أنطون سعادة في كتاب الجمر والرماد هشام شرابي


رائد الحواري
2024 / 3 / 29 - 00:31     

"أنطون سعادة"
يكاد أن يكون كتاب "الجمر والرماد" عن "سعادة" أكثر منه عن "شرابي" ف"سعادة" حاضرا فيه بزخم، حتى أن القارئ يشعر أنه كتب عن "سعادة وتخليدا له، فقد تناول "شرابي" سلوك وأفكار وعمل وإنجازات وأقوال وشخصية والأحداث التي مر بها "سعادة" لهذا يمكن أن يكون "الجمر والرماد" من أفضل كتاب التي كُتب عن سعادة كقائد وكمفكر وكزعيم للأمة.
يحدثنا عن عودته من المغترب وكيف تم استقباله في مطار بيروت عام 1947: "سار موكب الزعيم من المطار بالآلاف المحتشدة إلى بيت نعمة ثابت في الغبيري، وهناك ألقى سعادة خطابه الشهير...كنت وفؤاد نقف على مقربة منه، كلماته تدوي في أذني الآن:
"هذا أسعد يوم رأيته في حياتي حتى اليوم، أن أعود بعد نحو تسع سنوات اغتراب عنكم، لأنضم إلى المجموعة النامية التي تمثل أمة أبت أن يكون قبر التاريخ محلا لها في الحياة، بعد خمس عشرة سنة من جهاد نظامي عز نظيره في العالم كله نقف اليوم أمة حية منتصرة ـ منتصرة على الأرادات الأجنبية التي أرادت أن تبقيها ممزقة بين الطوائف والمذاهب الدينية التي مرجعها سماء واحدة ـ وأتت تعاليمها القومية دينا جديدا واحدا موحدا ليرفع هذه الأمة إليها، إلى الخلود فيها.
ويعلو صوت الجمهور بالتصفيق والهتاف: "تحيا سورية" "يحيا سعادة" وأنظر حولي فأرى الدمع ينهمر من عيون القوميين القدماء وهم ينظرون إلى سعادة بلا حراك كأنهم لا يصدقون ما يرون وما يسمعون، وأرى البعض يعانق بعضهم بعضا، "سعادة رجع، رجع سعادة، الحزب رجع" ص73، أن يُستقبل شخص بهذه الحفاوة، يؤكد المكانة الرفيعة التي وصل إليها، فرغم أنه عاش في المغترب تسع سنوات إلا أن حضوره من خلال الأفكار التي قدمها، جعله موجودا وحاضرا ومؤثرا بين أبناء أمته، لهذا نجد الآلف يستقبلونه، ومتى؟ في آذار عام 1947، عندما كانت الموصلات محدودة والتنقل يحتاج إلى جهد وتعب وقت، ومع هذا نجد الآلاف تأتي لتستقبل زعيمها.
"سعادة" لم يكن شخصيا عاديا، ولم يقتصر تميزه على أفكار النهضة التي قدمها فحسب، بل على شخصيته وما يتمتع به من قوة، من هنا نجد "شرابي" يشير إلى تأثير الحضور بوجوده، واصفا العناق بينهم والتغني بحضوره وعودته "رجع سعادة، سعادة رجع" فبدا الاحتفال وكأنه احتفال السوري القديم بعودة البعل، هكذا كان "سعادة" وأثره على الآخرين، وهذا ما يجعل "شرابي" يكتب عنه "الجمر والرمد" ويقدمه كقديس/كمخلص كنبي/كرسول للأمة.
يتناول "شرابي" هيئة "سعادة ووصفة إياه: "كان لديه "كرزما" هائلة، من الصعب تفسير تأثيرها، كان معتدل القامة، رياضي البنية، أسمر البشرة، حاد التقاسيم، ذا عينيين نافذتين، في كلامه سيطرة تامة، لا يرفع صوته، ولا يؤشر بيديه، كان في معاملته مع كل من يلاقيه لطيفيا رقيقا، طيلة معرفتي به لم أشهاده مرة يعامل أحدا بخشونة أو تكبر، بل كان دائما أديبا شديد الحساسية لمشاعر الآخرين، ولا أذكر مرة أنه أمرني بالقيام بعمل ما، فإذا أراد شيئا طلبه بشكل غير مباشر، بالتلميح أو التعبير عن ضرورة إنجازه، تاركا المبادرة لمن يعنيه الأمر، كان يعالج جميع الموضوعات والمشكلات بالأسلوب نفسه" ص75و76، إذا ما حاولنا تفكيك وجود هذه الفقرة عن "سعادة" سنصل إلى أن قوة وهيبة ومكانة وأثر "سعادة" أبعد وأكبر من أن يفسر ماديا/عقليا، فالرجل له تأثير روحي/نفسي على الآخرين، فبدا وكأنه قديس يخلب عقول الآخرين بحضوره وجاء كلامه وأفعاله وتعامله اللطيف مع الناس لتؤكد حسن خلقه، وهذا ما يجعله (النبي) الجديد لسورية والسوريين.
وقت الخطر والمداهمات الأمنة يرتبك الإنسان، وتجعله متوترا مضطربا، لكن "سعادة" لم يكن يتأثر بهذه المداهمات، وكان يتصرف بطريقة (عادية/طبيعية) أذهلت المرافقين له وحراسه معا: "إذا كان هناك اجتماع مهم أثناء وصول إنذار من بيروت، كان الزعيم لا يغادر المكان إلا بعد أن يأتي رئيس الحرس ليعلمه للمرة العاشرة أن كل شيء جاهز وأن السيارة بالانتظار.
