من أجل ثقافة جماهيرية بديلة-أصول الفلسفة الماركسية-بوليتزر64


عبدالرحيم قروي
2024 / 3 / 26 - 04:47     

اصول الفلسفةالماركسية
الجزءالثاني
تأليف جورج بوليتزر، جي بيس وموريس كافين
تعريب شعبان بركات
الحلقةالرابعة والستون
المادية التاريخية
تابع

--------------------------------------------
1 – الأمة والطبقة الاجتماعية.
2 – النظرية العلمية للأمة.
أ) ما هي الأمة؟
ب) بعض أخطاء يجب تجنبها.
3 – البرجوازية والأمة.
أ) تكوين الأمم البرجوازية.
ب) البرجوازية على رأس الأمة.
ج) البرجوازية خائنة للأمة.
4 – الطبقة العاملة والأمة.
أ) النزعة العالمية البروليتارية.
ب) النزعة الوطنية البروليتارية.
------------------------------------------

الأمة (1)
1 – الأمة والطبقة الاجتماعية
ليس هناك من مشكلة تشغل الناس، في الوقت الحاضر أكثر من المشكلة القومية. ويمكن القول سواء كان ذلك بصدد نضال الشعب الفرنسي من أجل استقلاله، ووجوده، أم بصدد نضال شعوب الفيتنام المظفر، أم نضال شعب مراكش أم شعوب الشرق الأوسط، الخ، إن المشكلة القومية ازدادت أهميتها مع الأيام. غير أنها مشكلة صعبة جداً، ولا يمكن التعرض لها وحلها إلا على أساس المادية التاريخية.
كان لينين يقول، وهو يتجول عام 1902 في شوارع لندن، تلك المدينة التي يرجع الفضل في قوتها إلى الرأسماليين "هنا تعيش أمتان" مشيراً إلى الفرق بين شوارع الأحياء البرجوازية الفخمة وبين الأزقة الضيقة البائسة التي تتكدس فيها الطبقة العاملة. وكانت البرجوازية تريد أن توهم الناس أن التاريخ قائم فقط على النضال بين الأمم، محاولة بذلك إخفاء اضطهادها الطبقي، وأن تقنع العمال أن مصالحها هي مصالح جميع الأمة. غير أن المادية التاريخية، باكتشافها أن التاريخ يحركه نضال الطبقات، قد دللت على أن انقسام الناس إلى طبقات متعارضة أشد عمقاً من انقسامهم إلى أمم , بواسطة نضال الطبقات، وبمحتوى الأمم الطبقي.
ولا يعني تفضيل الماركسيين للطبقة الاجتماعية قط أنهم لا يعبأون بالأمة. فالأمة حقيقة تاريخية ظهرت وتنمو على أساس طبقي. كما سنرى. وسوف تزول في المجتمع الخالي من الطبقات. غير أنها. خلال الفترة الطويلة التي توجد فيها، تقوم بدور كبير أهمية الحركات القومية في نظر الماركسيين ولهذا كانت النظرية القائلة بنفي حقيقة القومية مضادة للمادية ويقول بهذه النظرية أعداء الحركة العمالية، وأولهم زعماء الاشتراكية اليمينيون الذين يدعون العمال إلى التخلي عن السيادة القومية لحساب الاستعمار الأميركي، بينما يؤيد الماركسيون الحقيقيون، على العكس، وهم المخلصون للمادية التاريخية، بقوة، حركات التحرر القومي في الشعوب المضطهدة التابعة. ولكنهم لا ينظرون إلى المشكلة القومية في ذاتها: بل هم يربطونها بنضال البروليتاريا الثوري، وبمسألة تحرير البروليتاريا من النير الطبقي.
2 – النظرة العلمية للأمة
ا- ما هي الأمة؟
الأمة هي حقيقة موضوعية. ولقد دفع الهتلريون ثمن عقيدتهم، بأنه يمكنهم إزالة الأمم عن سطح الكرة غالياً وأدركوا أن هذه الحقيقة موجودة، وأنها تتمتع بقوة عظيمة للمقاومة.
فما هي صفاتها؟
1 – وحدة اللغة.
