أحمد بهاء الدين صاحب الرأي الجريء


فهد المضحكي
2024 / 4 / 6 - 12:20     

قيل إنه شخصية فارقة وكاتب فذ، مثقف تنويري بامتياز، لديه وعي فائق وموهبة غير متكررة، عُرف بتحليله الجاد للقضايا السياسية والمجتمعية، سواء المحلية أو العربية، بينما كان، على حد قول الروائي والناقد المسرحي المصري فراج فتح الله، يبعد نفسه عن الخطوط التحريرية المعروفة والتي تختلط بالمواقف السياسية والأيديولوجية الجامدة.

إنه الصحفي أحمد بهاء الدين (1927-1996) رئيس تحرير مجلة صباح الخير ودار الهلال والأهرام ومجلة العربي الكويتية (1976-1982 )، تخرج من كلية الحقوق بجامعة فؤاد الأول- جامعة القاهرة حاليًا- وهو في التاسعة عشرة من عمره. وبسبب صغر سنه لم يستطع ممارسة العمل في النيابة أو المحاماة، فاضطر إلى الالتحاق بوظيفة حكومية في الأقسام القانونية.

في مقال لها، عنوانه «أحمد بهاء الدين.. أحد صنَّاع الصحافة» تقول الكاتبة الفلسطينية عبير بشير: قبل أن يبدأ أحمد بهاء الدين تجربة الكتابة الصحفية، كان قارئًا شغوفًا، واسع الاطلاع، ما أضاف إليه أعمارًا جديدة، وكانت مقالاته الأولى تتسم بالجاذبية والحس الإنساني والقدرة الفائقة على التحليل والنفاذ إلى المستقبل، مع رصيد وازن من الرصانة والنضج، أشاع لمن لا يعرفونه أنه كهل عركته الأيام، رغم أنه كان في العشرينيات من العمر. كان يرى أن الصحة الأسلوبية قرينة الصحة الفكرية. لم يكن أحمد بهاء الدين كاتبًا قط، بل هو مفكر، وأحد القلائل الذين ينتمون إلى جيل رواد الصحافة المصرية، الذي ضم إحسان عبدالقدوس، ومحمد حسنين هيكل ومصطفي أمين.

ولعل أبرز ما قاله بهاء الدين عن تجربته الصحافية: إنه يذهب في كتاباته إلى آخر حدود الأسلاك الشائكة، غير أنه يتجنب الاصطدام بالألغام، لذلك لم يكن من الصحافيين الذين عرفوا السجون ولكنه عرف النقل والفصل.

التقطته السيدة فاطمة اليوسف، والدة إحسان عبدالقدوس - السيدة الاستثنائية التي لعبت دورًا في الصحافة المصرية، وكانت لها قدرة عالية على تمييز صاحب الموهبة الحقيقية من بين الصحافيين والكتاب- واجتذبته للعمل في مجلة «روز اليوسف»، حيث إنه كان يهوى الصحافة، ودأب على كتابة خواطر بأسلوبه السهل والموجز والمركز وإيداعها في صندوق بريد مجلة روز اليوسف. أعجبت بها فاطمة اليوسف، وقامت بنشرها، وسألت عن صاحب هذه المقالات وطلبت حضوره، وفي موعد تسليم مقاله أمسك به رجال الأمن وأخذوه للسيدة اليوسف التي عرضت عليه الانظمام إلى المجلة. لتبدأ من هنا رحلة كاتب وصحافي كبير اسمه أحمد بهاء الدين. وأسس تحت رعايتها مجلة «صباح الخير» التي رفعت شعار «للقلوب الشابة والعقول المتحررة».

وبعد سنوات من التوهج، طلبه مصطفي أمين ليكون رئيسًا لمؤسسة «أخبار اليوم» عام 1959، ثم نقله عبدالناصر إلى رئاسة دار الهلال. وعندما تولي السادات الحكم، أصدر قرارًا بنقله من دار الهلال إلى روز اليوسف، وغضب أحمد بهاء الدين وكتب رسالة عنيفة للسادات قائلًا: لقد اخترعت الثورة صحافيين وكتابًا ودكاترة في كل المجالات، ولكني لست أحد اختراعات الثورة، فمن حقي أن يؤخذ رأيي في أي أمر يتصل بي شخصيًا.

لبهاء الدين عدد من المؤلفات، منها «إسرائيليات»، و«أيام لها تاريخ»، و«محاوراتي مع السادات»، و«يوميات هذا الزمان»، و«شخصيات لها تاريخ»، و«النقطة الرابعة»،و«فارق ملكًا»، و«رسائل نهرو إلى أنديرا». غير أن كتابة الأول عن الاستعمار الأمريكي،أول دق ناقوس الخطر لما ينتظرنا على أيدي الإمبراطورية الأمريكية التي نغزو الأوطان بالمال، فيقوم الاستعمار الأمريكي باحتلال الدول بالمعونات إلى جانب الجيوش. إنها نفس اللعبة التي تؤرقنا حتى اليوم وطرحها بهاء الدين وعمره 22 عامًا.

