ).

ومع هذا ينبغي القول أن الجهود المبذولة دوليا في أوساط الخبراء والمثقفين والساسة ورجال القانون على اختلاف اختصاصاتهم لم تتوصل بعد إلى الاتفاق على تعريف موحد لظاهرة الاٍرهاب. حتى في منظمة الامم المتحدة كبرى المؤسسات الدولية بقي مازال هذا الاتفاق بعيد المنال بسبب تردد الكثير من الدول في اعتناق رأي موحد خشية الخلط بين الاٍرهاب وحركات المكونة المشروعة للاستعمار او للاستبداد والاضطهاد السياسي او العرقي او الثقافي وغيره. لكن وبرغم ذلك فان الجمعية العامة للأمم المتحدة وضعت في لائحتها عدد 60/49 بعنوان " إجراءات للقضاء على الاٍرهاب الدولي " بتاريخ 9 ديسمبر 1994 تعريفا للعمل الإرهابي يعتبر هو الأكثر إجماعا من زاوية القانون الدولي نصه أن الأعمال الإرهابية هي كل : " الاعمال ذات الأهداف السياسية والتي يقع تدبيرها بغاية بث الرعب في عموم الناس، مجموعة أم أفراد، وهي أعمال لا تبرر تحت أي ظرف او مسوغات مهما كانت سياسية ام فلسفية ام ايديولوجية ام عرقية او اي مسوغ آخر يمكن التحجج به ".

اما المجلس الأوروبي فقد وضع جملة من الاعتبارات المبدئية لتعريف الاٍرهاب ( على موقعه في باب تحت عنوان الحرب والارهاب ضمن دليل تنشئة الشباب على حقوق الانسان manuel pour la pratique de l éducation aux droits de. l homme avec les jeunes ) هي كالتالي :
1 - العمل الاٍرهاب له يهدف إلى غايات استراتيجية اكثر منها مباشرة فالهجوم بقنابل على المدنيين مثلا إنما يهدف إلى تأليب الرأي العام للضغط على الحكومات
2 - يمكن ان يكون مجرد التهديد بالعنف عملا ارهابيا طالما هو يولد الخوف لدى من يقع تهديدهم وربما لهذا التهديد أغراض سياسية.
3 - يمكن ان يصدر العمل الإرهابي عن الدولة ولكن هذا الرأي يبقى موضوع جدل بين المختصين والملاحظين رغم ان الدولة الوطنية état nationهي أصلا أكثر الأطراف مرشحة لممارسة الاٍرهاب
4 - رغم ان الكثير من الخبراء مازالوا يعارضون ذلك، فإن كل عمل يستهدف قوات الجيش والأمن ومسؤولي الدولة والسياسيين هو عمل ارهابي.

ومهما كان من امر فان الاٍرهاب الذي أصبح ظاهرة دولية عابرة للحدود يوحد أوساطا لا محدودة لا فقط من الهيئات الرسمية على الصعيد الوطني والدولي وإنما أيضا على أطيافا متعددة ومتنوعة من التعبيرات السياسية والمدنية والمواطنين التي تجد نفسها كلها في سياق موحد لمقاومة غول يهدد الجميع مهما كانت التناقضات والصراعات الاخرى ذات الطابع الايديولوجي والسياسي والاقتصادي والاجتماعي والثقافي.

الاٍرهاب في العالم القديم وفي الثقافة العربية الاسلامية
كيف لا والعالم الحديث يجر وراءه تجربة طويلة ومريرة مع هذه الآفة التي ما انفكت تتجدد في أساليب تنظيمها وأشكالها وأصبحت خطورتها تتجاوز حدود الخيال فتكا وتقتيلا. فكل أدوات الوقاية والتجسس والحراسة والحماية والمراقبة باتت كأنما هي عاجزة عن منع الاغتيالات والهجمات الإرهابية وعمليات الاختطاف والتفجيرات بكل اشكالها. بل صرنا اليوم حيال نوعية جديدة تتعدى بكثير ما هو متعارف عليه من مجموعات صغيرة تتحرك تحت جناح الظلام. نحن اليوم حيال حركة ارهابية بخصائص أعمق وأخطر تضاهي الحركة الفاشية والنازية التي تحمل برنامجا يستهدف كل مكتسبات البشرية على صعيد تنظيم الدولة والمجتمع والحياة العامة والعلاقات الاجتماعية والبشرية ونمط الحياة والتفكير والثقافة.

