المراة ولع دائم


خالد محمد جوشن
2024 / 3 / 30 - 04:51     

الحياة مهما كانت طويلة او قصيرة فانها يمكن ان تحكى فى ساعات ، ربما يستطيع انسان ان يحكى حياته المديدة بتفصيل شديد فى ست ساعات على الاكثر ، ذلك ان الحياة محطات وليست تفاصيل دقيقة .

ربما هذا ما الفهم هو ما التقطه صناع السينما ، عندما يحولون الراوية التى هى محطات الى فيلم لايستغرق اطوله الثلاث ساعات ، فى حين ان هناك رويات ربما يستغرق قراءتها عشر ساعات .

والعجيب ان الانسان ذاته لو استعرض تفاصيل حياته فانه لن يستعرضها سوى محطات سواء كان عمره عشرون عاما او حتى مائة .

والانسان دائما ما يختزن ذكريات عجيبة ، تظهر فى اوقات محددة ، عند رؤية مشهد ما ، او عند الانغماس فى موضوع ، او قراءة رواية ما ، حياتنا هى احداث مدفونة داخل الذاكرة العملاقة التى يحملها الانسان على رأسه .

اننى احزن للغاية عند موت بعض الناس فجاة ممن لم يلهموا فكرة الكتابة عن حياتهم وذكرياتهم وما صادفوه ، اشعر اننا نخسر كثيرا بموت هؤلاء الاشخاص ، انهم مكتبة كاملة قد اندرست فى التراب .

لذلك كانت الكتابة نقلة رهيبة للحياة الانسانية ، لقد استطاع الانسان ان يكتب حياته وذكرياته وتجاربه وافكارها ويدونه ليراها من يخلفه من بعده ، حدث تراكم وارث انسانى عجيب .

ربما كان العالم الخاص للانسان عصى على الكتابه فى بعض الاوقات وبعض الحضارات ولكنه بصفه عامة اصبح فى الامكان ان نراه ونلمسه ونقرأه لقد انزاح هذا المنع ، ومن ذا الذى يستطيع ان يمنع شخصا من ان يعبر عن ادق تفاصيل حياته .

الغريب ان الانسانية كلها تشترك فى الارث وفى الفهم وفى المعاناة ، كلنا واحد سواء امم متطورة أو أمم متاخرة بمفاهيم التطور والتقدم ، لان الكتابة هى من وعى وفهم الانسان وحياته وتجاربه ، والانسان هو واحد يمشى على رجلين سواء كان اشقر او احمر او ابيض او زنجى ، نحن جميع بشر نملك تجارب انسانية عميقة .

فى وقت مبكر ربما من خمس سنوات قرات بالمصادفة رواية الجميلات النائمات للاديب اليابانى ياسونارى كاواباتا ، كانت رواية جميلة وممتعة ونسيتها تماما ، وبعد سنوات شعرت اننى اريد ان اكون بطل رواية الجميلات النائمات ، اريد ان ادلف الى عالم العجوز ايجوشى وادخله منزله الغامض الملىء بالمراهقات الجميلات النائمات .

يا للهول لقد اكتشفت ان عالم ايجوشى الغامض لم ياتى من فراغ ، وكاننى اكتشفت شيئا فريدا ، رغم اننا ندرك تماما ان قصصنا وحكايتنا هى تعبيرا حكيما عن تجاربنا ، وان الله وهب البعض القدرة على الحكى ، ليستطيع من ليس لديه هذه القدرة ان يجد نفسه فيه ، اننا نحمل ارثا نتشارك فيه ويلامس محطات حياتنا .

نعم لقد ادركت اننى وصلت الى مرحلة ايجوشى المولع بالنساء ، دون القدرة الكاملة على خوض معاركهم ، انها المرحلة الاخيرة التى يصل لها بعض الرجال بكل هدوء وينسحبون بكل اريحية من عالم الجميلات ، ولكن هناك البعض منا معشر الرجال ، مازال قلبه يرقص طربا لدى رؤية فتاة جميلة ، ويود لو يضمها بين زراعيه ، ويرسم خرائط جسدها الانثوى الذى يمثل قمة الروعة والجمال فى هذا العالم .

ورغم ان للرواية مقدمة كانت بقلم غابريل غارسيا ماركيز ، تحكى عن تجربة مشابهة ، الا اننى لم ادرك على الاطلاق مدى الروعة والمتعة فى هذه الرواية الساحرة التى تحمل ارثا انسانيا . الا عندما وصلت لمرحلة ايجوشى .

ولن اقدم الراوية هنا فهذا عمل صعب ويفقده روعته ومتعته ولكنى ساسرد فقط المقدمة التى كتبها غابريل غارسيا ماركيز، تاركا للقراء مهمة البحث عن الرواية وقراءتها :

كانت جميلة ، ممشوقة ، ذات بشرة غضة بلون القمح وعينين لوزيتين خضراوين ، وشعر اسود منسدل حتى الكتفين ، تلف وجهها هالة من الجمال الشرقى القديم الذى يبدوا منحدرا من بوليفيا او الفلبين ، كانت متانقة بذوق مرهف : سترة من الوس ، قميص حريرى بأزهار صغيرة ، بنطلون من الكتان الخالص ، وحذاء واطىء بلون نبتة الجهنمية .

