العالم المتعدّد الأقطاب: شعارٌ رجعيّ


هشام عقيل
2024 / 4 / 4 - 20:12     

ملاحظة: نشرتُ هذا المقال في ديسمبر 2022، ردّاً على النّكوصيّينَ الّذين اتّخدوا (وما زالوا يتّخذونَ) شعارَ ”العالم المتعدّد الأقطاب“، ظنّاً مِنهم أنّهُ شعارٌ ثوريّ. كما جاءَ هذا المقالُ ردّاً على النّكوصيّينَ الّذينَ وَضَعوا كُلَّ رهانهم على الفِرعَون شي جين بينغ، وهامانهِ بوتين، ضِمنَ الهلوساتِ اللانهائيّةِ الّتي يعاني مِنها النّكوصيّونَ مؤخّراً. إنّ فحوى هذا المقالِ لهوَ بسيط: مَن يدافع عَن العالمِ المتعدّد الأقطاب، يدافعُ عَن تأبيدِ البنيةِ الإمبرياليّةِ العالميّة، وهوَ ناكرٌ بالضّرورةِ لعصرِ الكارثة، وهوَ عصرُ النّهايةِ الحتميّةِ للعمرانِ الرّأسماليّ عالميّاً.

—————————————————————————


إنّ البنيةَ الإمبرياليّةَ العالميّةَ في أزمة. مُعدّل الربحِ في انخفاض، أزمةُ غذاءٍ، تضخّمُ الدّينِ العالميّ، انقسامٌ عالميّ حولَ الحربِ في أوكرانيا، صراع الطبقاتِ الشعبيّة في تصاعدٍ عالميّاً، أزمةٌ مناخيّةٌ بيئيّةٌ غير مسبوقة، أزمةٌ صحّيّةٌ سبّبها وباء كورونا. وليست هذه الأزمةُ بأيّ أزمة، وإنّما هي أزمةٌ انحطاطيّةٌ شاملةٌ لا يُمكنُ الخروج مِنها، إذ دَخَلَنا فعلاً في عَصرِ الكارثة. أو بكلمات وليام ييتس:

”الأشياءُ تتداعى
والمركزُ يتهاوى؛
غزوٌ رهيب يجتاحُ العالم: الفوضى“

تمعّنوا في تخبّطِ الإمبرياليّةِ الإنكليزيّةِ في ظلّ هذه الأزمة. لم تصمد رئيسة وزراء المملكة المتحدّة أكثر مِن أربعينَ يوماً. تصوّرت حكومتها إنّه مِن الممكن إرجاع الدّوريّة الرّأسماليّة إلى الوراء، مِن الرّكود إلى الطّفرة، عبر قرارتٍ سياسيّة واقتصاديّة نيوليبراليّة، أو ما يُعرف عادةً باقتصاد التّنقيط، مفادها قطع الضّرائب المفروضة على الرّأسماليينَ، لتحفيزهم نحوَ الإنتاج، وبالتّالي رفع حالة الرّكود. تمعّنوا في تخبّطِ الإمبرياليّةِ الإيطاليّةِ (خصوصاً بعد الحرب في أوكرانيا، إذ إنّ 40% مِن واردات النفط هي مِن روسيا)، الّذي أدّى إلى صعود حكومةِ اليمين المتطرّف بقيادة ميلوني. تمعّنوا في تخبّطِ الإمبرياليّة الأمريكيّة مَعَ ارتفاعِ أسعار-الفائدة ومشكلة التّضخّم المستمرة. هذه كلّها دلالاتٌ على تخبّطِ البنيةِ الإمبرياليّةِ العالميّة، ومِن ضمنِها البلدان الكولونياليّة كلّها.

