من أجل ثقافة جماهيرية بديلة-أصول الفلسفة الماركسية-بوليتزر69


عبدالرحيم قروي
2024 / 3 / 31 - 18:11     

اصول الفلسفةالماركسية
الجزءالثاني
تأليف جورج بوليتزر، جي بيس وموريس كافين
تعريب شعبان بركات
الحلقة التاسعة والستون
المادية التاريخية
تابع

الأمة (2)
2– الأمم الاشتراكية
ا – المسألة القومية والثورية الاشتراكية
ساعد على نجاح الثورة الاشتراكية في تشرين الأول سنة 1917 تأليف هذه الجبهة المشتركة. ولما أمكن انتصار البروليتاريا الروسية على البرجوازية الاستعمارية لولا اتحاد الشعوب التي تستغلها هذه البرجوازية نفسها في إمبراطورية القياصرة الواسعة. وهكذا تكون ثورة تشرين الأول قد ضربت الاستعمار في قلبه وفي مؤخرته.
حطمت ثورة تشرين الأول، بقلبها لكبار الملاكين والرأسماليين، قيود الاضطهاد القومي والاستعماري التي نجت منها جميع الشعوب المضطهدة، بدون استثناء، في دولة شاسعة، إذ لا يمكن للبروليتاريا أن تحرر بدون أن تحرر الشعوب المضطهدة. وتمتاز ثورة تشرين الأول بأنها لم تقم بهذه الثورات القومية والاستعمارية، في الاتحاد السوفياتي، تحت لواء الحقد القومي والمنازعات بين الأمم، بل تحت لواء ثقة متبادلة وتقارب أخوي بين العمال والفلاحين في القوميات التي تقيم في الاتحاد السوفياتي، ولم تقم بها باسم النزعة القومية بل بأسم النزعة العالمية ولم يكن قادة العالمية الثانية، بالرغم من خطبهم عن المساواة بين الأمم، ليهتمون بالشعوب المستعمرة: بل كانوا يأبون عليها أي إمكانية للعمل الثوري. وكل ما كانوا يعترفون لها به هو حقها "في الاستقلال الثقافي"، وأن يكون لها مؤسساتها الثقافية، وذلك داخل الدولة المستعمرة.
بينما يعني الماركسيون اللينينيون بحرية تقرير المصير الحق في الانفصال، وفي إنشاء دولة مستقلة. ولما كان نضال الأمم المضطهدة من أجل استقلالها موجهاً ضد البرجوازية الاستعمارية، العدو المباشر للبروليتاريا "الأم" Métropoitain كان لهذا النضال طابع ثوري.
المسألة القومية جزء من مسألة الثورة البروليتارية العامة، وهي جزء من مسألة الثورة البروليتارية العامة وهي جزء من مسألة دكتاتورية البروليتاريا .
تضخم حركة التحرير القومي الهائل في البلاد المضطهدة كأفريقيا وآسيا منذ عام 1917، وانتصار الشعب الصيني على الاستعمار وسيره نحو الاشتراكية، كل تلك وقائع لها أهمية كبرى بالنسبة للنضال الثوري العالمي.
ولقد أقبل زمن ثورات التحرير في المستعمرات وفي البلاد التابعة, زمن يقظة البروليتاريا في هذه البلاد، زمن سيطرتها في الثورة .
ب – ميزات الأمم الاشتراكية
ابتدأت الثورة الاشتراكية، بتحريرها للشعوب المضطهدة، مرحلة جديدة في تطور الأمم. وظهر نموذج جديد من الأمم، بفضل انتصار البروليتاريا، ألا وهي الأمة الاشتراكية.
رأينا في الدرس السابق أنه يجب أن نفهم من "الأمم البرجوازية" الأمم التي نشأت بقيادة البرجوازية في نضالها ضد الإقطاعية. وكان انتصار البرجوازية انتصار لعلاقات الإنتاج الرأسمالية. ومن هنا نشأت ميزات الأمة البرجوازية.
تقوم الأمة البرجوازية بالضرورة على عدم المساواة بين أفرادها، لأن الطبقة المسيطرة تستغل البروليتاريا.
الأمة البرجوازية عدوة لسائر الأمم البرجوازية لأن برجوازيات مختلف البلدان الرأسمالية تتنافس فيما بينما سعيا وراء الربح. ومن هنا كانت النزعة القومية.