" ها هى اجمل امرأة رأيتها فى حياتى " فكرت وانا أرى الفتاة تنتظر ركوب الطائرة المتجهة إلى نيويورك من مطار شارل ديغول فى باريس ، افسحت لها بالمرور قبلى ، وعندما وصلت للمقعد الذى عُين لى على بطاقة الركاب ، وجدتها جالسة على المقعد المجاور .

توصلت الى التساؤل وانا مقطوع الانفاس : هذا التجاور اللامتوقع إلى أى من سيحمل التعاسة ؟

جلست ، كمن تعود الامر من سنين عديدة ، واضعة كل شيىء فى مكانه بعناية فائقة ، حتى باتت مساحتها الشخصية مرتبة كبيت مثالى حيث يوجد كل شىء فى متناول اليد ، قدم المضيف الشامبانيا مرحبا بالركاب ، حين كانت منصرفة الى تنيظم أمورها .

رفضت الشامبانيا وحاولت شرح شىء ما بفرنسية ركيكة ، عندها تحدث المضيف اليها بالانجليزية فشكرته بأبتسامة مشعة ، ثم طلبت كأس ماء وأضافت انها لا تود الا يوقظها احد مهما كان الامر أثناء الطيران .

بعد ذلك فتحت حقيبة كبيرة مربعة بزوايا نحاسية كتلك التى على صناديق جداتنا وابتلعت قرصين ذهبيين من علبة فيها أقراص كثيرة من مختلف الالوان .

كانت تقوم بكل شىء بطريقة منظمة ودقيقة كأن لا شىء غير متوقع حدث معها منذ ولدت .

وأخيرا وضعت الوسادة فى فجوة عند نافذة الطائرة وتدثرت بالغطاء حتى خصرها ، دون ان تخلع حذائها ، استوت جانبيا فى المقعد فى وضع شبه جنينى ، ونامت دفعة واحدة دون تنهيدة دون ادنى تغيير فى وضعها خلال الساعات السبع المرعبة فى الطائرة والدقائق الاثنى عشرة االامتناهية نتيجة التأخر الذى استغرقها الاقلاع الى نيويورك .

كنت قد اعتقدت على الدوام ان لاشيىء فى الوجود يفوق جمال امراة جميلة ، بات مستحيلا أن افلت ولو لدقيقة من سحر هذا المخلوق الخرافى النائم الى جانبى ، كان نومها ثابتا للغاية حتى انى خشيت ان تكون قد تناولت اقراصا للموت بدل النوم .

تفحصتها عدة مرات ، سنتمتر سنتمتر ، كانت علامة الحياة الوحيدة التى لاحظتها هى ظلال الاحلام العابرة فوق جبينها كغيوم فوق الماء ، كانت تضع حول عنقها عقدا رفيعا جدا يكاد لا يرى فوق بشرتها الذهبية ، كانت اذناها رائعتين وغير مثقوبتين ، وكانت تضع خاتما فى يدها اليسرى ، ربما انها لم تكن قد تجاوزت الثانية والعشرين ، عزيت نفسى بفكرة ان هذا الخاتم ليس خاتم زواج بل حلية خطوبة عابرة وسعيدة .

لم تكن متعطرة ، بل كان يفوح منها لهاث لايمكن ان يكون شيئا اخر سوى الرائحة الطبيعية لشبابها .

" انت عبر نومك والمراكب عبر البحار " فكرت على علو عشرين الف قدم فوق المحيط الاطلسى محاولا ان اتذكر بالترتيب السونيتة التى لا تنسى لجيراردو ديغوا .

" معرفى أنك تنامين ، واثقة وذكية ، انت " انحناءة نسيان وفيه / خطا صافيا قريبا جدا من ذراعى المضمومتين "

كان وضعى شبيها جدا بالسوناتا حتى انى خلال نصف ساعة استرجعتها فى ذاكرتى حتى النهاية : أى انسحاق لساكن الجزيرة ، أنا المارق المجنون ، على الشواطىء الصخرية ، المراكب عبر البحار ، انت عبر نومك "

لكننى خلال خمس ساعات من الطيران تأملت فيها الجميلة النائمة ، أدركت بسرعى ان وضعى النعيمى لم يكن شبيها بسونيتة جيراردو ديغوو ، بل بعمل أدبى رئيسى فى الادب المعاصر وهو " منزل الجميلات النائمات " لليابانى ياونارى كاواباتا .
اكتشفت هذه الرواية عبر طويل ومختلف ولكن يتفق على اى حال مع جميلة الطائرة النائمة .