يتكلم أعضاء الأمة الواحد لغة واحدة، هي اللغة القومية ولهذا حاول الغزاة الفاتحون الذين أرادوا، عبر التاريخ، القضاء على قومية ما، أن يفرضوا عليها لغة الدولة المنتصرة. فالتمثل اللغوي، إذن، هو صورة من الاضطهاد القومي. وقد استعمل قياصرة روسيا القديمة هذا التمثل في الشعوب الصغيرة المستعمرة. وكذلك يفعل الاستعماريون الفرنسيون في إفريقيا الشمالية: غير أنه لا يمكننا فرض لغة على شعب ما: لأن اللغة الوحيدة التي يعترف بها هي لغته الأم.
حيث يرشف ويرشف الحروف
التي يتلألأ فيها الوطن ويخفق
نضال الأمم المضطهدة من أجل استقلالها، هو، إذن، أيضاً نضال من أجل لغتها. ذلك هو شأن الشعوب الناطقة باللغة العربية التي استعمرها الاستعماريون الفرنسيون.
اللغة أداة قوية للثقافة القومية.. ولهذا شجعت الحرية التامة التي أعطيت لمختلف اللغات القومية, في الاتحاد السوفياتي، منذ عام 1917، التفتح الثقافي للشعوب التي اضطهدها الاستعمار أيام روسيا القيصرية.
اللغة هي ملك الأمة في مجموعها وليست ملك طبقة معينة. وإلا فكيف يستطيع التفاهم أعضاء الطبقات فيما بينهم؟ يحارب ستالين في كتابة الرائع: حول الماركسية في علم اللغة النظرية المضادة للماركسية التي يقول بها الذين يعتمدون على تعدد الطبقات فينتهون إلى تعدد اللغات في أمة معينة، لا شك أنه يمكن أن يوجد لهجات تستعملها فئات من الطبقة المحظوظة، تلك الفئات التي تريد، بأي ثمن، التميز عن غيرها: (وهكذا كانت الشبيبة الذهبية" أيام ردة الفعل الترميدورية، تتظاهر بأنها لا تتكلم كالشعب) غير أن بعض التعابير، والاستعمالات الغريبة لا تكفي لتكوين لغة. فاللغة هي ثمرة تاريخ شعب، فهي لا تتغير إلا ببطء شديد، ويظل تركيبها ذاته، خلال النظم الاجتماعية المختلفة، وإن كانت الفاظها تزداد غنى شيئاً فشيئاً (بفضل تقدم التقنيات خاصة). ويستعمل كل أعضاء الأمة، مهما كانت طبقتهم، نفس اللغة، وإن كانت كل طبقة تحاول استمال اللغة لصالحها. مثال: ضمنت البرجوازية، بإيجادها للمدرسة الإجبارية، في مطلع الجمهورية الثالثة، انتشاراً واسعاً للغة الفرنسية، لا سيما بين الفلاحين، وكانت تلك مصلحتها الطبقية، لأنه كان على دافع الضرائب أن يعرف قراءة أوراق الضرائب التي فرضتها الدولة البرجوازية، كما كان على الفلاح، إذا ما دعي لحمل السلاح، أن يفهم أوامر رئيسه. غير أن البروليتاريا، التي كانت تتكلم أيضاً اللغة الفرنسية، لغة جميع الأمة، عرفت كيف تستفيد من هذا الانتشار للغة، ليس فقط لأن دراسة اللغة الفرنسية قوت نضالها الطبقي الخاص، بل لأن انتشار اللغة الفرنسية سهل التحالف الثوري مع طبقة الفلاحين العاملة: فهذا الفلاح الفتى الذي كان يتعلم في الصف قراءة اللغة الفرنسية كان يستطيع أن يقرأ أمام العائلة والأصدقاء الجريدة الثورية المطبوعة في المدينة .
ولا تعني أهمية اللغة، كعنصر مكون للأمة في مجموعها، أن اللغة تكفي لتكوين الأمة: إذ يمكن لأمم مختلفة أن تتكلم نفس اللغة: وهكذا يتكلم الإنجليز والأميركيون الشماليون نفس اللغة، ومع ذلك يكونون أمتين مختلفتين وقد نمت هاتان الأمتان على أساس بلدين مختلفتين .