الوظيفةُ الإمبرياليّةُ العالميّةُ تخضعُ لتبدّلٍ بنيويّ شامل. لا يذكر المحللّونَ هذه الحقيقة، وإنّما يتشبّثونَ بالحقائقِ الظّاهرةِ لهم. يحسبونَ أنّ الصّراعَ واقعٌ بيَن الغربِ والشّرق، أو بين الجنوبِ العالميّ والشّمالِ العالميّ، وهذه المصطلحات ليست علميّةً، وإنّما إنشائيّة، وأضيفُ بالقولِ: إنّها مضلّلةٌ للغاية. فلا تقل الصّراع بيَن الغربِ والشّرق، أو بين الجنوبِ العالميّ والشمالِ العالميّ، وإّنما قل: الصّراعُ واقعٌ بين البورجوازيّةِ العالميّةِ، الإمبرياليّةِ مِن جهةٍ والكولونياليّةِ مِن جهةٍ أخرى، والطّبقاتِ الشّعبيّة العالميّة. وإذا كانَ المرادُ مِن كلمةِ ”صراع“ في الصّراع بيَن الجنوبِ والشّمال، والشّرقِ والغرب، هو التّناقضات الدّاخليّة ما بينَ هذه الأمم، فقل: الصراعُ هو صراعٌ داخليّ يدورُ حولَ الرّيعِ الاحتكاريّ العالميّ، أي الصّراع هو بينَ البلدان الإمبرياليّة والبلدان الكولونياليّة المهيّمنة. الحالةُ الوحيدةُ التي تسمحُ لنا التّحدّث عن صراعٍ بينَ البورجوازيّةِ الكولونياليّةِ والإمبرياليّةِ هو حين نكون أمام بلدٍ كولونياليّ غير مهيّمن عالميّاً، يجابهُ بلداً إمبرياليّاً، أو يجابهُ بلداً كولونياليّاً-مهيّمناً.

لا شيءَ سيُخرجُ البنيّةَ الإمبرياليّةَ العالميّةَ مِن أزمتِها سوى اتّفاقٍ عالميّ حول الريعِ الاحتكاريّ، أي القبول بالبلدان الكولونياليّةِ المهيّمنةِ الصّاعدة؛ هذا ما يُسميهِ النّكوصيّون، بغبطة، العالمَ المتعدّدَ الأقطاب. إنّ الحكمَ النّهائيّ هو:

مَن يُدافعُ عن العالم المتعدّد الأقطاب، أو يدعو إليه، هوَ شريكٌ في تأبيدِ البنية الإمبرياليّة العالميّة؛ هذه حقيقةٌ لا جدالَ عليها، ولا تقبلَ التّفنيد، ومَن ينكرُها إمّا ساذجٌ سياسيّاً وإمّا منافقٌ، وخطورتهما سيان.

ومَن يُدافعُ عَن العالمِ المتعدّدِ الأقطاب، يُدافعُ عَن الأشكالِ الانحطاطيّةِ لمحاولاتِ الإمبرياليّة في التّكيّفٍ مَعَ انحطاطِها الحتميّ. باختصار، أنّهُ يُشاركُ البورجوازيّةَ العالميّةَ في إنكارِها لعصرِ الكارثة، لانهيارِها الكارثيّ الحتميّ.