وأخيرا، تخضع الأمة البرجوازية، في مرحلة الاستعمار، لها الشعوب المتأخرة في نموها الاقتصادي.وهكذا يتم الاستغلال في الداخل بواسطة الاستغلال في الخارج. نذكر مرة أخرى بقول لينين: "أصبت الرأسمالية الاستعمارية أكبر مضطهدة للأمم".
وتختلف عن ذلك ميزات الأمة الاشتراكية.
يقول ماركس وانجلز في بيان الحزب الشيوعي: "الغوا استغلال الإنسان للإنسان تلغوا استغلال أمة لأمة أخرى. قمتى زال تعارض الطبقات داخل الأمة، زالت العداوة بين الأمم .
فقد أوجدت الثورة الاشتراكية، بقلبها للبرجوازية المستغلة، وإزالتها للاضطهاد الطبقي، علاقات جديدة داخل الأمة الواحدة وبين الأمم المتعددة.
وقد برهن قيام الاتحاد السوفياتي وازدهاره على صحة ذلك.
فزوال الطبقات المستغلة، السبب الرئيسي للاصطدام بين الأمم، وزوال الاستغلال الذي يغذي الريبة المتبادلة ويؤجج الأهواء القومية، ووجود الطبقة العاملة، في الحكم، وهي عدوة كل استعباد، تدافع بإخلاص عن أفكار النزعة العالمية، وتحقيق التعاون المتبادل، بصورة عملية، بين الشعوب في جميع ميادين الحياة الاقتصادية والاجتماعية، وأخيراً ازدهار الثقافة القومية لشعوب الاتحاد السوفياتي، وهي ثقافة قومية في الصورة، اشتراكية في المحتوى: كل هذه العوامل وما يشبهها غيرت طابع شعوب الاتحاد السوفيتي بصورة جذرية وعملت على زوال شعور الريبة بينها، ونمت عاطفة صداقة متبادلة، فنشأ، بذالك، تعاون أخوي حق بين الشعوب داخل الدولة الاتحادية الواحدة .
تلك هي نتيجة انتصار الطبقة العاملة. كانت البرجوازية، بتحطيمها للاضطهاد الإقطاعي، قد صنعت أغلالاً جديدة. وأما الطبقة العاملة،فأنها بتحررها قد حررت جميع الناس. فزال النير الطبقي كما زال النير القومي.
كانت إمبراطورية القياصرة "سجنا للشعوب" حتى إذا ما تحررت القوميات المختلفة من الاضطهاد نالت حقها في تقرير مصيرها. وقد رأينا أن ممارسة هذا الحق لها وجهان: أما الانفصال وأما الاتحاد الحر .
ولقد اختارت القوميات المذكورة، آنفا، الاتحاد مع الشعب الروسي.
وهكذا نشأت دولة اشتراكية متعددة القوميات.وتحتفظ القوميات، التي تتكون منها هذه الدولة، بحقها في تقرير مصيرها: فهي تستطيع، أذن، إذا شاءت أن تنفصل عن الاتحاد.
ما هو طابع العلاقات الأساسي بين الأمم الاشتراكية، التي يقارب عددها الستين؟ المساواة في الحقوق. وقد قال للينين: "لا أمتياز لأمة على أخرى... ولا أقل أضطهاد أو ظلم للأقليات القومية". ليس هناك، أذن، أمة مسيطرة في الاتحاد السوفيتي، بل جمهوريات متحدة بحرية "جمهورية روسيا، جمهورية أوكرانيا، جمهورية كازافي، جمهورية استونيا، الخ..." فإذا ما وجد، داخل الجمهورية المتحدة، أقليات قومية، كونت جمهوريات مستقلة "مثال: يوجد داخل الجمهورية المتحدة الروسية جمهورية تارتاري وجمهورية بشكيري، وجمهورية داغستان. الخ." كما يوجد شعوب صغيرة، ومناطق مستقلة، وأقاليم قومية.
تقوم الدولة الروسية المتعددة القوميات بالدفاع عن المصالح المشتركة بين جميع القوميات التي تكونها. كما أنها تشرف على تخطيط الاقتصاد الاشتراكي وإدارة السياسة الخارجية، والجيش، والتنشئة الثقافية.
غير أنها تخضع من أسفل إلى الأعلى، بواسطة السوفيات، لأشراف جميع المواطنين المتساوين في الحقوق، مهما كانت قوميتهم أو جنسيتهم. فيستطيع، مثلاً، جميع المواطنين، تولى جميع الوظائف الدولة السوفياتية من أصغر وظيفة إلى أعلى وظيفة، ويتولى الحكومة أناس من القوميات وأجناس مختلفة.