2 – وحدة الأرض
إذا كانت الأمة وحدة لغوية فإنها أيضاً وحدة أرض،إذ أن كل أمة هي ثمرة التاريخ، فهي تستحيل بدون حياة طويلة مشتركة: ولهذا تعتبر الشعوب كل ضم لجزء من أرض الوطن اعتداء على الأمة.
ونلاحظ أن حرب كوريا لا يمكن تقديرها بصورة صحيحة إلا إذا أدركنا أهمية الأرض كعنصر من العناصر المكونة للأمة تكون كوريا الجنوبية وكوريا الشمالية دولتين، ولكنهما أمة واحدة. ولهذا كانت النظرية، التي دافعت عنها الدبلوماسية الروسية في الأمم المتحدة- داعية "إلى عدم التدخل لأن حرب كوريا قضية داخلية، وحرب أهلية" – عادلة. فقد كانت هذه الحرب داخل أمة واحدة. كما كان إرسال الجيوش الأميركية عملا عدائياً ضد الأمة الكورية في مجموعها.
ويمكننا أن نلاحظ أن وحدة الأرض تجعل مشكلة القومية مسألة حساسة جداً بالنسبة للفلاحين: ففي بعض الحالات تصبح مسألة الفلاحين في مقدمة المشكلة القومية، لأن الفلاحين قد حرموا أرض الأجداد (مثال ذلك الشعوب المستعمرة).
غير أن وحدة الأرض، مهما كانت أهميتها، لا تكتفي لتكوين الأمة. فلقد وجدت، في القرون الوسطى، الظروف الاقتصادية لتكوين ارض قومية، ولكنها كان ينقصها وحدة الحياة الاقتصادية التي ترتبط مختلف الأجزاء. إذ يجب، لتكوين الأمة، هذه الرابطة الاقتصادية الداخلية بين مختلف أجزاء ارض الوطن.
3 – وحدة الحياة الاقتصادية
الأمة سوق
كانت فرنسا الإقطاعية مجموعة من المقاطعات، لكل منها حياتها الاقتصادية الخاصة، وعملتها، ومقاييسها، وأوزانها تفصلها سلسلة من الجمارك التي تعميق التبادل بينما. ولم يكن ليتم توحيد الأمة الفرنسية عام 1789 إلا بإزالة هذه العوائق في وجه الوحدة (ولا سيما الجمارك الداخلية).
وكذلك هيأ توحيد ألمانيا الاقتصادي توحيدها السياسي ذلك لأن السوق يضمن التبادل بين المنتوجات القادمة من مختلف أنحاء أرض. وتزداد قوة الحياة الاقتصادية المشتركة (مع توحيد العملة) بنمو طرق الاتصال ووسائله.
تلك هي الأسس المادية التي بدونها لا يمكن وجود أية أمة. ولهذا جهد الهتلريون , عام 1940 , والبرجوازية الفرنسية الكبرى لاستعباد بلادنا، وتحطيم وحدة حياتها القومية: فقسموا أرض الوطن إلى منطقتين"، وتألبوا على صناعتنا القومية محاولين تحويل فرنسا إلى بلد زراعي فقط، تابع لألمانيا الصناعية.
ويسعى، اليوم، أصحاب مشروع شومان (للفحم والفولاذ) لتحقيق نفس الهدف: فهم يريدون تصفية الصناعة القومية الفرنسية، التي هي أساس استقلال بلادنا، وذلك لمصلحة الاستعمار الأميركي وكبار الصناعيين في الرور.
ولنلاحظ أن ازدهار الديمقراطية الشعبية القومية، كرومانيا، وبلغاريا، مشروط، على العكس، بتقدم صناعتها القومية الهائل.
ملاحظة:
لا يناقض النضال بين الطبقات، داخل أمة من الأمم، قط وحدة الحياة الاقتصادية، لأن وجود الطبقات يعتمد على واقع اقتصادي ممتاز هو الإنتاج.