إن داعش هي خلاصة وأعلى درجات المنظومة الإرهابية التي تدرجت على مر التاريخ حتى استوت اليوم في حركة عالمية ترنو إلى السيطرة على العالم وتنشد إقامة عالم جديد لم يكن في الحسبان ان ترتد إليه البشرية بعد القفزات العملاقة التي قطعتها نحو الحضارة والحداثة.

إن الاٍرهاب ليس بظاهرة جديدة على المجتمع الإنساني. فحتى في العهود القديمة ظهرت حركات اتخذت من الاٍرهاب وسيلة لتحقيق أهدافها السياسية ومن أبرز هذه الحركات الزيلوت اليهودية التي نشطت في فلسطين في القرن الاول الميلادي لإرهاب السكان المسيحيين خاصة وذلك باستعمال الخناجر والقيام بعمليات اغتيال غادرة واستغلال التجمعات العامة. ويحفظ لنا التاريخ أيضا حركة the thuggee في الهند التي كانت تنصب كمائن للمسافرين وتقوم بذبحهم وخنقهم في حفلات خاصة وقد استمرت هذه الفرقة الإرهابية في نشاطها حتى موفى القرن 19.

ومعلوم أن تاريخنا العربي الاسلامي حفل هو الآخر بأعمال يمكن اعتبارها إرهابية. ونذكر في هذا الصدد سلسلة من العمليات التي جدت منذ فجر الدعوة الاسلامية ذلك ان النبي محمد كان أشرف بنفسه على بعض عمليات اغتيال استهدفت أشخاص كانوا يناوئون الدعوة ويفسدون عليها انتشارها في المدينة بعد الهجرة من مكة. ولعل أشهر هذه العمليات التي ذكرتها كتب التاريخ العربي المشهود بصحتها ( للبخاري والطبري وابن الأثير الجزري وابن تيمية وابن قيم الجوزية الخ ... ) الاغتيالات التي طالت زعماء يهود من بني النضير وخيبر وبني حارثة الخ...

واستنادا على أبحاث المفكر العراقي المعروف الهادي العلوي (مؤلفه فصول من تاريخ الاسلام السياسي - باب الاغتيال السياسي في الاسلام) نكتفي بذكر أربع عمليات اغتيال ( أو قتل غيلة كما قالت العرب ) هي :

- اغتيال كعب ابن الأشرف وهي عملية الاغتيال الأولى بحسب ما ذكر في كتب التاريخ وهو يهودي من بني النضير نشط بقوة ضد الدعوة المحمدية منذ اول الهجرة إلى المدينة وتعاون مع قريش ضد محمد فكلف النبي احد الصحابة محمد بن مسلمة وأخاه من الرضاعة أبو نائلة باغتياله فكان ذلك في مكان قريب من المدينة وحملا رأسه لمحمد " برهانا على نجاح المهمة " ( فصول من تاريخ الاسلام السياسي الصفحة 186).
- اغتيال سلام ابن ابي الحقيق يهودي من بني النضير هو الآخر ناهض الدعوة المحمدية وحرض عليها كبار زعماء القبائل اليهودية وقريش قبيل واقعة الخندق فاغتالته مجموعة من قبيلة الخزرج في منزله ليلا بعد ان تسللوا الى منزله داخل أسوار حصن قبيلة خَيْبَر وكان محمد ( كما رواه الكثير من شيوخ الاسلام الكبار الوارد ذكرهم أعلاه ) هو الذي دبر العملية وأذن بتنفيذها.
- اغتيال ابن سنينة يهودي من بني حارثة قتله غيلة بأمر من النبي محمد الصحابي محيصة بن مسعود وقيل ان جماعة من اليهود اشتكوا الفعلة لمحمد فرد عليهم " إنه لو قر كما قد قر غيره ممن هو على مثل رأيه ما أغتيل، ولكنه نال منا الاذى وهانا بالشعر " ( ذكره البخاري في كتابه فتح الباري ص 184 - المجلد 6 وخصص له بن تيمية عشرات الصفحات في تفسير هذه القولة في كتابه الصارم المسلول ).
- اغتيال أبو عفك يهودي من بني عمرو بن عوف كان شديد العداء لمحمد وكثير التحريض على قتله بين معركتي بدر وأحد قتله الصحابي سالم بن عُمير الأنصاري وقد أقر النبي محمد هذه العملية.
وَمِمَّا يذكر أيضا نقلا عن الطبري عمليات أخرى كثيرة من أشهرها اغتيال خالد بن سفيان الذي كان يعبئ قبيلته ( هذيل ) لمهاجمة المدينة فكلف النبي الصحابي عبدالله بن أنيس بقتله وهو ما تم فعلا وفشل الهجوم الذي كان مقررا.

