عن آرون بوشنل والضمائر والمبادئ


ياسين الحاج صالح
2024 / 4 / 5 - 18:00     

قبيل رحيله، نشر آرون بوشنل، الطيار الأميركي الذي ضحى بنفسه حرقاً أمام السفارة الإسرائيلية في واشنطن يوم 25 شباط الماضي، على صفحته على فيسبوك السطور التالية: "يسائل كثيرون منا أنفسهم: ما كنت لأفعل لو عشت أيام العبودية؟ أو في الجنوب الأميركي أيام نظام الفصل العنصري؟ أو في ظل الأبارتهايد؟ وماذا علي أن أفعل إذا كان بلدي يرتكب جينوسايداً؟ والجواب هو: تفعل ما تفعله الآن بالذات".
الواقعة فريدة ولم تكن ممكنة التصور قبل شهور فحسب. أميركي يضحي بنفسه من أجل فلسطين، وضد حكومة بلده! وعباراته التي تدل على حس أخلاقي رفيع جديرة بأن تخلد في سجل الأنشطة الاحتجاجية عالمياً كشعار موجه، ذلك أنها تضمر أن مظالم الماضي مستمرة بصور وتحت أسماء مغايرة اليوم، وأن من يعيشون اليوم وقد يهنئون أنفسهم على أنهم ضد العبودية والفصل العنصري ربما كانوا سيلتمسون لأنفسهم الأعذار على عدم الاعتراض عليهما أو حتى مساندتهما لو عاشوا في زمنهما مثلما هم صامتون اليوم أو متوطئون، وأنه إذا كان من السهل اتخاذ الموقف الصائب بعد وقوع الواقعة، فإن على المرء أن يسعى لاتخاذ هذا الموقف أثناء وقوعها، على الصعوبة المحتملة لذلك. والأهم أن السؤال الأخلاقي لا يطرح علينا أبداً في ظروف مثالية، حيث الأشياء واضحة، أو حيث الخير بيّن والشر بين. هذا تصور إسقاطي من الحاضر على الماضي، بعد عقود من هزيمة النازية في ألمانيا مثلاً، أو بعد انتهاء نظام الأبارتهايد في جنوب أفرقيا، أو بعد انطواء صفحة قوانين الفصل العنصري في الجنوب الأميركي في ستينات القرن الماضي، وانتهاء عبودية الأفارقة الأميركيين قبلها بقرن. في واقع الأمر يطرح علينا السؤال الأخلاقي دائماً في ظروف بعيدة عن المثالية، ويشيع أن يكون الموقف الأصوب محملاً بالعواقب، على حريتنا أو حياتنا ذاتها، أو على الأقل ضروب من العزل الاجتماعي أو الإلغاء الذي تحول إلى ثقافة في ألمانيا الشهور الست الماضية.
زمن السؤال الأخلاقي هو الآن، اللحظة الحاضرة، وليس الماضي الذي مضى وانقضى، ولا هو مستقبل سيأتي نصير كلنا فيه عادلين أخلاقيين ذوي ضمائر حية (إلا أننا اليوم بكل أسف لا نستطيع أن نكون كذلك لأن الظروف صعبة). الظروف صعبة دوماً، والسلوك الأخلاقي لا يكون أخلاقياً إلا حين لا تكون الظروف مواتية، ولا يطرح السؤال الأخلاقي أصلاً حين تكون الأمور واضحة وعواقب خياراتنا آمنة. السؤال مطروح على المنشبكين في اللحظة الراهنة وصراعاتها وضروب المعاناة فيها، وليس على من هم خارج حقلها. كأميركي، شعر بوشنل بحق أنه معني بما كان يجري في غزة من إبادة لأن بلده هو راعي إسرائيل وأكبر داعميها عسكرياً ومالياً وسياسياً وإعلامياً، وأنه مسؤول بالتالي عما يجري هناك. وهو عبر عن مسؤوليته بالتضحية بالنفس فيما قدر أنه الموقع الأنسب لذلك، بينما كان يهتف: الحرية لفلسطين! ليست تضحية بوشنل هي الجواب الوحيد الصحيح على السؤال الأخلاقي، لكن الرجل الذي لا يتجاوز عمره الخامسة والعشرين لم يختر الإجابة الصحيحة، بل الإجابة الصانعة للصحيح، تلك التي تتشئ مثالاً وتصنع ذاكرة وتبقى على مر الأجيال.
ولأن السؤال يطرح الآن، جديداً دوماً وربما مفاجئ، فإنه ليس هناك وصفة مسبقة جاهزة تعطينا الإجابة الصحيحة، فلا يجاب عليه بإعمال مذهب أو دين أو إيديولوجية أياً تكن. هذه العقائد تقترح مبادئ وليس أخلاقيات، ويغلب بالأحرى أن تُخضِع الأخلاقيات للمبادئ التي تدعو إليها، أو حتى تدفع نحو مسالك غير أخلاقية، وإن تكن مبدئية. وبالعكس يقتضي المسلك الأخلاقي الدفاع عن استقلال الضمير عن العقيدة أو المذهب، أو المبدأ، أياً يكن. هذه النقطة مهمة في السياقات الإسلامية لأن المسلك الديني ليس حتماً أخلاقياً، هذا حين لا يكون لا أخلاقياً تماماً. رفض الترحم على آرون بوشنل، أو حتى تقرير أنه في النار لأنه منتحر وغير مسلم (وقد استطاع بعض بوابي الجنة والنار قول ذلك)، غير أخلاقي وإن يكن دينياً.