فطالما وجدت الرأسمالية طالما ظلت البرجوازية والبروليتاريا مرتبطتين معاً بجميع روابط الحياة الاقتصادية، كجزئين مكونين لمجتمع رأسمالي واحد. فلا يستطيع البرجوازيون العيش والإثراء إذا لم يتوفر لهم العمال المأجورون ، كما لا يستطيع البروليتاريون العيش إذا لم يعملوا عند الرأسماليين . ويعني قطع الروابط الإقتصادية بينهما توقف كل إنتاج، وتوقف كل إنتاج يؤدي إلى موت المجتمع، وموت الطبقات نفسها. ولهذا ندرك أن ليس هناك من طبقة تريد الهلاك. ولا يمكن للنضال الطبقي، مهما اشتد، أن يؤدي إلى انحلال المجتمع .
4 – وحدة التكوين النفسي والثقافي
تتيح لنا المادية الجدلية لأن ندرك أن وحدة الظروف الحالية الدائمة تؤدي إلى خواص نفسية مشتركة بين أعضاء أمة من الأمم.
فالأمة هي وحدة تكوين نفسي. فهناك خلق قومي يميز كل أمة عن الأمم الأخرى، وأصل هذا الاختلاف أن كل شعب يحيا، منذ أمد طويل، في ظروف خاصة, كما يجب أن نشير إلى أن وحدة اللغة تولد بالضرورة، مع مرور الزمن، خواص نفسية مشتركة.
ويجب أن لا نخلط بين الأمور الفكرية والأمور النفسية إذ أن الطبقات، التي تناضل فيما بينها، نظريات فكرية متعارضة، ولكنه يوجد مع ذلك، معالم خلقية خاصة بالفرنسيين، في مجموعهم. كحدة الذهن، مثلا، والميل للأفكار الواضحة. كما أن حب الحرية قوي بين الشعب الفرنسي ويفسر هذا بتقاليدهم الثورية القديمة.
تجد وحدة التكوين النفسي أسمى تعبير عنها في وحدة الثقافة. إذ لكل أمة تراث ثقافي يعكس صورتها. ولتوجد هذه الوحدة الثقافية رابطة قوية بين أعضاء الأمة.
تعترف الشعوب بقيمة التراث الثقافي كعنصر من عناصر الوحدة القومية. فانجلترا هي شكسبير، ونيوتن، وكبار الرسامين. وفرنسا هي فولتير، وباستور، والكاتدرائيات، وقصور اللوار. وألمانيا هي جوته، وسمفونيات بتهوفن. وروسيا هي بوشكين، وتولستوي، وبافلوف، وغوركي.
وتدافع كل أمة، في محافظتها على ثقافتها، عن وجودها المادي كأمة بصورة غير مباشرة. وهكذا يقف إشعاع باريس وروما الثقافي حجر عثرة في وجه "الحرب في أوروبا" التي يحلم بها زعماء واشنطن. لأنهم لا يعرفون ولا يحبون سوى الدولار، بينما يتفق ملايين الناس، من مختلف المعتقدات، في جميع أنحاء العالم لمنع حرب تقضي على روائع وما وباريس، ومن هنا ندرك كيف أن البرجوازية الكبرى الرجعية، في إيجادها لظروف مادية تناقض نمو الثقافة الفرنسية، تناضل موضوعياً، ضد وجود الأمة نفسها. يجعلنا هذا نرى أنه لا يمكننا التكلم عن وحدة ثقافية مطلقة، خارج العلاقات الطبقية حتى إذا ما بلغ النضال الطبقي درجة عالية يضطر الطبقة المستغلة إلى التنكر للمصلحة القومية، نجد أن هذه الطبقة تخرج، عندئذ، وحدة الثقافة. ذلك هو الحال في فرنسا. فلقد خاصمت البرجوازية الرجعية أفضل تقاليد بلادنا الثقافية وتنكرت للمصالح القومية. رأينا ذلك بمناسبة الاحتفال بذكرى الشاعر القومي الكبير فكتور هوجو: فلقد سعت إلى حصر نطاق الاحتفالات بهذه الذكرى لأن أثار فكتور هوجو الصخمة الشعبية في خدمة الحرية والأخاء والسلم، تظهر مخازيها. فلقد رأينا في باريس، عند ساحة فكتور هوجو، سيارة فورد تحل محل تمثال الشاعر. والطبقة الثورية، أي طبقة العمال، هي التي تحافظ على التراث الثقافي.