في حقيقةِ الأمر، لما كانت الوظيفةُ الإمبرياليّةُ تخضعُ لتبدّلٍ بنيويّ، فإنّ ذلكَ ينعكسُ على طبيعةِ الوظيفةِ الكولونياليّةِ نفسها، وبالأخص الوظيفة الكومبرادوريّة. هذا واضحٌ في إنتاجِ النفطِ والغاز، أكثر مِن أيّ مجالٍ إنتاجيّ آخر. مِن الواضحِ أنّ ما يسمى انقطاع الشّرقِ عن الغرب، أو تكتّلَ الشّرق نفسه، لا يرجع إلى خيارٍ فرديّ لهذه الكولونيالياتِ المهيّمنة، وإنّما إلى تغيّرِ الوظيفةِ الامبرياليّةِ نفسها؛ إذ عزوفها عن النّفطِ، وهو أمرٌ أشرتُ إلى حدوثهِ قبلَ عامين ورَفَض النكوصيّونَ مقالي، هو الذي أدّى إلى كُلّ هذا الخلل. نحن أمام حالةٍ معيّنةٍ حيث تكونُ الوظيفة الامبرياليّة غير متوائمةٍ بالوظيفة الكولونياليّة، والعكس بالعكس. باختصار، الإنتاجُ النفطيّ، رغم أهميته، ورغم أنّ أهميتهُ ستظلّ قائمةً في العالم، لم يعد مُنتجاً لريعٍ إمبرياليّ عالٍ. سنشهدُ نزوعَ الإنتاج النّفطيّ نحوَ وظائفَ كولونياليّةٍ ثانويّةٍ أكثر فأكثر؛ تسارعت هذه العملية بفعلِ الحرب في أوكرانيا، إذ فرضت الإمبرياليّات تقهقراً على الوظيفة الكولونياليّة الرّوسيّة، المتمثّلة بالنّفطِ أساساً. لكن هل كانَ يُمكن لهذا التّقهقر أنّ يتمّ لولا أنّ الوظيفةَ الإمبرياليّة تشهدُ تغييراً نفسها؟ الّذينَ يأخذون هذه التّغيّرات، في المشهدِ العالميّ، على أساس أنّها مجرد تغيّراتٍ ناتجة عن خلافات عالميّة عَرَضيّة، أي بينَ جانبٍ غايته الابقاء على العالم الآحادي القطب وجانبٍ غايته الدّعوة إلى العالم المتعدد الأقطاب، موهومونَ وخاسرونَ لا محال. هذه التّغيّرات حتميّةٌ، وراجعةٌ إلى الحركةِ العمرانيّة للعمران الرأسماليّ العالميّ، إذ الرّيع الإمبرياليّ يتّجهُ نحوَ وسائلَ مختلفةٍ للرّيع الامبرياليّ.

تصارعُ البلدان الكولونياليّة المهيّمنة مِن أجلِ الحفاظِ على ريعِها الاحتكاريّ في العالم، ودخولها في عمليّةِ استحصالِ هذا الريّع عالميّاً. تسعى البلدان الكولونياليّة المهيّمنة إلى شيئيّن: إلى استحصالِ الريعِ الاحتكاريّ على نحوٍ متعاظم، أي مَعَ التّغيّراتِ العمرانيّة-البنيويّة الّتي تطرأ في العالم. لكنها، في الوقت نفسه، ليست على استعداد أن تتخلّى عَن مصالحها الآنيّة على نحوٍ فوريّ. فإنّ التّخلّي عن تلك المصالحِ الفوريّة يعني تغيير النّسق العالميّ للوظيفةِ التّبعيّةِ الطّاغيّةِ، ولقد سَبَقَ لنا أن بيّنا معنى ذلكَ في سياق الدّولةِ السّلطويّةِ الكولونياليّة، ودورها في توحيدِ وتنظيمِ الوظيفةِ الكولونياليّة. إنّ أحد أشكال إيجاد مناطقَ جديدة لتصريف التّراكم-النّسبيّ الكولونياليّ، في البلدان الكولونياليّة المهيّمنة، هو التّوسّع الخارجيّ نفسه. الصّراع الّذي يقع بينَ الامبرياليّات والكولونياليّات-المهيّمنة هوَ بالتّحديدِ حولَ هذا الأمر. تتوقّع الامبرياليّات مِن الكولونياليّات-المهيّمنة الانصياع إليها، وبالتّالي تُطالبها أن تتخلّى عَن مصالحها الفوريّة، وهذا ضربٌ مِن ضروب الطّوباويّة السّياسيّة. تتكتّل تلكَ البلدان، خصوصاً الّتي تتخصّص بالنفط، في حالة فريدة، إذ إنّها بصددِ تغيير الطّبيعة الوظيفيّة للوظيفة التّبعيّة الطّاغيّة. إنّ الرّيع الإمبرياليّ ينخفض، فينخفضُ معه - بالضرورةِ - جزءٌ مِن الرّيع الاحتكاريّ التّابع للوظيّفة الطّاغيّة، وبالتّالي يصبحُ ضرورياً إيجاد إطارٍ وظيفيّ يسمح لهذا الإنتاج أنّ يتحقّق مِن دون أيّ عوائقَ، ولهذا السبب نجدُ الكثيرَ مِنها على أبواب تصيير هذه الوظيفة وظيفةً محليّةً، بدلاً مِن كونها كومبرادوريّة. بالأحرى، ينبغي عليّنا القول: إنّ اتّجاهاتِ الوظيفة الإمبرياليّة نفسها هي التي تفرض هذا التصيير، إن صحَ التعبير.