هل الضمير ركيزة كافية من أجل السلوك الأخلاقي؟ لا يبدو أن هناك ركيزة مضمونة أكثر. ضميرنا الشخصي ليس ضمانة للعدل دوماً، لكننا لا نعرف مرجعاً أخلاقياً أقوى من الضمير المطلع والمتفاعل مع ما يجري حوله، وفي شروط من الحرية. ربما يقال: الضمير فردي، فيما الفاعلون الكبار في العالم دول وتحالفات ومنظمات كبيرة، وهي المسؤولة عن كثير من الشر في عالم اليوم. هذا أكيد، إلا أن الاعتراض الضميري لعدد كبير من الأفراد في بيئات متمتعة بالحرية أكثر من غيرها هو ما أحدث فرقاً بخصوص غزة. ليس فرقاً حاسما إلى اليوم، بالنظر إلى قوة وكثافة التوظيف الغربي، المعنوي والسياسي والمادي، في إسرائيل، لكنه الفرق المحدث الوحيد. ولا يبعد أن يتشكل في قوانين ومؤسسات عبر محكمة العدل الدولية أو غيرها. بالمقابل لا يبدو أنه أمكن التعبير عن اعتراضات ضميرية من الجهة العربية، رغم ما يبدو من مساندة شعبية واسعة لغزة وفلسطين. هذا ليس لغياب الاستعداد الضميري، بل لغياب الحرية، وهو ما يضعف الضمائر نفسها بفعل تعذر نقل ما تمليه إلى أفعال وسياسة، وبخاصة في القضايا ذات الشأن. أعني بالقضايا ذات الشأن القضايا التي تعني مجتمعاتنا المختلفة بصورة مباشرة، القضايا الخاصة لكل منها، ما يتصل بشؤون السلطة السياسية والدينية وتوزيع الثروة والحقوق وغير ذلك. فإذا لم يستطع الناس الاحتجاج فيما يتصل بهذه الشؤون، أو إذا سحقت احتجاجاتهم المرة تلو المرة، انقطع تأثيرهم على السياسات العامة في بلدانهم، ولم تتطور لديهم ملكة الاحتجاج الضميري العام. أما الجهات النظامية في بلداننا فلا تشغل موقعاً أخلاقياً للوقوف إلى جانب الغزاويين والفلسطينيين لأنهم متورطة في دماء وكرامات محكوميها، ولأن غزة هنا وليست هناك حصراً. فإذا كان زمان الفعل الأخلاقي هو الآن، فإن مكانه هو هنا، حيث تكون. هنا أنت عادل وصاحب ضمير، أو مجرم أفاك، وليس هناك ضد إسرائيل أو ضد أميركا البعيدة أو ضد الغرب.
مشكلتنا مع الفعل الأخلاقي، معرفاً بالآن وهنا، تتمثل في أننا نفتقر إلى المسافة الأمثل من أجل الرؤية والتصرف الصحيح. وإنما لذلك نحتاج إلى تربية الضمير وتثقيفه كي يستجيب على أفضل وجه للمُلمّات. ونعلم بعد ذلك أنه يحدث كثيراً أن يتملكنا الشعور بالذنب وعذاب الضمير لأنه يتواتر أن لا نسلك المسلك الصحيح، بخاصة في أوضاع داهمة وغير مسبوقة. لكن مثلما يتعلم المرء من تعثراته وانكساراته، فإن الضمائر تتعلم من الأخطاء وأسواء التصرف.
وليس في هذا الطرح المجمل ما ينفي الحاجة إلى مبادئ تتوجه بها الذوات الجمعية من دول وأحزاب ومنظمات وغيرها. الدفاع عن استقلال الضمير عن المبدأ لا يعني استتباع المبدأ للضمير الذي يبدو موجهاً أصلح للأفراد منه للتكوينات الجامعة. لكن فيه (الطرح) ما يدعو إلى الحفاظ على توتر بين المبادئ والأخلاقيات، والتنبه إلى ميل المبادئ لإلحاق الأخلاقيات بها وصولاً إلى التسلل إلى ضمائر الأفراد وإخضاعها لها. المبادئ تميل إلى التحجر، وهي مدعوة لأن تجدد نفسها عبر مسائلات الضمائر. وهي إلى ذلك أميل إلى التكيف مع المصالح، بما في ذلك أشدها تمييزاً وانعدام عدالة.
تضحية جليلة مثل تضحية آرون بوشنل تتحدى مبادئ السياسة الأميركية ومصالحها غير العادلة، وتضع على جدول أعمال قطاعات تبدو متسعة من الأميركيين إعادة النظر في هذه المبادئ في اتجاهات أعدل. بعد أسابيع من تضحية بوشنل، استقالت أنيل شيلين، مسؤولة الشؤون الخارجية في مكتب الديمقراطية وحقوق الإنسان والعمل بوزارة الخارجية الأميركية، وبعيون دامعة في مقابلة مع قناة "ديموكراسي ناو" عطفت استقالتها على تضحية مواطنها الشاب.
ليس هذا للقول إن تضحية بوشنل أطلقت مسلسل تراكم كمي قد يؤدي إلى تغير نوعي في السياسية الأميركية حيال فلسطين. تطرف ووقاحة وغرور وعناد السياسات الأميركية يرجح بالأحرى نموذج التغير الكارثي، وإن كنا لا نعرف متى وكيف. ربما تكون إبادة أكبر من كل ما عرفنا بالانتظار.