حين يَتولى مُنصفون مهماتٍ


عبدالحميد برتو
2024 / 3 / 25 - 17:42     

وجدت مواقف وصفات مشتركة بين شخصيتين دوليتين هامتين. تفصل بينهما عقودٌ مديدة من الزمن، لكنهما توليا ذات المسؤولية الدولية الهامة ـ (منصب الأمين العام لمنظمة الأمم المتحدة)، هما: داغ همر شولد، وهو ثالث أمين عام للمنظمة الدولية و أنتونيو غوتيريش الأمين العام الحالي و العاشر في تولي هذا المنصب، منذ تأسيس المنظمة في 24 تشرين الأول/ أكتوبر 1945. حمل الرجلان خصائص متشابه في النظر الى مسألة العدالة الدولية. وقد تميّزا عن نظرائهم بإحترام العلانية، فيما يتعلق بالمخاطر، التي تحيق بالأمن والسلام والإستقرار الدولي. الأول أغتيل، ويواجه الثاني حملات ظالمة.

كان وما يزال من المؤمل والمرتجى، أن تلعب المنظمة الدولية دوراً أكبر، و أن يكون دوراً إيجابياً وحقيقياً في الحياة الدولية. لكن ما شل و يشل دورها و دور المنصفين فيها، هو الإستخدام الفج وغير المنصف لحق النقض (الفيتو) في مجلس الأمن الدولي، خاصة من جانب الولايات المتحدة الأمريكية والمملكة المتحدة.

داغ همر شولد

في بداياتِ تَعرّفي على الحياة السياسة الدولية، سطع في عالمي حدثُ إغتيال داغ همر شولد الأمين العام لمنظمة الأمم المتحدة. وقع الحادث في مرحلة، كانت تشهد نهوضاً كبيراً في صفوف حركات التحرر الوطني العالمية. كُنَّا لا نحتاج الى أي تحريض، لنشك بدور القوى الإمبريالية في الحادث أو بقية الحوادث الهامة الأخرى، خاصة حين يسود الغموض حولها. كانت القوى الإمبريالية حينها أقل صلافة، على الأقل من ناحية التعبير اللغوي عما تريد، مما هي عليه اليوم. ذلك بسبب وجود حالة من التوازن الدولي، أو أقلها لا تشعر أي حركة من حركات التحرر الوطني، بأنها مستفرد بها، كما الحال اليوم.

تَخَلَّدَ هذا الرجل في ذاكرة الأجيال التي زامنته. وهو لم يزل يمتلك حضوراً واسعاً بين المهتمين في الشؤون الدولية. ومما عزز تلك التقديرات وجود تكامل وتناسق بين شخصيته وخصائصه الإنسانية وبين سلوكه السياسي الفعلي. أعطاه وأكسبه هذا الحال درجة عالية من المصداقية والإحترام. إن صراحة أي مسؤول على أي مستوى تكسبه إحترام وتقدير الناس، خاصة إذا كان تلك الصراحة تحمل خطراً ما على صاحبها.

داغ همر شولد (1905 - 1961) هو اقتصادي سويدي. ثاني أمين عام للأمم المتحدة في تاريخ المنظمة الدولية. تولى منصبه الدولي لدورتين حتى أغتياله في 18 سبتمبر 1961 بحادث تحطم طائرته في الكونغو، خلال مهمة دولية له بافريقيا. ظلت ظروف مقتله غامضة الى يومنا هذا. لم يسفر التحقيق عن نتيجة تزيل الغموضَ، الذي إكتنف مقتل هذه الشخصية الدولية. فُتح التحقيق غير مرة آخرها كان عام 2019. ظلت فرضية تعرض طائرته لهجوم جوي قائمة. يُذكر أن المحققين عبروا عن استيائهم من عدم تعاون الولايات المتحدة وبريطانيا معهم.

نال هذا الرجل قوة وهيبة على المسرح الدولي، نتيجة لموقفه المنصف والشجاع ضد العدوان الثلاثي (البريطاني، الفرنسي و إسرائيل) عام 1956 على مصر. شُنَّ العدوانُ تحت شعاراتٍ خادعة، كما حال عدوان اليوم على الشعب الفلسطيني. دعا همرشولد مجلس الأمن للانعقاد. قال كلمة صارمة و موجزة: "إن مبادئ ميثاق الأمم المتحدة أهم بكثير من الأهداف السياسية لأي دولة، وأن هذه المبادئ هي مرجعه الأول والأخير، فيما يحق له أن يفعله، وليس في إمكان الأمين العام القيام بعمله، الإ إذا حافظت كل دولة من الدول الأعضاء على شرف تعهدها باحترام ميثاق الأمم المتحدة".

أنتونيو غوتيريش
ولد أنتونيو غوتيريش في 30 نيسان/ أبريل 1949. هو مهندس، أستاذ مساعد، شريك منتدى دولي، دبلوماسي ورئيس وزراء البرتغال من 1995 حتى 2002. كما تولى لفترة رئاسة الأممية الاشتراكية. يجيد إضافة للغته الأم ـ البرتغالية، كلاً من: الإنجليزية، الإسبانية والفرنسية. نال العديد من الجوائز الدولية، منها: جائزة الحرية (2007)، كارلسبريز (2019)، نيشان الاستحقاق للجمهورية الإيطالية من رتبة الصليب الأعظم، وسام نجمة رومانيا، الوشاح الأكبر لرهبانية الشمس المشرقة، نيشان الأمير ياروسلاف الحكيم من الرتبة الأولى، وسام الجمهورية التونسية، الصليب الأعظم لنيشان الشرف و نيشان العقاب وغيرها الكثير.