في حقيقةِ الأمر، إن أزمةَ البنية الإمبرياليّة العالميّة تتجسّدُ في ثلاثةِ مواضع: التّبادل اللامتكافئ، والرّيع الاحتكاريّ العالميّ، والرّيع الإمبرياليّ. إنّ هبوط معدّل الربح عالميّاً يسبّب خللاً في هذه المواضع، الّتي تعتمد عليها البنية العالميّة. ما هي مطالبُ البلدان الكولونياليّة المهيّمنة الصاعدة؟ ريعاً احتكاريّاً أعظمَ، ونصيباً أعظمَ مِن التبادل اللامتكافئ. سيتطلّب ذلكَ، مِن قبل البلدان الإمبرياليّة، تنازلاً معيّناً، إذ سيكون عليها أن تُضحّي بجزءٍ مِن ريعها الاحتكاريّ، ونصيبها مِن التّبادل اللامتكافئ، وفي الوقتِ ذاته سيعني ذلكَ تعظيمَ قواها الإنتاجيّة، لمقارعة هذه التّضحية. لكن الأزمةَ هي، تحديداً، عدم تواؤم الوظيفة الكولونياليّة بالإمبرياليّة، أو قُل عدم تزامنهما. كُلّما ازدادت عوامل اللاتعمير الرأسماليّ، اشتدّت شراسة البلدان الرأسماليّة في الاستحصال على الرّيع الاحتكاريّ ونصيباً أعظم مِن التّبادل اللامتكافئ.

الآن، تبحثُ البلدان الرأسماليّة العالميّة عن طفرةٍ اقتصاديّة، وإلّا اشتدت عليها عوامل اللاتعمير أكثر، إذ لَن تتمكّن مِن مناهضتها كلّيّاً. تعلم البلدان الإمبرياليّة أنّ البلدانَ الكولونياليّةَ المهيّمنة، ما إن تُركت هكذا، لَن تتمكّن مِن قيادةِ طفرةٍ رأسماليّةٍ عالميّة، ولكنها تعلم أيضاً أن مِن دونها لا يُمكن لهذه الطفرة أن تتمّ. إن لم تكن البلدان الكولونياليّة أجمعها على استعدادٍ بنيويّ لهذا التحوّل، أي إن لم تكن وظيفتها، حاليّاً، متوائمةً مَعَ الوظيفة الإمبرياليّة، فإن ذلكَ يعني توفيرَ ريعٍ إمبرياليّ أقلّ، ممّا يعرقل عملية التحوّل ككلّ. ما يحسبهُ النكوصيّونَ انتصاراً هو، في حقيقةِ الأمر، السيرُ الطبيعيّ (والحتميّ) للبنية الإمبرياليّة العالميّة المعاصرة، وهذا ما قمنا ببيانهِ قبلَ أربعةِ أعوام.

لهذا السّبب، مؤخراً، اجتمعت جموع البلدان الإمبرياليّة والكولونياليّة المهيّمنة (العالميّة والإقليميّة مِنها) في بالي للتّباحث حولَ الركود العالميّ والتحدّيات الاقتصاديّة الّتي تواجهها هذه الأمّم تحت شعار ”نتعافى معاً، نتعافى أقوياء“.