5 - وحدة مستقرة، تكونت تاريخياً
هذه العناصر المتعددة (وحدة اللغة، وحدة الأرض وحدة الحياة الاقتصادية، وحدة التكوين النفسي والثقافي) لم توجد دائماً. بل تكونت على مدى التاريخ. لأن الوحدة القومية هي ثمرة تاريخية. ولهذا كان أعوان هتلر بين سنتي 1940 – 1944 يشوهون تاريخ شعبنا لإضعاف وعيه القومي.فكانوا يدعون، مثلا، إلى كراهية ثورة 1789، التي لا يمكن فهم التاريخ القومي بدونها، كما أن ذكراها رابط قوي بين الفرنسيين.
وسوف نعود، في القسم الثالث من هذا الدرس , للحديث عن تكوين الأمة التاريخي.
يجب، مع ذلك، كي توجد الأمة، يجب أن تكون الوحدة، التي تكونت تاريخياً مستقرة. ولهذا لم تكن امبراطورية نابوليون الأول أمة، بل كانت مجموعة من الجماعات العابرة التي ترتبط فيها بينما برباط واه" (ستالين). وكانت هذه الإمبراطورية تمتد خارج حدود فرنسا فتشمل ألمانيا وايطاليا وإسبانيا، الخ... هذه الإمبراطورية التي قامت بالسيف زالت بالسيف. غير أن الكوارث الحربية التي قضت عليها لم تقضي على الأمة الفرنسية , ولم يكن بإمكانها أن تقضي عليها وكذلك شأن الأمة الألمانية، إذا أن انهيار هتلر لم يكن يعني نهاية هذه الأمة، كما أن مطالبها بالوحدة شرعية. نستطيع الآن أن ندرك تعريف ستالين المشهور للأمة:
الأمة وحدة مستقرة، تكونت تاريخياً، في اللغة، والأرض، والحياة الاقتصادية والتكوين النفسي، تظهر في وحدة الثقافي .
ب – بعض أخطاء يجب تجنبها
(ا) – تتفاعل العناصر المكونة للأمة. وليس هناك من عنصر يكفي وحده، لتكوين الأمة، ولهذا فأن قصر الأمة على أحد جوانبها موقف ميتافيزيقي. كموقف ارنست رينان، مثلا الذي كان يقول: "الأمة نفس " فكان يجهل الأسس المادية التي بدونها تخلو الأمة الحياة الروحية. وهذا أيضاً موقف النظريين الاشتراكيين الديمقراطيين أوتوبور وسبرنجر الذي حاربه ستالين، فهما يدعيان بأن الأمة تنحصر في وحدة الثقافة. فينكران وحدة الأرض واللغة. ولو أن هذه النظرة المثالية سيطرة لأدت إلى إبعاد الناس عن النضال من أجل الأسس المادية لوجودهم.
(ب) – بعض العناصر في تحديد الأمة المادية: الجنس والدولة. ليس الجنس عنصراً مكونا للوحدة القومية.
الجنس هو جماعة مهمة من الناس لهم أخلاق جسدية مشتركة متوارثة (كلون الجلد والعينين وشكل الوجه) فهو إذن عنصر بيولوجي غير أنه ليس هناك من عنصر بيولوجي يستطيع القيام بدور فعال في تطور المجتمعات لا يمكن فهمه إلا بالوقائع الاجتماعية (كالإنتاج ونضال الطبقات، الخ...) ولهذا نرى أن شعوباً مختلفة بيولوجيا (الروس والصينيون) لهم نمو تاريخي مماثل منذ المجتمع البدائي حتى الرأسمالية والاشتراكية.
يكون اليهود جماعة جنسية، ولكنهم مع ذلك ليسوا أمة. إذ يعيش اليهود الفرنسيون، واليهود الألمان، واليهود الأميركان، الخ... فوق أراض مختلفة، ويتكلمون لغات مختلفة، ويشاركون في وحدات اقتصادية وثقافية مختلفة فهم إذن أعضاء في أمم مختلفة. أما دولة إسرائيل، فهي ليست "دولة يهودية" لأنها تضم عدداً كبيراً من العرب.