أما المصالح الخلاصة بكل قومية، فأنها من اختصاص الجمهورية المتحدة أو المستقلة التي تتمتع، ضمن الدستور السوفياتي، بدستورها الخاص، وقوانينها الخاصة.ويعكس هذا الدستور. كما تعكس هذه القوانين، الخواص القومية "الاقتصادية، والثقافية، والتاريخية" لكل شعب.
وهكذا يتحقق ازدهار القوميات في كل الميادين، على عكس ما يجري في النظام الاستعماري القيصري.
ولنضرب على ذلك مثلا: انشأ الشعب الأوزبكي، الذي أستغل قبل الثورة، جمهورية اشتراكية لها دستورها، وسوفياتها، ومجلس وزراؤها، داخل اتحاد الجمهوريات السوفياتية، وازدهر اقتصادها القومي، الصناعة، الزراعة، تربية الماشية، ازدهاراً هائلاً، بفضل مشاريع الخمس سنوات. فلقد تضاعفت الصناعة الثقيلة خمس عشرة مرة منذ عام 1913. فهناك مركز حراري ومائي. وتنتج الزراعة الآلية بكثرة الأقطان المتنوعة. وتقوم مراكز تربية أغنام أستراكان الرئيسية في أوزبكي. أما تحسين مستوى المعيشة والتقدم الثقافي فهما يناقضان مناقضة شديدة البؤس والضغط الثقافي اللذين تفرضهما البرجوازية الرأسمالية على مستعمراتها، فبينما يوجد في منطقة "القبلي" في الجزائر طبيب لكل 30 ألف شخص "حسب الإحصاء الرسمي" يوجد في أوزبكي طبيب لكل 895 شخصاً وكذالك أقل من 10% من الأطفال المسلمين، في مراكش، يدخلون المدارس. بينما، زالت الأمية، في أوزبكي، بعد أن كانت عامة في عهد القياصرة "98% أميون"، وكذلك يتردد 81% على معهد ثانوي عال "في فرنسا 36/1000 فقط".
ولغة التعليم هي اللغة الأم، التي هي رسمية. وهذا شأن جميع القوميات التي تكون الاتحاد السوفياتي.
كما أن جرائدها ومطبوعاتها بالغة القومية. وبذلك سهلت نهضة التقاليد الأدبية والفنية لكل شعب .
فقد أنشيء، عام 1943، والحرب دائرة الرحى ضد هتلر، مجمع العلوم الأوزبكي، فلم يمض عليه عشر سنوات حتى أصبح يضم 25 مؤسسة علمية، يعمل فيها 1500 باحث. وهكذا لكل جمهورية سوفياتية ملاكاتها الخاصة "من علماء، ومهندسين ومهندسين زراعيين، وأطباء، ومربين، الخ".
ونستطيع ضرب الأمثلة الكثيرة على ذلك. غير أن أصدق الأمثلة هي تلك التي نجدها عند شعوب بعض المناطق المستقلة التي أودت بها النزعة الإمبراطورية إلى موت مؤكد، فإذا بالاشتراكية تنفذها من هذا المصير.
يسكن في سيبيريا، على ضفاف نهر(Haut-jenissei9) ورافده(Abakam) شعي الهاكاس (Hakasse) وقد قام المونغول، منذ أكثر من عشرة قرون، بغزو هذا الشعب الذي كان من أقوى شعوب أسيا وأكثرها ثقافة، فكان مصيره الخراب. حتى أنه فقد أحرفه الكتابية، وزادت النزعة الإمبراطورية في خطورة الحال فأخذ شعب الهاكاس بالأقوال رويداً رويداً. كان أذن في وضع يشبه وضع الهنود الحمر على يد المستعمرين الأمريكان. بيد أن الثورة الاشتراكية أعادت الحياة لهذا الشعب. فأصبح يعد أكثر 50ألف مواطن، يقيمون في منطقة مستقلة، ويتمتع هذا الشعب باقتصاد مزدهر "فحم حجري، ذهب، معدن الحديد، غابات، أقنية" وفيه 350 مدرسة، و3 مدارس تقنية، معهد تربوي. كما له صفحة وادبه ومسرحه.
وكان الشعب "الننت" (Nenets)، في شمالي سيبيريا، يخضع لاضطهاد موظفي القيصر الوحشي، والتجار الروس الذين كانوا يستولون على ثرواته "من فرو، وأسماك"وكبار مربي الوعول (Rennes). كان هذا الشعب في طريق الانحلال فبلغ عدده 16 ألف نسمة عام 1899، و2000نسمة عام 1913.