طوال سنوات عمره، سعى بهاء الدين أن يكون مستقلًا، دافع دائمًا عما يعتقده أنه صحيح، ناضل وهو في زهرة شبابه ضد استبداد الاحتلال والسريا، وكان أحد مصابي انتفاضة الطلبة عام 1946 للمطالبة بوقف المفاوضات مع المحتل البريطاني.

وعندما أنهى «الضباط الأحرار» حكم أسرة محمد علي، دعم بهاء الدين «الجمهورية» التي طالما بشر بها، ولكن، وبرأي الكاتب محمد سعيد عبدالحفبظ، نُشر بجريدة «الشروق» المصرية، هذا الدعم لم يدفعه إلى التماهي مع قادتها كما فعل غيره، فحرص على أن يكون بينه وبين ضباط الجيش الشباب مسافة، ونأى بنفسه عن المشاركة التي تؤيد «السلطة الفردية المطلقة وتتبنى أسطورة عبادة الفرد» وكتب سلسلة من المقالات بعد الثورة تدافع عن حزب الوفد باعتباره وعاءً للحركة الشعبية بمختلف تنوعاتها.

وفي الوقت الذي دعا فيه البعض إلى «إعدام الماضي» نفاقًا للعصر الجديد، أصدر بهاء الدين كتابه الشهير «أيام لها تاريخ»، ليذكّر الناس بأن «مصر لم تولد في يوليو 1952، لكن لها تاريخ عريق في طلب شيئين أساسيين العدل والحرية»، وسرد في فصول كتابه مسيرة قادة التحرير الذين ناضلوا من أجل استقلال البلاد مثل عبدالله النديم وسعد زغلول وعلي عبدالرازق وغيرهم.

يقول بهاء الدين: «جيلي كان مؤمنًا بقضايا حرية مصر وحق شعبها في العدالة الاجتماعية وكان خصمًا للاستعمار ولسلطة القصر غير الدستورية، نادى هذا الجيل بالكثير مما جاءت به ثورة يوليو بعد ذلك».

وبحسب ما نقله الكاتب الصحفي رشاد كامل عن كتاب «مقالات لها تاريخ»، فقد كان بهاء الدين مؤيدًا لثورة يوليو من باب كسر القديم، «أيدتها تأييدًا أعمق حين تغلبت شكوكها فعلًا ربما منذ 1955-1956 بوجه عام أيدتها عن اقتناع لا عن مجارة».

عندما اشتدت الرقابة على حرية الرأي وحاصرت السلطة الجديدة الصحافة، ذهب بهاء الدين إلى الكتابة في التاريخ والسياسة الدولية وفي بعض الأوقات الفن، «لكنني في كل ظروف الثورة أعتز بأنني لم أكتب غير ما أعتقد، مخطئًا كنت أم مصيبًا».

وبشيء من الوضوح، يقول عن كيفية حفاظ الكاتب على استقلاله في ظل الرقابة على الصحف:«في بلادنا يستطيع الكاتب أن يكتب في أي موضوع آخر، مثلًا كتاب» أيام لها تاريخ «كتبته في مرحلة كانت الرقابة فيها بالغة الشدة، وكان ذلك في عام 1954 أثناء أزمة مارس، وكنت أريد أن أقول إنه لابد للبلد من دستور ومن حد أدنى من الديمقراطية رغم موافقتنا على الاتجاهات الاجتماعية الأساسية للثورة، فلجأت للتاريخ، وكانت فصوله تتحدث عن حرية الرأي وضرورة الدستور من خلال قصص ومواقف من تاريخ مصر الحديث».

لم يمنعه تأييده للثورة وزعيمها من الدخول في مواجهة مع الرئيس جمال عبدالناصر نفسه، ففي مطلع عام 1968 عقد مجلس نقابة الصحفيين اجتماعًا طارئًا لمناقشة مظاهرات الطلبة التي خرجت للاحتجاج على أحكام قادة سلاح الطيران، عقب هزيمة يونيو 1967.

ووفقًا لما نقله الصحفي محمد توفيق في كتابه «الملك والكتابة.. قصة الصحافة والسلطة»، اتفق مجلس النقابة في الاجتماع على إصدار بيان ورفعه إلى المسؤولين، يساند مظاهرات الطلبة والعمال باعتبارها «تعبيرًا عن إرادة شعبية عامة تطالب بالتغيير على ضوء الحقائق التي كشفت عنها النكسة»، ويطالب بـ «حساب كل المسؤولين، وتوسيع قاعدة الديمقراطية، والإسراع في إصدار القوانين المنظمة للحريات العامة».