الأمة الفرنسية مزيج من أجناس متعددة، وقد مثل هذا المزيج عيد "الاتحاد" في14 تموز سنة 1790، فقد اعترفت العناصر الجنسية المختلفة (النورمان، الباسك، التريتون، البرفنسيون) بأنها أعضاء من وحدة قومية هي ثمرة للتاريخ. ولقد قام الإقطاعيون" أعداء الأمة، بالحديث عن الدم ضد الوطن، للمحافظة على امتيازاتهم. ولم يكن لهذه الامتيازات ما يبررها سوى الوراثة. ويمكن القول أن ثورة 1789، في فرنسا، كانت انتصاراً للحقيقة القومية على المبدأ العنصري.
العنصرية هي عدوة الأمم. ولقد دلل على ذلك الهتلريون، الذين كانوا يدعون أنهم شعب مختار" ويدوسون بأرجلهم استقلال الشعوب، بصورة دموية. وسار على غرارهم الأميركيون في كوريا. وتنمي البرجوازية الكبرى الاستعمارية، في البلاد الرأسمالية، الأفكار العنصرية، محاولة تبرير سياستها العدائية، ولكي تؤلب الشعوب كل منها ضد الآخر. وهذا هو شأن الدعايات الاستعمارية: فهي تريد أن توهم العمال الفرنسية، كي تبرر استغلال الشعوب المضطهدة، أن الإفريقيين الشماليين وسكان مدغشقر والفيتناميين، الخ... هم من أقل الأجناس. غير أن العمال الفرنسيين يلاحظون أن أولئك الذي يأبون على المراكشيين أو الجزائريين والفيتناميين استقلالهم هم أنفسهم الذين يضحون باستقلال الأمة الفرنسية من أجل الأميركان الاستعماريين.
وليست الدولة عنصراً مكوناً للأمة، فقد قلنا سابقاً أن إمبراطورية نابوليون (أي دولة نابوليون في الواقع) كانت مجموعة غير مستقرة، عابرة – كما أن وحد الدولة المستقرة لا تكون الحقيقة القومية، فقد كانت دولة القياصرة قوية مستقرة خلال قرون عدة، ولكن الأمم التي كانت تحكمها كانت متعددة، وكانت أكثر استقراراً منها، لأن الدولة القيصرية قد زالت، بينما ظلت هذه الأمم، داخل دولة جديدة، متعددة القوميات، وهي الدولة السوفياتية. يمكن إذن أن توجد دولة مكونة من عدة أمم.
كما يمكن أن توجد دولتان لأمة واحدة: فقد وجد في فرنسا، عام 1871، وجها لوجه، سلطتان للدولة: الكومون، وهي سلطة العمال، ومجلس فرساي، وهو سلطة البرجوازية (ليرجع القاريء إلى الدرس الثاني والعشرين، بصدد محتوى الدولة الطبقي). تدافع الدولة، في مجتمع منقسم إلى طبقات متعارضة، عن مصالح الطبقة السائدة، وأن ادعت أنها تتكلم باسم "المصلحة العامة".
أن إدخال الدولة في تحديد الأمة، يعني حرمان الأمة المضطهدة (أي التي تفتقر إلى دولة مستقلة) من لقب الأمة. (ويفضي بنا هذا إلى تبرير الاضطهاد الذي تذهب ضحيته البلدان التابعة والمستمرة). كما أن إدخال الدولة في تعريف الأمة يعني رفض لقب الأمة لمختلف الأمم التي تكون الاتحاد السوفياتي: فقد أقامت هذه الأمم لنفسها دولة مشتركة دون أن تسيء بشيء إلى أصالتها القومية:
من المهم جداً إذن أن لا نخلط بين الدولة والأمة. فإيجاد "وحدة سياسية أوروبية" لن يستطيع توليد "أمة أوروبية"!
وإذا كانت الدولة ليست عنصراً مكوناً للأمة، فانها مساعد قوى على نمو الأمة، ولهذا تطالب الأمة التي يضطهدها المستعمرون بدولة قومية ضد الدولة الاستعمارية الأجنبية.
يتبع