منذ عدة سنوات ، اتصل بى اٌلان جوفروا بالهاتف ليقول لى إنه راغب فى تقديمى إلى كتاب يابانين ، أتوا لزيارته .

كل ما كنت اعرفه انئذ عن الادب اليابانى ، باستثناء القصائد التعيسة أيام البكالوريا ، لا يتعدى بضع أقاصيص لجونيشييروا تانيزاكى مترجمة الى القشتالية .

فى الحقيقة ، كل ما كنت اعرفه بطريقة اكيدة عن الكتاب اليابانين انهم انتهوا كلهم الى الانتحار .

وقد سمعت عن كاواباتا للمرة الاولى عندما نال جائزة نوبل فى سنة 1986، وحاولت عندها ان اقرأه قليلا ولكن سرعان ما أصابنى النعاس .

بعد ذلك بقليل بقر أمعاءه بسيف طقوسى ، تماما كما فعل روائى اخر مميز وهو أوزاما دازاى سنة 1946 ، بعد عدة محاولات فاشلة .

قبل كاواباتا بسنتين وكذلك بعد عدة محاولات فاشلة قتل الروائى الاكثر شهرة فى الغرب يوكيوميشيما نفسه على طريقة الهاراكيرى الكاملة ، بعدما وجه خطبة وطنية إلى جنود الحرس المبراطورى .

اذا عندما اتصل بى الان جوفروا عبر الهاتف ، كان اول شيىء رجع الى ذاكرتى هو عبادة الموت عند الكتاب اليابانيين .

قلت له : " انا ات بكل سرور ، شرط ألا ينتحروا " .
والحقيقة انهم لم ينتحروا ، بل أمضينا ليلة ساحرة فهمت خلالها انهم كلهم مجانين . كانوا مقتنعين هم انفسهم بذلك . قالوا لى : " لذلك كنا نود التعرف اليك ".

وأقنعونى فى النهاية أن القراء اليابانيين يعتبروننى كاتبا يابانيا .

ورغبة منى فى فهم ما أرادو قوله لى ، ذهبت فى صباح اليوم التالى الى مكتبة مختصة فى باريس واشتريت جميع الكتب المتوفرة هناك ل : شوزاكواندو ، كانزبورو ، يازوشىاينو ، رنوزكى أكوتا عاوا ، مازوجى ايبورى ، أوزامو دازاى ، هذا ما عدا الكاتبين البديهيين كاواباتا وميشيما .

لم أقرا شيئا اخر خلال سنتين ، ولا أزال مقتنعا بأن شيئا ما يجمع الروايات اليابانية برواياتى ، شيئا ما لا استطيع ان أفسره ولم أحس به فى حياة البلاد حين قمت برحلتى الوحيدة الى اليابان ، ولكن هذا الشيىء يبدوا لى أكثر من جلى .

على اى حال ، الكتاب الوحيد الذى وددت لو اكون كاتبه هو " منزل الجميلات النائمات " لكاواباتا ، الذى يحكى قصة منزل غريب فى ضواحى طوكيو ، يتردد اليه بورجوازيون يدفعون اموالا طائلة للتمتع بالشكل الاكثر نقاء للحب الاخير : قضاء الليل وهم يتاملون الفتيات الشابات الاكثر جمالا فى المدينة واللواتى يرقدن عاريات تحت تاثير مخدر الى جانبهم فى السرير .

لايملكون حق ايقاظهن ولا لمسهن . ولا يحاولون على أية حال لإن الاكتفاء الاكثر صفاء لهذه المتعة الناجمة عن الشيخوخة هو إمكانية الحلم إلى جانبهن .

لقد عشت التجربة مع الجميلة النائمة فى الطائرة المتجهة الى نيويورك ، غير ان ذلك لم يمتعنى ، على العكس ، الشيىء الوحيد الذى تمنيته خلال الساعة الاخيرة من الطيران هو ان يوقظها المضيف لاتمكن من استرجاع حريتى أو ربما شبابى .
لكن ذلك لم يحدث ذلك انها استيقظت من تلقاء نفسها عندما لامست الطائرة الارض ، تأهبت ونهضت تراقبنى .

كانت الاولى التى خرجت من الطائرة لتضيع بين الجموع ، تابعت على الطائرة نفسها طريقى الى مكسيكو ، مجترا دفعات الحنين الاولى لجمالها الى المقعد الذى لا يزال فاترا إثر نومها ، دون ان امكن من ان انتزع من رأسى ما قاله الكتاب المجانين عن كتبى فى باريس ، قبل ان تحط الطائرة ، وعندما قدموا لى بطاقة النزول ، عبأتها بنوع من المرارة , كاتب يابانى ، العمر اثنان وتسعون عاما .
غابريل غارسيا ماركيز
والان انا أدعوكم الى قراء رواية الجميلات النائمات للاديب اليابانى ياسونارى كاواباتا