سيميائية الموت في موسيقى قيامة ابن أدم للروائي والشاعر علي لفتة سعيد


طالب عمران المعموري
2024 / 4 / 9 - 15:47     

لقد شغلت موضوعة الموت حيّزًا شاسعًا من تفكير الفلاسفة والشعراء، قديمًا وحديثًا، وتنوّعت رؤاهم، وقد اشتغل الشعراء في نصوصهم الشعرية أيضا على تلك الموضوعة واهتمامهم بتيمة الموت، فقد شكذل الموت ظاهرةً موضوعاتية مهيمنةً على نصوص الشعراء، وتبرز انفعال الشعراء بالموت وتترجم فلسفاتهم ورؤاهم ونظرتهم للموت والخلود والعدمية ..علي لفتة سعيد من أولئك الشعراء الذين عالجوا تيمة الموت بمعرفةٍ ذاتيةٍ وفلسفةٍ تختصّ به كفكرةِ تعبّر عن قلقٍ انطولوجي داخل القصيدة، وهذا ما نلمسه في مجموعته الشعرية (موسيقى القيامة أو قيامة ابن آدم) الصادرة عن دار وتريات للطباعة والنشر والتوزيع ، 2024. والتفاعل الوجداني للشاعر مع حتمية الموت، بدءًا بالعنونة الذي يصدمنا مباشرةً بهذه العتبة النصية تفتح أمام القارئ الأسئلة والتأويل الذي جاءت بلغةٍ انزياحيةٍ (موسيقى القيامة) والتي تحمل في طيّاتها ثنائية الحياة / الموت، حيث أن الموسيقى التي ترمز للحياة / والقيامة في دلالتها، تعني الموت، وفي عنوانها الآخر القيامة التي تقع على ابن آدم وما يعزّزه في عتبة الإهداء الذي جاء (مهداة لك) جعل للموت صوت :
"للولادة صوت
للريح صوت
للمطر صوت
للموت صوت" ص28

استغرق الموت جلّ نصوص الشاعر علي لفتة سعيد، إذ لا يخلوا نص من ورود لفظة الموت أو مرادفاتها سواء بدلالتها القصدية أو بدلالتها الانزياحية، لأن الموت فعلٌ خارج عن قدرات البشر، وهو فعلٌ قهري يمارس ضد الإنسان، لذا تعاطى الشاعر مع تيمة الموت في تجربته انطلاقًا من الرؤيا الفلسفية والرؤية العقدية والوجودية التي ينظر من خلالها للموت.
إن المقاربة التطبيقية لاستجلاء تيمة الموت في نصوص الشاعرسعيد نلمسها من الثنائيات المتقابلة والضدّية التي اعتمدها، فالموت فعلٌ وجوديّ يطال الإنسان، يهدّده في حياته، لهذا هو يتضاد مع الحياة، خلق الإنسان كي يموت، ويموت الإنسان كي يبعث حيّا من جديد، بهذه الثنائية تتضح حقيقة الموت والحياة، فالحياة عتبة الموت، وهو بدوره عتبة للحياة الأخروية :
(ما تركوا في الأثر غير أن نموت)،( كلّ من عليها سيفنى)ص34
الموت كجزءٍ من الحياة والتفكير في معانيه الفلسفية، مثل الموت كنهايةٍ للحياة أو كبوابةٍ إلى عالم آخر.
أما الموت بحضوره السلبي، فنراه مكثّفًا لرمز الموت، حيث تتّسع دائرة تيمته في تشكيلها اللساني، إذ تنفتح مجموعته في نص(أناشيد القيامة) والتي يتكرّر فيها لفظ الموت بلفظ المباشر 33 مرّة، وبلفظ غير مباشرٍ بألفاظ دلالة الموت، أو يذكّرنا بفاجعة الموت ( قابيل، الغراب ، القبر، الحروب، قتل، الشهداء، القرابين، الطوفان، الصليب، الدم، الدفوف، الحريق، الطبول، الندب، القيامة، السكين، فجيعة، الفراق، الدمعة، الحصاد، الكبش)
"مذ أن أغوت الأفعى آدم
مذ أن فرحت حواء باللّذة
مذ أن تباهى قابيل وهو يبحث عن سوءةَ الدم
مذ أن حفر الغراب قبرًا لأخيه
نحن لم نزل نموت
كان صوت من فسّر لنا كلّ هذا التاريخ يقول:
موتوا
هكذا علّمتنا الحروب كيف نموت
كيف نزرع في عقول الأولاد موتهم القادم" ١
إن الأفعال الشنيعة التي طالت الذات الشاعرة ـ دلالة على الموت المبرمج والممنهج " نحن لم نزل نموت"
استخدام الموت في نصوص سعيد، إبراز قيمة الحياة وقابليتها للتغيّر والتحوّل. والتأمّل في كيفية تأثير الموت على تجربة الحياة والحاضر، وكيف يشكّل الموت جزءًا من تفاعلاتنا اليومية وقراراتنا.