لم تتوقف الاغتيالات عند هذه الفترة بل تواصلت خلال الخلافة الراشدة وبشكل أفضع وطالت ثلاثة خلفاء راشدين عمر بن الخطاب وعثمان ابن عفان وعلي بن طالب. وكان وراء هذه الاغتيالات خلافات فكرية وسياسية تسببت في انقسامات حادة في صفوف المسلمين.

استلم عمر الخلافة بعد وفاة ابي بكر اول الخلفاء وتوصية منه وعرفت الدولة الاسلامية في عهده تمددا مذهلا حتى شملت كامل العراق ومصر وليبيا والشام وفارس وخراسان وشرق الأناضول وجنوب أرمينية وسجستان، وبذلك سيطرت على كامل أراضي الإمبراطورية الفارسية الساسانية وعلى جزء كبير من أراضي الامبراطورية البيزنطية. ويقال في الرواية الأكثر تصديقا ان الذين بقوا على المجوسية يضمرون الحقد والكراهية لقائد الدولة الإسلامية لذلك اتفق المؤرخون على أن قتله جاء على يد فارسي يدعى أبو لؤلؤة فيروز الفارسي بخنجر ذي نصلين وهو يُصلي الفجر بالناس، وكان ذلك يوم الأربعاء 26 ذي الحجة سنة 23 هـ، الموافقة لسنة 644 م، ويقال ان صاحب الجريمة قتل ستة آخرين وجرح عددا آخر عندما حاولوا المسك به ولما وقع بين أيدي الحاضرين طعن نفسه بذات الخنجر ومات.

كان اغتيال عمر سابقة من نوعها فتحت الباب على مصراعيه لمسار لن ينته من عمليات الاغتيال استهدفت ولفترة طويلة الماسكين بالحكم. ولئن كان اغتيال عمر عملية فردية معزولة فإن سلسلة العمليات الطويلة اللاحقة كانت على الأغلب منظومة وبتدبير من مجموعات معارضة للحكم أشهرها فرقة الخوراج.

ظهرت هذه الفرقة إبان تولي عثمان ابن عفان الخلافة وبالتحديد حسب المؤرخين بعد ست سنوات كردة فعل على ما أسموه حياد عثمان عن جوهر الشريعة الاسلامية وانصرافه إلى مظاهر البذخ والإسراف وسوء التصرف في مال المسلمين والتصرف في شؤون الحكم بغير ما اتبعه أسلافه ( تسمية ذويه ولاة على الأقاليم : تسمية أخيه من أمه الوليد بن عقبة على الكوفة ). ولما لم يتراجع عثمان عما كان يؤاخذ عليه، بل بالعكس امعن فيه ويتمادى، بدأ عدد من الصحابة في المجاهرة بمعارضته ( أبو ذَر الغفاري، عمار بن ياسر، طلحة بن عبيد الله ...) حتى خرجت حركة المعارضة إلى الأقاليم فانتشرت وتوسعت بل وتحولت إلى تمرد انتهى بالاعتصام في المدينة ثم محاصرة بيت عثمان وقتله سنة 35 هجري الموافق ل 656 ميلادي.

وبيع علي بن ابي طالب خلفا له وعسى ان تهتف القلاقل في المدينة نقل علي عاصمة الخلافة إلى الكوفة غير ان ذلك لم يكن كافيا لعودة الهدوء بل ظل الفريق المطالَب بالتعجيل بالقصاص من قتلة عثمان يضغط ( عائشة وزبير بن العوام ومعاوية بن ابي سفيان والي الشام ) يضغط حتى اضطر علي لخلع معاوية فنشبت الحرب وحصلت المواجهة ( موقعة صفين ) التي انتهت بالتحكيم بين الطرفين ( ابو موسى الأشعري عن علي وعمرو بن العاص عن معاوية ) انتهى لصالح معاوية بن أبي سفيان.

قبل علي بنتائج التحكيم فخرج عنه جزء من جيشه رافضا التحكيم ونتائجه ( الخوراج ) وكان مرة بينهم وعلي المواجهة انتهت بهزيمتهم وتشتيت صفوفهم. ولم تمردا سنتان حتى دبر الخوراج عملية اغتيال متزامنة لكل من معاوية ابن أبي سفيان وعمرو بن العاص وعليه ابن أبي طالب نجا منها معاوية وابن العاص وقتل علي في مسجد الكوفة سنة 40 هجري ( 661 ميلادي ) وكانت تلك هي الفتنة الكبرى.