وعلى الرغم من الضغوط التي تعرض لها نقيب الصحفيين آنذاك أحمد بهاء الدين ومجلسه فإن البيان وصل صباح اليوم التالي إلى عبدالناصر، وهو ما اعتبره الرئيس «طعنة موجهة إليه من نقابة الصحفيين»، وعندما حاول البعض تحريضه على اعتقال النقيب قال عبدالناصر: «لأ.. ده أحمد بهاء الدين وأنا عارفه مخه كده».

على الرغم من علاقته الجيدة بالرئيس الراحل أنور السادات فإن الأخير شمله بقرارات الفصل التي أصدرها ضد عدد من الصحافيين على خلفية توقيعهم على بيان ينتقد التلكؤ في قرار الحرب. صدر قرار بنقل بهاء الدين الذي كان حينها رئيسًا لإتحاد الصحفيين العرب إلى الهيئة العامة للاستعلامات،ثم تراجع السادات عن قراره قبل اندلاع حرب أكتوبر بأيام وأعلن عودة الصحفيين المفصولين إلى مؤسساتهم خلال كلمة بمناسبة ذكرى وفاة عبدالناصر. عاش الكاتب أحمد بهاء الدين حياته داعيًا للحرية ساعيًا للاستقلال لم يبتغِ سوى وجه الوطن.

رحل بهاء الدين عن 69 عامًا وعشرات الكتب ومئات المقالات، وإجماع على نزاهته الشخصية والفكرية معًا.

في وداعه، كتبت الإعلامية الكويتية فاطمة حسين، تولى بهاء الدين تحرير «صباح الخير» وهو في مطلع شبابه، وتولى رئاسة مجلة «العربي» الكويتية وهو في قمة نضجه الفكري، وقد بقي في الأخيرة سبع سنوات كاملة. رأى بهاء الدين في «العربي» تجسيدًا فكريًا للحلم القومي الذي نادى به طويلًا، فهي ساحة مفتوحة لكل الأفكار العربية بلا حدود ودون تدخل حكومي، ولولا أنه مكتوب عليها أنها تصدر عن وزارة الإعلام بدولة الكويت ما عرف أحد من أين تصدر على حد تعبيره هو شخصيًا. وقد كتب خلال هذه الفترة افتتاحيات 76 عددًا تناول فيها مختلف القضايا السياسية والثقافية، كان فيها غاضبًا أحيانًا .. ناقدًا أحيانًا، ولكنه كان مثقفًا مستنيرًا في كل الأحيان.

وقتذاك، كتب رئيس تحرير مجلة «العربي» الدكتور محمد الرميحي مقالاً تساءل فيه: هل الوسطية تهمة أم هي خيار العقلاء؟ يجيب قائلاً: «الإجابة على هذا التساؤل صعبة مثل السؤال نفسه، لقد عاد هذا التساؤل يلح على خاطري من جديد عندما نعى الناعي من القاهرة وفاة أحمد بهاء الدين، الصحفي، والإنسان، والمفكر. ومثل غيره من المشتغلين بالشأن العام في مثل تاريخنا العربي المعاصر، سيجد من يتحدث عنه حديث العاطفة المؤقتة، وحديث الواجب من زميل لزميل، لذلك جاءت الكتابات عنه حتى الآن سريعة وعفو الخاطر، ولم يعد بالإمكان إلا ذكر مناقبه وإن بولغ فيها على طريقة العرب، ولكن أحمد بهاء الدين يستحق أكثر من ذلك، يستحق أن يعرض منهجه الفكري الذي اختطه وسار عليه من أجل دراسته بهدف الانتصار لهذا المنهج المعتدل والعقلاني، وهو الوسطية التي تقود إليها العقلانية التي نحن أحوج إليها في لحظتنا الراهنة وفي سعينا نحو المستقبل».

في رؤيته النقدية التي اتسمت بالموضوعية، يذكر الروائي فتح الله، أثبتت كل الدراسات التي بحثت علاقة المثقف بالسلطة بعد ثورة يوليو 1952، أن أحمد بهاء الدين قدم نموذجًا لهذه العلاقة، جعله أكثر موضوعية وأكثر مصداقية. كثيرون غيره من الكتاب والصحفيين ومن عموم المثقفين اقتربوا من السلطة حد الالتصاق، وقليلون هم الذين حافظوا على درجة معقولة من الاستقلالية في الرأي، والأقل هم الذين إنحازت مواقفهم لقناعتهم وحدها، سواء أيدوا صاحب السلطان أو عارضوه، من هؤلاء القلة القليلة كان أحمد بهاء الدين، الذي كان حتى في موقفه وعلاقته مع السلطة، متسقًا مع دوره ومشروعه التنويري.