كنت أنا حديث العهد بهذه الأمور، فكنت في بادئ الأمر عندما يصلنا نبأ عن "كبسة" آتية يعتريني القلق وأتوسل إلى الزعيم أن ينهي حديثه أو عمله وينزل إلى السيارة في الحال، حتى في احرج الأوقات كان سعادة دائما هادئ الأعصاب متزن الحركة لا يثيره شيء على الإطلاق، في حين كانت تعتري الحرس حالة القلق والاضطراب، كان هو يجمع أوراقه ببطء ويضعها في حقيبة اليد التي لا تفاقه، ويسير بخطى ثابته نحو السيارة مودعا من في الدار ويركب السيارة مبتسما محييا كأنه يغادر حفلة شاي" ص78و79، إذا كان "سعادة" وقت الخطر يتمتع بهذا السلوك المتزن، فكيف سيكون سلوكه في الوقت العادي/الطبيعي!!، فهو لم يكن شخصيا عاديا، بل شخص فريد/استثنائي، متميز في كل شيء وفي كل مكان وفي كل وقت وظرف.
لم تقتصر هيبة "سعادة" على أعضاء الحزب السوري القومي الاجتماعي فحسب، بل امتدت لتصل إلى أفراد الشرطة والأمن الذين أتوا لفض اجتماعه مع أعضاء الحزب: "أن قوى الأمن تتمركز في الشارع أمام المنزل، وتمنع القوميين الاجتماعيين من الدخول، وأن الضابط المسؤول يطالب بفض الاجتماع حالا وإلا أضطر إلى استعمال القوة...رأيت الزعيم واقفا فوق طاولة في منتصف القاعة، ينظر إلى الحاضرين، ولا يبدي حراكا، بقى كذلك لحظات... هدوء شامل.. عيون شاخصة.. أنفاس محبوسة.. فلوب تخفق.
لفظ أول كلماته بصوت هادئ رصين، كأنه يتحدث في قاعة الدراسة وأخذ صوته الجهوري يملأ السكون.. وما إلا لحظات حتى انقلب الجو، زال التوتر وحل محله شعور بالثقة والاطمئنان، رأيت تحول في وجوه القوميين الاجتماعيين، في نظراتهم وفي طريقة وقوفهم حول الزعيم.
...قال الجملة الأخيرة بقوة وعنف، وفي لهجنه تهديد واضحة، وأرتجت القاعة بالهتاف.. ورأته يرفع يده طالبا السكون..."أن أمر حرب هي الحرب الداخلية، الحرب التي يثيرها علينا الذين يدعوهم الشرف إلى المحاربة معنا، فلا يحاربون إلا ضدنا، أن زمن القطعان انتهى، وابتدأ زمن الجماعة المدركة الحية...أننا لم نتعد على أحد ولم نهاجم أحدا ولكننا لسنا نعاجا إذا هوجمنا بل أسودا."
خرجنا إلى الشارع تسمر رجال الشرطة في أماكنهم، وسار الزعيم أمامهم ببطء، وكأنهم فرقة شرف جاءت لتقديم التحية" ص 192-195، هذا هو "سعادة" وهذا قوته التي تمثل نبعا لكل من يريد أن يشرب من كأس القوة، قوة "سعادة" وقوة حزبه.
لم يحدث في أي مكان في المنطقة العربية أن يقف رجال الأمن (مذهولين) أمام من أتوا لمنعه من الاجتماع، ووقفوا جامدين وكأنهم مسحورين بهيبة التي أخذتهم فخضعوا لها طائعين مسالمين.
ولم تقتصر شخصية "سعادة" على الهيبة والقوة فحسب، بل امتدت إلى دقته في تناول أوضاع الحزب والأمة التي يقودها: "كان الزعيم في هذه الاجتماعات حريصا على التدقيق في كل شيء، يعالج ما يثار من قضايا معالجة تامة وكاملة، بحيث لا يبقي سؤال لا يجيب عليه أو قضية لا يبت فيها، كان يطلب من ناموس المجلس أن يقرأ التقارير الرسمية التي تصل من المديريات والمنفذيات في المناطق وكل الرسائل التي تصل من الأعضاء" ص81، لهذا أستطاع "سعادة" خلال أقل من ثلاث سنوات أن يجعل الحزب السوري القومي الاجتماعي من أكبر الأحزاب الفاعلة في بلاد الشام: "وفي هذه الفترة انتسب آلاف من الأعضاء الجدد إلى الحزب وأسست عشرات المنفذيات والمديريات الجديدة في لبنان وسوريا وفلسطين وشرق الأردن" ص82، من هنا كانت الدول الاستعمارية والأنظمة الرجعية تشعر بخطره عليها، وكان لا بد من التخلص منه ومنه حزبه الذي اكتسح المنطقة، وأخذ يتمدد ويتحدى التقسيمات السياسية والأنظمة التي وضعها الاستعمار.

فكر "سعادة" وأقوله التي آمن بها "شرابي" ما زالت حاضره فيه رغم مرور الزمن، لهذا ما زالت تلك الأفكار وتلك القوال حاضرة فيه: "كل ما فينا هو من الأمة، وكل ما فينا هو للأمة، الدماء التي تجري في عروقنا ليست ملكنا، هي وديعة الأمة فينا، ومتى طلبتها وجدتها... أن الحياة تعني لنا وقفت عز فقط" ص200و201، "يجب أن أنسى جراح نفسي النازفة لكي أساعد علة تضميد جراح أمتي البالغة... أننا نقتل العيش لنقيم الحياة، مارسوا البطولة ولا تخافوا الحرب بل خافوا الفشل" ص235، هذا شيء مما قاله "سعادة" ومما تركه لنا لنتزود به وقت الشدة والمحن.