قال شي جين بينغ، في خطابهِ في بالي: ((الاقتصادُ العالميّ أصبح أكثر هشاشةً، والبيئة الجيوسياسيّة ما زالت متوترةً. الإدارة العالميّة هي بالفعل ضعيفة. أزمة غذاءٍ وطاقةٍ تتراكب مع أزماتٍ أخرى. (…) نحن نعيشُ في القريةِ العالميّة ذاتها، وعلينا أن نتعاضدَ ونتكاتفَ في وجهِ التّحدّيات. إذا رسمنا خطوطاً آيديولوجيّةً فاصلةً سياسيّاً بيننا، واتّخذنا عقليّةًَ تكتّليّةً فإن ذلكَ سيؤدي إلى تقسيمِ العالم (…) في القرن الحادي والعشرين، لا يُمكن أن يكونَ لعقليّةِ الحرب الباردة مكاناً في الحضارةِ الإنسانيّة)). وماذا عَن التّطوّرِ والتّنمية الاقتصاديّة، ماذا يقول ”الرّفيق“؟ ((التّنمية لا تصبح فعليّةً إلّا حينَ تنمو جميعُ الأمّم معاً. لا يُمكن للازدهارِ والثّباتِ أن يتحقّقانِ في عالمٍ يصبح فيه الأثرياءُ أكثر ثراءاً، في حين يصبح الفقراءُ أكثر فقراً)). الجميلُ في الأمرِ أنّ النّكوصيّيَن ينقلون كلامَ فِرعَونَهم كلمة بكلمة، وحينَ يفرغ فِرعَونُ مِن كلامه، يتّجهُ النكوصيّون، بطبيعتهم الذّليلة، إلى الهامان بوتين، لعلّهُ يضيفُ شيئاً مِن اللّغةِ الاستكباريّةِ على كُلِّ ذلك. إنّ صعودَ البلدانِ الكولونياليّة المهيّمنة ساهمَ، وسيساهم على نحوٍ متعاظم، في صعودٍ آيديولوجيّ جديد، يُمكننا أن نسميه بآيديولوجيا ما-بعد-الاستعمار، يتضمّن الثّيمات التالية: العالم المتعدّد الأقطاب، والمساواة بينَ الأمّم، والتّبادل المتكافئ، وفكفكة الاستعمار (بشكلها النّكوصيّ والأكاديميّ)، والعالم المتعدّد الهويّات (المنفتح على تمثيلاتٍ متعدّدة)، إلخ. كما أنّ هذه الآيديولوجيا، ما إذا تمّ خلطها مَعَ عناصرَ يساريّة، وتصبح - بالتالي - ما نسميهِ باليسار التّخالفيّ، فإنها تطالبُ دائماً بتقويّةِ ”القطاع العام“ بالنّسبةِ إلى ”الخصخصة“ (لنترجم ذلكَ: تقويّة بورجوازيّة الدّولة)، والتّوزيع العادل للثّروات، والمساواة بينَ الطبقات، إلخ. خذوها قاعدةً: مَن يقول هذا الكلام، مَن يكرّر ما ذكرتهُ توّاً، بأيّ شكلٍ مِن الأشكال، لا يُفرّقُ بينَ الطّريق إلى تركمنستان مِن الطّريق إلى مكة. مَن يكرّر هذا الكلام باستكبارٍ ليعلم أنه لا يكرّر سوى أحد أشكال الآيديولوجيا البورجوازيّة الكولونياليّة الحديثة، أي إنه خادمها الأمين بامتياز.

هذه هي الحقيقةُ الوحيدة، ولا يُمكن لأيّ شخصٍ مخالفتها؛ رغم أنّهُ يُمكن للنّكوصيّيَن المحاولة في ذلكَ دوماً.

لكن لا يخلو كلام شي جين بينغ مِّن كُلّ منطقٍ، إذ يتكلّم مِن منطلق الحاجات العمرانيّة للبلدان الكولونياليّةِ المهيّمنةِ الصاعدة. فإنّ ”التّنميّة“ المشتركة العالميّة تعني شيئينِ: المطالبة بريعٍ احتكاريّ أعظمَ عالميّاً، (وذلكَ يعني، فوراً، تقليل الجزء الّذي توفّره مِن القيمة الزائدة عبر التجارة العالميّة)، وبنصيبٍ أعلى مِّن التبادل اللامتكافئ.