أطلنا في استعراض تفاصيل هذه المرحلة واغتيالاتها لأهميتها والتبعات التي ستتبعها في تاريخ الدولة الاسلامية الوليدة وبالخصوص لما سيتلوها من سريان تقليد الاغتيال في تاريخ العرب والمسلمين. وهو تاريخ تلطخت فيه أيدي سلطات الحكم والمعارضة على حد السواء بأنهار من الدماء.

لقد أصبحت الاغتيالات وعمليات القتل عادة وأسلوب تعامل رسمي وسياسي للتعاطي مع الخصوم والمنافسين على الحكم حتى داخل العائلة الواحدة لم ينجو فيها أحيانا الأب من ولده والابن من والده ولا الأخ من أخيه. ولا يمكن في هذا الإطار تعداد مئات - إن لم تكن أكثر - عمليات الاغتيال لكثرتها وتنوع أشكالها وطرق تنفيذها مع ما صاحبها من فضاعت والتمثيل بجثث ضحاياها وكل ضروب التشنيع الأخرى.

جرى كل ذلك باسم الاسلام وتحت غطاء الاسلام وبادعاء احتكار تمثيل الاسلام فتعددت المذاهب والطوائف وتوالدت الفرق وتناسلت الشيع والمجموعات التي بات الاسلام يقترن عند بعضها بالإرهاب والرعب. وعلى سبيل الذكر فقط نفتح قوسا بخصوص واحدة من هذه الفرق الدموية التي تتقارب في مقاربتها وفي أساليب عملها وممارساتها مع ما يحصل في عالمنا المعاصر بذات التبريرات والمسوغات وهي فرقة الحشاشين والتي استمدت من اسمها اللغة الفرنسية مصطلح assassin .
ظهرت فرقة الحشاشين في القرن 11 ميلادي ونشطت واستمرت لقرنين تقريبا واقامت " دولة" على قمتم الجبال في القلاع الحصينة لنشرة دعوتها في إيران والشام حيث كان لها انتشارها الأهم. ليس يرد تفسير دقيق ومسلم به لهذه التسمية وتضاربت تفسيراتها ولكن ما اتفق عليه المؤرخون هو أن هذه الفرقة هي فرع من الإسماعيلية ( الشيعة ) النزارية نسبة للخليفة الفاطمي نزار المصطفى لدين الله الذي انقلب عليه اخوه المستعلي بالله وافتك منه الحكم بعد وفاة والده فانشق عليه حسن الصّباغ مؤسس فرقة الإسماعيلية النزارية وبدأ بنشر عقيدته في إيران والشام إلى أن سيطر على " قلعة الموت " وبسط نفوذه على منطقة مهمة من ايران التي كانت آنذاك تعتنق المذهب السني.

تقوم فرقة الحشاشين مجموعات من " الفدائيين " المتخصصين والمدربين على الاندساس في جيوش الدول الأخرى والبلاطات والوصول إلى مواقع متقدمة في حواشي السلاطين والملوك الأمر الذي يسمح لهم بتنفيذ الاغتيالات التي يخططون لها. وقد توصلوا فعلا إلى اغتيال العديد من الملوك نذكر منهم الخليفة العباسي المسترشد والخليفة الفاطمي الآمر بأحكام الله والوزير السلجوقي نظام الملك وغيرهم كثيرون.

يشترك الحشاشون مع المجموعات الإرهابية المعاصرة في الاستراتيجية العسكرية التي كانت تختلف تماما عن التقاليد العسكرية المتبعة في عصرهم. فهم لا يملكون جيوشا كبيرة ولا يخوضون مواجهات حربية وإنما يقومن باغتيالات انتقائية لكبار مسؤولي الدول المعادية وهامة ما يقترفون هذه الأعمال في الساحات والأماكن العامة بغاية بث الرعب حتى وإن أدى الأمر إلى " استشهاد " فدائييهم الذين إن لم يتسن لهم الهرب ينتحرون حتى لا يقعوا بين أيدي الأعداء.

ومن أوجه الشبه الأخرى أن كان الحشاشون يقيمون في قطاع حصينة على قمتم الجبال حيث يخزنون الماء والمؤن وهو ما سمح لهم بالتحصن من الهجمات لمدة قرنين تقريبا إلى تم القضاء عليهم من طرف الملك المنغولي هولاغو في مذبحة كبيرة وردت حولها الكثير من القصص.