فلسفة الموت والحضور
شغلت تيمة الموت خطابه الشعري لما مرّت البلاد بظروفٍ صعبةٍ من دكتاتوريات وقتل بالجملة بالأوبئة والحروب والانتفاضات والنزاعات الطائفية وموجات الإرهاب، لذا نجد أشكال الموت حاضرةً في النص، ومنفتحةً على كلّ القراءات والتأويل.
ففي نصوصه، يتم استكشاف هذا الموضوع من عدة زوايا، منها التقدير والوعي باللحظة الحالية التي يمكن أن تعمل فكرة الموت كتذكيرٍ لنا بأهمية تقدير كلّ لحظةٍ وتجربةٍ في حياتنا، وبالتالي يشجّعنا على التركيز على الحاضر والاستمتاع بكلّ لحظة .
" والحياة ليس لها إلّا دورة واحدة
عيشوا كرماء معنا
نحن أدلاء الطريق " ص34
التأمل في الموت والقيمة الحية: يُظهر في نصوصه كيف يمكن لفكرة الموت أن توجّهنا نحو تفكيرٍ أعمق في الحياة ومعانيها، وقد يتم استخدام القصائد للتأمّل في الغاية النهائية للوجود وما يجب أن نفعل أو نكون في الوقت الحالي.
" كيف إذن
سنموت
قالوا لنا موتوا
واحملوا معكم قبوركم صوتا للفجيعة" ص35
ميثولوجيا الموت :
يعد الرمز من أهم الأدوات التي تستر بها الشاعر ليعبر عما تكنّه النَّفس من مشاعر وأحاسيس، وعما يحمل الفكر من مواقف وتصورات، وإن الرمز يمثل أداةً مهمّةً من أدوات الشاعر التي يتّكئ عليها في إنجاز تجربته الشعرية (موسيقى القيامة او قيامة ابن آدم) في التعبير عن رؤاه ومواقفه الذهنية والفنية، وأن في جزءٍ كبيرٍ من قصائده الإيحاء بالمعنى بدلاً من التعبير عنه بشكلٍ مباشر. وأن للرمزية دورًا هامًا في التأثير على نفسية المتلقّي وإثارة مشاعره.
لقد تجاوز شاعرنا الأساليب التعبيرية القديمة واستبدالها بأساليب جديدةٍ تستجيب لطبيعة المرحلة والعصر، مال الى النسق الحداثي وفق رؤىً جديدة، تنوّعت دلالاته الرمزية وكثافتها واتباع المنهج التعبيري غير المباشر.