إنّ الّذينَ يجدون في الصّينِ إمكانيّة صيرورة كُلّ البلدانِ متساويةً، ومتعادلةً، ومتكافئةً في العالم هم خاسرونَ حتماً. ما يفوت عليهم هو أبسط الحقائق التي لا تحتاجُ فعلاً إلى قدرةٍ نظريّةٍ لفهمها: إلى حدّ الآن، تشخيصنا للصين يظلّ أنها بلدٌ كولونياليّ مهيّمن عالميّاً. هذا يعني أن الصّينَ لا يُمكن أن تعدّ أمثولةً للتحرّر مِن الإمبرياليّة، إذ إنها متضمّنة، ومتجذّرة، في البنية الإمبرياليّة العالميّة. لئلا ننسى، أيّها النكوصيّون، 90% مِن الصّادرات التّكنولوجيّة عالية الدقة مِن الصين هي أجنبيّة أساساً (بينما ما يقارب 40% مِن الصّادرات الكُلّيّة للصّين هي أجنبيّة). ولئلا ننسى، أنّ 95% مِن الرّقاقات الحاسوبيّة المستعملة في الصّين هي مستوردة، وأنّ 70% مِن الرّقاقاتِ المستعملة في الأجهزة الذّكيّة هي مستوردة كذلك، وأنّ الولايات المتحدة الأمريكيّة هي المورّد الأساسيّ لها. هل ثمّة أيّ داعٍ لأذكّر الحالمينَ أنّ محاولات الصين في تجديدِ قدرتها على تصنيعِ الرّقاقات، تقام بالشراكةِ مَعَ شركاتٍ إمبرياليّة كبرى؟ مثل شركة كوالكوم (Qualcomm) الأمريكيّة وآي بي إم (IBM)؟ هل ثمّة أيّ داعٍ لأن نذكّرهم بطبيعةِ الوظيفة الكولونياليّة-التّبعيّة في الصّين وعلاقتها بالتّحوّلاتِ الإنتاجيّة الهائلة في العالم (هل نسوا مثالاً بسيطاً: تعاظم استثمارات شركة تيسلا في الصين لإنتاجِ المركبات الكهربائيّة؟ أو كون الصين، اليوم، أكثر دولة ذات قدرة في الطّاقة الشمسيّة عالميّاً)؟ هل ثمّة أيّ داعٍ لأن نذكّرهم أنّ إنتاجيّةَ العمل الصّينيّة متدنّية ليس مقارنةً بأمريكا والاتّحاد الأوروبيّ فحسب، وإنما مقارنةً بالمكسيك وأندونيسيا كذلك؟ هل ثمّة أيّ داعٍ لأن نذكّرهم أنّ القيمةَ الزائدةَ المنقولة عبرَ التّبادل اللامتكافئ ينصبُّ كلّيّاً لصالح الإمبرياليّة الأمريكيّة، والأوروبيّة، واليابانيّة في التّبادل مَعَ الصّين؟

ليس كُلّ بلدٍ غنيّ بالتّبادل اللامتكافئ هو إمبرياليّ، ولكن بلا بدّ أن يكونَ كُلّ بلدٍ إمبرياليّ غنيّاً به بالضّرورة. وفي حين البلد الكولونياليّ الغنيّ بالتّبادلِ اللامتكافئ ما يزالُ يوفّر ريعاً إمبرياليّاً، فإن الصّينَ - بفعل طبيعة وظيفتها الكولونياليّة التّبعيّة - وجدت نفسها في حالة توفّر فيها ريعاً إمبرياليّاً وقسماً مهماً مِن القيمةِ الزّائدةِ إلى البلدان الإمبرياليّة. إنّ الرّبحيّةَ عبر التّبادل اللامتكافئ ترجع إلى التّفاضلِ بينَ تطوّر القوى الإنتاجيّة للأمّم، ولكنها لا تحقّق أيّ وظيفة إمبرياليّة محدّدة، إذ المسألة (كما توحي العبارة نفسها) تتعلّق بالتّبادل وليسَ بالإنتاج. لذلكَ نجدُ أنّ الصّينَ، مثل كُلّ البلدان الكولونياليّة المهيّمنة الأخرى، لتقارع الميل نحو هبوط معدّل الربح، بحاجةٍ إلى تعظيم القسم الذي تستحصلهُ مِن التّبادل اللامتكافئ، وإلى تعظيمِ الرّيع الاحتكاريّ الخاص بها؛ لهذا السبب تكون تايوان مهمةً بالنسبة إليها. إنّ أزمةَ الوظيفة الكولونياليّة الصّينيّة تتعلّق تحديداً بمدى قدرتها على تحقيقِ ذلكَ مِن دونِ الإخلال بالوظيفةِ نفسها. لهذا السبب، سيكون علينا ألّا نستغرب إذا وجدنا أنّ الصّين، في الأعوام القادمة، ستحاولُ، وعلى نحوٍ مطّرد، تركيز استحصالها للرّيع الاحتكاريّ، ونصيبها مِن التّبادل اللامتكافئ، عبر بلدانٍ كولونياليّة أقلّ مِنها تطوّراً (إصرارها على ”دربٍ واحد، حزامٍ واحد“ هو أية ذلكَ).