وقد غيرت الثورة الاشتراكية هذه الحال. فكون هذا الشعب مقاطعة قومية وعادت إليه القوة والحياة. فبلغ عدده عام 1939، 12 ألف نسمة. وأزدهرت صناعته من صيد بحري وبري، وظهرت زراعة صناديق الزجاج (Serres)وأصيح عدد المدارس 56. منها سبع مدارس ثانوية ومدرسة تقنية لتربية الوعول، وثلاثة مراكز للبحث العلمي... كل ذلك في هذه المنطقة التي كان يخيم عليه الجهل والخرافات .
هكذا يضمن الاتحاد السوفياتي ازدهار مختلف الشعوب التي يتكون منها. فاستعادت قوميات قديمة مضطهدة استقلالها واستطاعت شعوب خاملة. بفضل الاشتراكية، أن تكون أمما. كما استطاعت شعوب ذات اقتصاد بدائي وعقلية قديمة "كالننت" أن تنقل في بضع سنوات إلى طريقة الحياة الاشتراكية.
وهكذا ندرك كيف أن العلاقات بين الأمم "كبيرة وصغيرة" قد تغيرت تغيراً كلياً في مثل هذه الظروف.
فحل محل الريبة والعداوة الثقة المتبادلة والتعاون الأخوي. ولهذا ذهبت جهود الغزاة الهتلرية سدى. أولئك الذين كانوا يأملون تحطيم العلاقات التي أقامتها الاشتراكية بين الشعوب السوفياتية بالقوة، كانوا يعتقدون، مثلا، أنهم يستطيعون تأجيج العواطف القومية القديمة من جديد في أوكرانيا ضد الشعب الروسي، فلم يحدث شيء من ذلك.وبينما نرى الحرب العالمية الثانية قد أضعفت كثيراً النظام الاستعماري الذي أقامته الرأسمالية، إذا بإتحاد الأمم الاشتراكية يقوى في نضالها المشترك ضد النازية العنصرية، عدوة الشعوب.
وهكذا تحققت صحة وجود وطنية سوفياتية تعارض النزعة الوطنية المتعصبة البرجوازية.
لا تقوم قوة الوطنية السوفياتية على المعتقدات العنصرية البالية أول المعتقدات القومية، بل هي تقوم على إخلاص الشعب وولائه العميق لوطنه السوفياتي، وعطف جميع العمال، المقيمين في بلادنا، الأخوي.
تشترك في الوطنية السوفيتية، بانسجام، تقاليد الشعوب القومية ومصالح عمال الاتحاد السوفياتي الحياتية المشتركة. والوطنية السوفياتية، بدلا من أن تفرق، تجمع على العكس، جميع الأمم والقوميات في بلادنا ضمن عائلة واحدة أخوية، من هنا تظهر أسس الصداقة المتينة التي لا نتزعزع بين شعوب الاتحاد السوفياتي، كما أن شعوب الاتحاد السوفياتي، من ناحية ثانية، تحترم حقوق شعوب البل الأجنبية واستقلالها. فقد أظهرت دائما رغبتها في أن تعيش بسلام وصداقة مع الدول المجاورة. وهذا هو أساس العلاقات التي أخذت تنمو بين دولتنا وبين الشعوب المحبة للحرية
رايات الدولة الاشتراكية هي رايات الصداقة بين الشعوب التي كونت هذه الدولة، كما أنها رايات الصداقة مع جميع شعوب العالم، ومن الشعوب التي لا تزال ترزح تحت نير الرأسمالية. ولهذا كان من العبث الحديث عن "استعمار روسي": ذلك لأن الثورة الاشتراكية، بإزالتها للبرجوازية الإمبراطورية، قد اجتثت النزعة الإمبراطورية من جذورها. فالاتحاد السوفياتي مسالم، في أساسه، لأنه اشتراكي. والوطنية السوفياتية على نقيض النزعة القومية البرجوازية، فهي حب يحمله العمال السوفياتيون لبلاد الاشتراكية، وهي أروع مظهر للنزعة العالمية البروليتارية.
نستطيع الآن أن نخلص للقول بأن الاشتراكية، في نفس الوقت الذي توفر فيه ازدهار كل أمة ماديا وأخلاقياً، تعجل في التقارب السلمي بين جميع الأمم. ولما كانت الاشتراكية محررة للأمم فأنها تمهد لاتحادها.
يتبع