إن الشاعر استثمر الحمولة الدلالية للأسطورة والرمز ليعبّر عن الموقف والرؤيا الشعرية، ففي نصوصه نرى جليا، الرموز والمفردات الأسطورية والشخصيات التاريخية ( "قرابين"، "اللوح"،" اوروك" "جلجامش"، " انكيدو" و"سيدوري") ص32، حيث يتطرّق الشاعر وبلغةٍ شعريةٍ قضيةً حتمية الموت بالإشارة الى ملحمة جلجامش التي تحدّثت عن الموت والخلود والجبروت البشري، موت صديقه المقرّب أنكيدو أمام عينيه، وكيف للموت أن يهزم القوّة والشباب، وهذا ما يدفع جلجامش للبحث ومعرفة سرّ الخلود، ويعبر مياه الموت، ويغوص في أعماق المحيط، ويحصل على تلك النبتة، نبتة الخلود ليحملها الى أرض أوروك، لكن جلجامش يفقد النبتة وهو في طريقه الى أرض الوطن، فقد ابتلعتها الأفعى عندما كان جلجامش نائماً:
"قالها جلجامش وهو يغوينا بالعشبة
وكتب على اللوح في أوروك
ان صدّقتم بالطوفان صدقوا أنكيدو
فيما كانت سيدوري تسقي الخمرة للعابرين الى الفراغ"
يرى الشاعر صلاح عبد الصبور "أن الدافع إلى استعمال الأسطورة في الشعر ليس مجرّد معرفتها، ولكنَّه محاولة إعطاء القصيدة عمقًا أكثر من عمقها الظاهر، ونقل التجربة من مستواها الشخصي الذاتي إلى مستوى إنساني جوهري)2
يعمد الشاعر في إيصال رؤيته وموقفه عن طريق الإيحاء، وتكمن أسباب اللجوء إلى الرمز – كما يرى محمد فتوح أحمد- إلى أن" النَّفس البشرية ذات طبيعة غامضة ومعقَّدة، لا تستطيع الوسائل المباشرة أن تعبر عنها؛ لذلك يلجأ الشعراء إلى الرمز للإيحاء بأغوار هذه النَّفس وتلك الحالات النفسية والعوالم الخبيئة التي تقبع في أعماقها، ذلك أن الرمز تمكّنه الطبيعة من تجاوز عالم الحس إلى العالم المجرد، وبالتالي فإنَّه يتسنَّى له أن يوحي بأعماق النَّفس وأغوارها الغريبة المدهشة" 26
توظيفه للرمز لما يحمله من إثراء للصورة الشعرية وما يحقّقه لها من انفتاح دلالي على دلالاتٍ لا متناهية ومن حيوية تخرجها من نسقيتها المألوفة الى نسقيةِ جديدةٍ كما في الثنائيات التي اعتمدها الشاعر:
"الدفوف بالويل"، "الدم بالصليل "، و"النكاح بالرحيل"
"الدفوف بالويل": يمكن تفسير هذه العبارة كرمزٍ للحرب أو الصراع، وربما كرمزٍ للتضحية والألم، ويمكن أن تكون محاولةً للتعبير عن المشاعر الجماعية أو القهر.
"الدم بالصليل ": تُستخدم هذه العبارة لخلق صورة من الغموض والتوتر، وربما تكون رمزًا للقتل أو الدمار "
"النكاح بالرحيل": يمكن تفسير هذه العبارة على أنها تعبير عن الفراق أو الوداع، وربما تكون رمزًا للعلاقات الزوجية أو العواطف الإنسانية وكيفية تأثير الانفصال على العلاقات.
إن توظيف هذه العبارات يمكن أن يساهم في إثراء التجربة الشعرية وزيادة عمق الرسالة الشعرية.
وباختصار، ان التفكير في الموت والحضور في الشعر يمثل تواجدًا مستمّرًا لفكرة النهاية، وكيفية تأثيرها على حياتنا اليومية وفهمنا للوجود.
لذا فإن محاولة الشاعر إعطاء مجموعته موسيقى القيامة عمقًا أكثر من عمقها الظـاهر، ليكون مشروعه الشعري الذي اشتغل عليه بطريقةٍ تحريضية مبدعة، والتي حاول من خلالها إثبات هويته الشعرية. وما الاستدعاء للرمز إلّا لكونه دلالةً جماليةً موحية، تميّزت شعريته بالتجريب فكسّرت الجاهز والمألوف وفتحت أفق استشراف المجهول، يحمل وعيًا في الكتابة ووعيًا في التجديد .
المصادر
1- علي لفته سعيد ، موسيقى القيامة أو قيامة ابن آدم ،دار وتريات للطباعة والنشر والتوزيع ، العراق، بابل ،2024 .
2- محمد فتوح احمد :دراسات فنية في الادب العربي،ط3 ،دار المعارف ، القاهرة، 1984.
3- عزام محمد ، اتجاهات التأويل النقدي من المكتوب الى المكبوت، الهيئة العامة السورية للكتاب ،وزارة الثقافة ، دمشق ، 2008.