تولّى منصب الأمين العام للأمم المتحدة منذ 1 كانون الثاني/ يناير 2017 خلفاً لبان كي مون. كما سبق له أن شغل منصب المفوض السامي للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين من حزيران/ يونيو 2005 حتى كانون الأول/ ديسمبر 2015.

خلال فترة رئاسته للحكومة البرتغالية، إحكم قبضته على الميزانية والتضخم. حقق زيادة في معدلات المشاركة بسوق العمل، خاصةً بين النساء. حَسَنَّ وسائل تحصيل الضرائب. إتخذ إجراءات صارمة ضد التهرب الضريبي. زاد مشاركة القطاعات المشتركة والطوعية في تقديم خدمات الرفاه. ورفع معدلات الاستثمار في التعليم. نتيجة لذلك نال غوتيريش شعبية كبيرة منذ بداية توليه منصب رئيس الوزراء. وعلى الرغم من موقف حزبه من قضية إزالة المثلية الجنسية، من قائمة الأمراض العقلية، من قبل منظمة الصحة العالمية عام 1990، صرّح غوتيريش بأنه «لا يحب المثلية الجنسية» وأنها موضوع "يثير إزعاجه".

صدرت تصريحات نبيلة وجريئة للأمين العام الحالي للأمم المتحدة حول ما يجري في غزة وأسبابه الواقعية، منذ اليوم الأول للعدوان. وصف واقع الحرب العدوانية على غزة بـ: أنها عملية إعدام شعب، حيث الهدف الرئيس والمخفي لها، هو طرد الشعب الفلسطيني. يجري ذلك بدعم وتستر الغرب على هذه الجريمة. أشار في رسالته إن المساعدات الإنسانية التي تمر عبر معبر رفح غير كافية. وأن الأمم المتحدة غير قادرة على الوصول إلى من يحتاجون المساعدات داخل غزة. وأضاف "قُوضت قدرات الأمم المتحدة وشركائها في المجال الإنساني بنقص التموين ونقص الوقود وانقطاع الاتصالات وتزايد انعدام الأمن".

كان الأمين العام لمنظمة الأمم المتحدة الحالي مدركاً، بعمق لجذر المأساة الفلسطينية، حيث نبه الى حقيقة حيوية وهامة. ذلك حين رفض النظر الى يوم 7 أكتوبر 2023 كبداية الحرب الحالية، أو حدث منفصل عن مجمل نضال الشعب الفلسطيني. أكد بأن المحنة لم تبدأ في ذلك اليوم، وهي ليس منعزلة عن مجمل الوضع الفلسطيني. ودعا الى حل عادل للقضية الفلسطينية.

استخدم الأمين العام للأمم المتحدة المادة 99 لأول مرة خلال ولايته، مما أثارت غضب إسرائيل. تُمَكِنُ هذه المادة الأمينَ العامَ من دعوة مجلس الأمن للإنعقاد، عند وجود مخاطر على الأمن والسلم الدوليين. كما حث أعضاء مجلس الأمن الدولي على ضرورة "تجنب وقوع كارثة إنسانية" في القطاع المحاصر. يرى بإن الصراع خلق معاناة إنسانية مروعة ودماراً مادياً وصدمة جماعية. كما قال المتحدث باسمه ستيفان دوجاريك، في بيان: هناك "خطرًا متزايدًا بوقوع جرائم وحشية" في غزة.

وصل غضب إسرائيل الى أبعد الحدود، إذ قال سفيرها لدى الأمم المتحدة جلعاد إردان: إن غوتيريش "بلغ مستوى جديدا من التدني الأخلاقي" لاستخدامه المادة 99. وكرر دعوته للأمين العام إلى الاستقالة على الفور. كما دعا وزير الخارجية الإسرائيلي إيلي كوهين إلى استقالة غوتيريش، قائلا إن ولاية الأمين العام للأمم المتحدة "تشكل خطرا على السلام العالمي".

المجدُ لِمَنْ صَاغَ هذا المثل: "مَا أَشْبَهَ اللَّيْلَةَ بِالبَارِحَةِ". كم هو منطبق على السياسة الغربية وعلى المتقولين من كل الأصناف. يظل للشعوب وللمنصفين منطقهم الخاص وإرادتهم الصبورة والمتوثبة، حتى ولو بدت ثملة لبعض الوقت وفي بعض المنعطفات.

ليس أمامي أو بيدي شيئاً إقدمه في الختام غير الشكر، الإعتزاز، الإشادة والعرفان بالمواقف الشريفة لـداغ همر شولد الإنسان، والتحية للذكرى العامرة لرحيله إغتيالاً، لقد توخى العدل في الحياة الدولية، فقدم نفسه قرباناً نبيلاً. أذكر الموقف ذاته لأنتونيو غوتيريش، الذي يصر على قول الحقيقة، في زمن أصبح فيه للكذب فلسفة مبطنة. كما يَوْسُمُ الإنصاف بالعقيدةِ الجامدة، بل يتهم أحياناً بالتخلف "الحضاري". غوتيريش أدرى من غيره بما يحمله موقفه المُتَوخي للحقيقة من مخاطر عليه. لقد تحول الرجل مع سابقه في المهمة الدولية داغ همر شولد الى نجمين ساطعين في الفضاء الجميل، لعالم الدفاع عن الحقيقية ضد صناعة الكذب.