كيف لكم أن تدّعوا، بعد كُلّ ما بيّناه، أن الصّين مناهضةٌ للنّظامِ الإمبرياليّ العالميّ، في حين أنها تؤبّده كُلّ يومٍ أمام أبصارنا؟ إن جاهليّتكم الطّاغيةُ، الفاضحةُ، السّخيفةُ هي التي تدفعكم نحوَ هذه التّرهات.

المضحكُ هوَ أنّ أحد مؤيدي ”العالم المتعدّد الأقطاب“ المساعير يطالبُ بعالمٍ لا تسيطر فيهِ عملة مركزيّة، وهي الدّولار، وفي الوقتِ ذاته، في مقالاته الأخرى، يؤيّدُ الأوهام القائلة بتسيّد اليوان عالميّاً. نعم، إنه يدعو إلى تسيّد الصّين عالميّاً على أمل أن تكونَ الصّين ضامن عدم تسيّد أيّ أمّةٍ أخرى، على منوالِ مركزيّة لايبنتز: مركزيّة لكنها منتشرةٌ في كُلّ مكان. اسألُ القارئ الجاد، هل ثمّة سخافةٌ أعظم مِن هذا السّخف؟ وهناك آخرٌ، مِن أصحابِ السّعار كذلك، يقولُ إنّ الصّينَ اليوم هي حاميةُ الاشتراكيّةِ في العالم، وعلينا التّكاتف حولها. أقولُ لكلِ مَن يقرّ بذلك: إن كانت صينكم اشتراكيّةً، أعني إن كنتُ أنا قد أسأت الفهم بشأنِ ماهيتها، فإن على الدّنيا العفاء!

أيّها النكوصيّون، وفّروا كلامكم العاطفيّ السّخيف لغيرنا، إذ قد ينطلي على الأطفال الصغار والمعتوهين فقط. قلتم ”وحيدٌ والزمن لا يسعف أفكارك، فساوم“. لتعلموا أنّني أفضّل الوحدة، كالجوارح بلا أيّ عائلةٍ أو عشيرة، على أن يُطلق عليّ، في المستقبل، نكوصيّاً، مرتدّاً، منافقاً. في حقيقةِ الأمر، أنتم الوحيدون، إذ مجّكم التّاريخُ ولَن يُغفرُ لحَوبِكم أبداً. نصيحتي لكلّ مَن يقاوم التآلفيّة (سرّاً أم جهراً): أدفنوا أنفسكم عميقاً، إذ هذا العصرُ، عَصرُ الكارثة العظمى، لهُوَ عصرُ فضيحتكم الكبرى.

الذينَ يخيّروننا بينَ الولايات المتحدّة الأمريكيّة (والغرب عموماً، بالإضافة إلى اليابان) والصّين-روسيا (وغيرهما)، مثل الّذينَ خيّروا مِن قبلنا بينَ بلاد فارس وبيزنطةَ-أكسومَ؛ إمّا أنّ تُبجّلوا حكاياتِ رستمَ، وسهرابَ، وإسفنديارَ، وإمّا أنّ تتبنّوا المسيحيّة الرّومانيّة. لكن، كما أثبتَ واقعُ الحال، الاختيارَ بينَ هالكيّنِ اختيارٌ هالكٌ بضرورةِ الحال. أيّها النكوصيّون، إن حُبّبَ إليكم الضّلال فهذا شأنكم، أنتم أحرارٌ في بخوعكم التّخالفيّ، بل نُعطيكم بركاتنا في السيرِ نحوَ هذا الطريق! لكن أيضاً لنا الحريّةَ في القولِ أنّكم هالكونَ، ممجوجونَ مِن التاريخ، وفي دركاته السُفلى؛ لا عاصمَ لكم مِنها، ولا غايةً تبرّر بِئسَ وسيلتكم.